صحابة أقباط: هل كان هنالك مصريون بين الصحابة؟
في العام 19هـ اكتسح الصحابي «عمرو بن العاص» أراضي مصر دون أن يتمكن المقوقس وجيوشه الرومية من إيقافه، وهو أمر تجلَّت به الغرابة؛ لأن ابن العاص دخل مصر بأربعة آلاف مقاتل فقط، زيدت بعدها إلى ثمانية، فيما امتلك الروم عشرات الآلاف من الجند ومئات المواقع الحصينة.
يذهب كثير من المؤرخين إلى أن أحد أهم أسباب النجاح الإسلامي يرجع إلى تحالف أهل البلاد من الأقباط مع الفاتحين الجُدد وترحيبهم بهم[1]؛ رغبةً في الخلاص من بطش إخوانهم في الدين المارقين به، وهي إجابة استدعت سؤالًا عن مدى قُدرة عمرو بن العاص وقادته على التواصل مع أصحاب الأرض بفاعلية تكفل تعاونًا حميميًّا قهَرَ إحدى قوى العالم العظمى حينها.
في إطار خلافه الشهير مع الأنبا بيشوي مطران دمياط الأسبق، عقب تصريحات الأخير بأن «المسلمين ضيوف على مصر»، نظَّم الدكتور محمد سليم العوَّا سلسلة لقاءات جمعها في كتاب «محاضرات في الفتح الإسلامي لمصر»، أكد فيه أن عددًا من الصحابة الأقباط الذين أسلموا قبل الفتح كانوا ضمن جيش عمرو، وأنهم كانوا حلقة الوصل بينه وبين الأهالي.
وفي روايته «رحلة الدم»، قدَّم الصحفي إبراهيم عيسى شخصية صالح القبطي، وهو تاجر مصري آثر الخروج على خُطى الرَّكْب الذي اصطحب السيدة مارية وهدايا المقوقس إلى النبي، حيث قابله بمكة وأسلم على يديه، وإن كان عيسى أضاف أبعادًا كبيرة للشخصية من نسج الخيال، إلا أن لها أساسًا صغيرًا بكتب التاريخ التي تحدثت عنه بفقرة واحدة مبتورة من سطر واحد، تكاد تكون موحَّدة بصيغتها في معظم المراجع: «خرج مع مارية، يعني من مصر إلى المدينة، ولم يهده المقوقس، وإنما كان أتبعها من قريتها»[2]، ولذلك اعتبره ابن الأثير من الصحابة.
كما كشف العوا في كتابه عن صحابي قبطي آخر عرَّفه بِاسمه فقط: «رقب المصري»، ورد ذِكره في كتب التاريخ على أنه «ركب» وليس «رقب»، روى عن النبي حديثًا واحدًا هو: «طوبى لمن تواضع في غير منقصة …»[3].
ليس كل «المصريين» من مصر
لم يكن زياد بن عبد الله القبطي ولا عبد الملك بن عمر القبطي مصريين، بالرغم من اقتران اسميهما بهذا اللقب.
يوضح ذلك أبو سعد السمعاني في كتابه «الأنساب»، فالعرب لم يقتصروا في منح لقب «قبطي» بحكايات التاريخ الأولى على أهل مصر وحسب، بل امتدَّ وتشعَّب لأبناء أحد بطون حمير يُدعى «قبط»، كما في حالة صاحب الاسم الأول، أو للثاني الذي نال لقبه لسبب فريد، وهو أنه كان له حصان سبَّاق اسمه «قبطي» لطالما صال وجال به، فعُرف بلقبه في كتب التاريخ.
هذا الإيضاح يمنحنا تفسيرًا منطقيًّا لمروية ابن هشام في سيرته عن «نجار قبطي» لَم يُسمِّه ساعد أهل مكة على إعادة بناء الكعبة قديمًا. ربما يكون هذا الرجل مصريًّا بالفعل، إلا أن الأغلب والأكثر منطقية أنه حِميري من أهل الصحراء.
هذا الحذر امتد بنا في عمليات الغربلة التاريخية إلى لقب «مصري» ذاته، بعد أن توسعت بعض كتب التاريخ في إطلاقه على كل من نزل بمصر وسكن فيها لمدة، وإن لم يكن من أهلها.
وعلى ذلك، فليس كل صحابي اقترن اسمه في المرويات بلقب «قبطي» أو حتى «مصري» يمكن اعتباره مباشرة من أهل مصر، وإنما يحتاج الأمر لمزيد من البحث في تفاصيل سيرته.
الصحابة الأقباط
أشمل تعريفات الفقهاء لمن هو الصحابي أنه «مَن لقي النبي (صلى الله عليه وسلم) يقظة، مؤمنًا به، بعد بعثته، حال حياته، وطالت صحبته، وكثر لقاؤه به، على سبيل التبع له، والأخذ عنه، وإن لم يروِ عنه شيئًا، ومات على الإيمان»[4].
التدقيق في حياة جميع هؤلاء الوارد أسماؤهم والمتناثرة تفاصيلها الشحيحة هناك وهناك في جنبات كتب التاريخ والمرويات، فإننا نكتشف أن الشروط الفقهية الصارمة انطبقت جميعًا عليهم، وبالتالي استحقوا جميعًا اللقب الثمين، نستعرض هنا ما أمكن الوصول إليه منهم ومن سيرهم.
1. يعقوب القبطي
كان من ضمن هدايا المقوقس إلى الرسول، وفَدَ إلى المدينة بصحبة مارية، أسلم وعاش في كنف بني فهر. مات في أول أعوام إمارة الزبير بن العوام، ويُعرف أيضًا في كتب التاريخ بـ «يعقوب الفهري»[5].
في كتابه «تاريخ المصريين والغرباء» ينقل ابن يونس حديثًا عن حفيد يعقوب، وهو الفقيه إبراهيم بن مسلم بن يعقوب، يحكي به أن جدَّه قابل النبي في المدينة، وصلَّى وراءه الصبح، فما سمع قط أفضل من قراءته.
لم يثبت أنه شارك بفتح مصر، وإنما أرفقه السيوطي بكتابه «حسن المحاضرة في تاريخ مصر» ضمن الصحابة الذين وفدوا عليها دون تحديد إن كان ساهم بالقتال أم أتى بعد استتباب الأمر. وورد اسمه بواقعة أخرى في كتب التاريخ، بعدما انتقلت مِلكيته للصحابي أبي مذكور الأنصاري الذي وعده بعتقه «عن دبر»، أي في أواخر حياته، ولما آن أوان الوفاء بالوعد احتاج أبو مذكور لأموال فباعه إلى صاحبي آخر هو نعيم بن النحام بثمانمائة درهم، وهو فِعل أقرَّه الرسول[6]، وحتى هذه الواقعة لا يمكننا أن نؤكد بشكل قاطع أن صاحبها هو هدية المقوقس، بعدما زعمت بعض كتب المرويات أن بطل هذه الرواية شخص آخر وافقه في الاسم.
2. أبو رافع مولى الرسول
لا تخبرنا كتب التاريخ كيف أصبح رجل «من قبط مصر» كما يصفه الذهبي بكتابه «سير أعلام النبلاء» عبدًا للعباس عم النبي، لكن ما نعلمه عنه أن اسمه «إبراهيم» أو «أسلم»، وكان يُكنَّى بـ«أبي رافع». كان ملكًا للعباس الذي وهبه للنبي عام 2هـ، ولمَّا بشر الرسول بإسلام عمه أعتقه.
زوَّجه الرسول من مولاته سلمى، فأنجبت له «عبيد الله». أسلم قبل موقعة بدر وإن لم يشهدها، لكنه بداية من «أحد» حضر جميع الغزوات. وأغلب الظن أنه هو المولى القبطي الذي لم تسمِّه الرواية التاريخية التي حكت عن شجار بينه وبين قرينه الحبشي، وكلاهما مملوكان للرسول، وتسابَّا حتى سمعهما النبي يفخر كل منهما بأصله، فنهاهما النبي عن ذلك قائلًا: «لا تقولا هذا، فإنما أنتما رجلان من آل محمد»[7].
تولَّى بيت مال الكوفة في عهد علي، كما عَمل ابنه كاتبًا للإمام، وحضر فتح مصر ونال فيها خطَّة (أي حيازة أراضٍ وممتلكات عقارية).
روى بعض الأحاديث عن النبي وعن عبد الله بن مسعود، ويعتبره الشيعة أول من سعى لحفظ سُنة الرسول من الضياع بتأليفه كتابه «السنن والأحكام والقضايا»، كما يمنحونه عددًا من أدوار البطولة في نصرة الإمام علي ونسله من آل البيت[8].
توفي عام 40هـ وفقًا لما قاله البخاري، أو 35هـ كما ذكر الواقدي.
3. جبر بن عبد الله
كان أحد رفقاء وفد مارية الذي اصطحبه حاطب بن أبي بلتعة إلى النبي. عُرف بـ «القبطي»، ووهبه الرسول لأبي بصرة الغفاري، فبات مولى له وعاش في خدمته حتى مات سنة 36هـ[9].
وروى السيوطي عن عالم الحديث المصري الشهير سعيد بن عفير أنه بسببه كان «القبط تفخر بأن منهم من صحب النبي».
4. خنيس أو خليد
يحكي كتاب «أسد الغابة» عن رجلٍ صحب الرسول «من أهل مصر»، كان اسمه خُليد (خنيس)، انفرد بترتيب غريب لصلاة الجنازة، فكان يجعل الرجال من وراء النساء، ويجعل الناس مما يلي الإمام مباشرة، خلافًا لما هو شائع.
5. سيرين
جاءت أيضًا بصحبة مارية أختها، وقيل إن اسمها «طرية». وهبها النبي لحسان بن ثابت، وأنجبت له عبد الرحمن الذي روى عنها حديثًا حكت به تفاصيل وفاة ابن الرسول إبراهيم، وكيف أن الرسول نهاها هي وأختها عن الصياح، وأن الشمس كسفت يومها، فاعتبرها الصحابة حزينة لوفاته، فردَّ عليهم بأنها: «لا تكسف لموت أحد ولا لحياته»، وهو الحديث الذي كانت نهايته الأثر الشهير: «إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملًا أن يتقنه»[10]. كما حكى الأصفهاني في كتابه «الأغاني» موقفًا آخر جمعها بالنبي، أنه مرَّ بها حينما كانت فيه تغنِّي لزوجها قائلة: «هل عليَّ ويحكما … إن لهوت من حرج»، فتبسَّم، وأجابها مازحًا: «لا حرج إن شاء الله».
6. مأبور
هو أيضًا كان أحد هدايا «المقوقس»، وأجمعت كتب التاريخ على أنه كان يرتبط بصلة قرابة مع مارية، وإن اختلفوا في تحديدها. ذُكر اسمه في واقعة خطيرة عندما اتُهم بأنه على علاقة بمارية، وأنه سبب حملها في ابنها إبراهيم، فأرسل النبي إليه عليًّا كي «يضرب عنقه»، فلما لاقاه اكتشف أنه مجبوب (مخصي)[11].
- عبد الشافي محمد، السيرة النبوية والتاريخ الإسلامي، دار السلام، ص227.
- الإصابة في تمييز الصحابة (3/ 233)
- أبو نعيم في «معرفة الصحابة».
- علي بن نايف الحشود، شبهات الرافضة حول الصحابة، المكتبة الشاملة.
- تاريخ ابن يونس
- صحيح مسلم
- الطبراني في «الأوسط» (8428)
- رجال النجاشي (ص4)
- الاستيعاب في معرفة الأصحاب (1/ 303)
- الطبراني في «الأوسط» (891)
- صحيح مسلم