صافي ناز كاظم: لا أهتم بمقطع «الغي رحلتي» وهذا سبب زواجي من نجم
بالطبع مرّ عليك ذلك المقطع عشرات المرات على صفحات التواصل الاجتماعي الأيام الماضية. انتشر المقطع وحقق ملايين المشاهدات من بين كثير من مقاطع الفيديو المنتشرة بين الشباب والخاصة ببرامج المحاكاة، وارتفع معدل البحث عن اسم «صافي ناز كاظم» بشكل جنوني على «Google Trends».
يحاول الشباب تقمص روح الرفض وعدم الاهتمام والملامح الدالة على قوة الشخصية أثناء تقليد صاحبة الفيديو الأصلي، لكن من النادر للغاية أن يملك أي منهم قوة الشخصية الحقيقية اللازمة ليقول في وجه أحدهم «الغي رحلتي» إذا شعر أنه في موضع لا يليق به.
تملك «صافي ناز كاظم» من التاريخ الثري ما يجعلها ببساطة ترفض أن تتواجد في مشهد لا يروق لها. كما أنها دومًا ما امتلكت قلمًا لاذعًا يصاحبه سرعة بديهة وروح مرحة بلغة عذبة وقدرة دائمة على المواجهة. لذا ربما ينجح البعض في تقليد «صافي ناز كاظم» لكن من النادر أن تتكرر تلك الشخصية المتفردة.
لتلك السيدة تاريخ أهم بكثير من تلك اللقطة، حاولنا أن نسلط الضوء على لمحات قليلة منه. ورغم أنها تمتنع عن إجراء الحوارات الصحفية منذ زمن بعيد، إلا أنها وافقت على اختصاص موقع إضاءات بهذا الحوار، فوجب الشكر على ذلك.
في البداية نود أن نرحب بكم بموقع إضاءات.
لن نبدأ ببيانات ويكيبيديا المعروفة للجميع، ولكن دعينا نسأل: ما التعريف الذي تحب الأستاذة صافي ناز كاظم بعد تلك المسيرة الثرية بالتفاصيل أن تعرف به نفسها؟
أمة الله.
بالطبع الجميع متشوق في البداية لمعرفة تفاصيل اللقاء الذي انتشر مؤخرًا على السوشيال ميديا مع فيصل القاسم وضيفة أخرى. ماذا كانت طبيعة ذلك اللقاء؟
أظن أنه كان عام 1997 حينما تمت دعوتي من قناة الجزيرة بالدوحة للاشتراك في لقاء مع فيصل القاسم، وقتها لم أكن أعلم أي شيء عن القناة وسألت ابنتي نوارة عنها فشجعتني على قبول الدعوة.
لا أذكر الآن سوى أنني كنت مستعدة لحوار جاد حول تعدد الزوجات، وكان ملخص ما قلته هو أن هذه الرخصة بمثابة أبواب الطوارئ في الطائرة موجودة لكي لا تُفتح إلا للإنقاذ.
وما سبب ارتفاع نسق الحوار بهذا الشكل؟
تحدثت بروح طيبة، لكن السيدة «توجان فيصل» لم تفهم مدخلي و صارت تتكلم باستعلاء علماني لم أرتح له. داخلني شعور حينها بأنني وقعت في فخ استفزازي منصوب للخوض فيما لا أحب الخوض فيه، وداهمني شعور بالزهق وحين سمعتها تقول لي: «خلينا نكون مهذبين» حسمت قراري بالنهوض وتركت المكان.
بم تشعرين عند رؤية أي من تلك الفيديوهات التي تحقق ملايين المشاهدات هذه الأيام؟
عدم الاهتمام.
سلوك «الرفض» على الهواء بدون انفعال شديد على شبكة بحجم الجزيرة يحتاج إلى قوة شخصية، ويعطي انطباعًا للمشاهد أنه لم يكن الرفض الأول في حياتك. ما الرفض الآخر الذي لا تنساه أستاذة صافي ناز في حياتها؟
ليست مسألة «رفض»، لكن هو انسحاب واجب من أي مكان لا يليق بي.
كيف تعرفتِ على الشاعر أحمد فؤاد نجم؟ وكيف كانت قصة زواجكما؟
زواجي من الشاعر الفاضل أحمد فؤاد نجم تم يوم 24\8\1972، بعد عام من صدور منعي من النشر 1\8\1971 بقرار من «يوسف السباعي» في بداية حكم محمد أنور السادات، ذلك المنع الذي استمر 12 سنة. قال نجم: «تزوّجيني» فقلت: «موافقة». كان ذلك في أول لقاء لنا 31\7\1972. بين لقائي هذا الأول وعقد القران 24\8\1972 التقيت به ما لا يزيد عن أربع مرات فحسب. كانت معرفتي بشعره ومواقفه ضد المستبدين كافية لي.
ماذا كانت دوافعك لقبول الزواج بهذه السرعة؟
الذي شد أزر قراري بالموافقة هو موقف المعارضة الشديدة التي واجهت ذلك القرار. ليس من جانب أمي وحدها رحمها الله، ولكن من أصدقائي وصديقاتي، الذين تعجبت من اندهاشهم وحثي على الرفض رغم حماسهم البالغ للشاعر المناضل ولفنه المذهل مع صاحبه الموسيقي الملحن المغني الشيخ إمام عيسى.
أليس غريبًا أن تكون معارضة الأهل والأصدقاء أحد دوافع الزواج؟ أم أن قصة الحب كانت أكبر من كل ذلك؟
لم تكن الحكاية قصة غرام بيني وبينه، كما يحلو له أن يقول، لكنها حكاية لا يصدقني فيها أحد لأنها كانت موقفًا شعريًا مني يفوق في جمال دوافعه حكايات الحب المعتادة بين الرجال والنساء. كنت قد انتهيت من قراءة سيرة حياة الشاعر البطل الوطني «عبد الله النديم»، «العودة إلى المنفى» التي كتبها الأديب الأستاذ أبو المعاطي أبو النجا.
بين كل سطر وآخر أجد فيه عبد الله النديم واقعًا في مأزق أو أزمة أو إفلاس أو جوع، مخذولاً مطاردًا محاصرًا أبكي وأقول: «لو كنت أعيش زمنك لنهضت أفديك يا عبد الله النديم». لذا لم يكن غريبًا حين وجدت أحمد فؤاد نجم يسير إلى جانبي مخذولاً مطاردًا محاصرًا، يطلبني للزواج أن أتنبه: «ها هو الشاعر الشجاع صنو عبد الله النديم خارج لتوه من المعتقل منفي داخل الوطن».
هل يمكن أن تصفي لنا أول لقاء بنجم؟
الناقد غالي شكري أمام باب الأتيـليــه، 31\7\1972، يقول لي وللشاعر المسرحي نجيب سرور: «المباحث ألغت ندوة إمام ونجم». فيئز الغضب في صدري وأقول لنجيب: «لا بد أن نذهب إليهما حالاً لنعلن تضامننا معهما». يوافقني نجيب ويصحبني إلى الغورية ومنها نخترق الحارة والعطفة إلى حوش قدم ونصعد السلم المعتم لأجد نفسي في غرفة مكدسة باللوحات والألوان، تخص صاحب الغرفة الفنان التلقائي محمد علي، وهو الضلع الثالث في هذا الكيان الفني.
الشاعر النحيل يجلس على شلتة على الأرض وأمامه على الأريكة الخشبية المغني الملحن الضرير يحتضن عوده. يتم الترحيب المتبادل وأجتهد لكي أعبر لهما عن عمق احترامي وإجلالي لهما ولفنهما الباسل من دون أن أنزلق إلى المستهلك والركيك. أعجبني من الشاعر والشيخ أنهما كانا ضاحكين لا مباليين كأنهما لم يكابدا أي لسعة من لسعات الشقاء. لم ألبث طويلًا وحين تهيأت للذهاب أصر نجم على توصيلي إلى شارع الأزهر وكان قوله المفاجئ التلقائي: «ماتتجوزيني!».
داهمني للوهلة الأولى إحساس بالورطة آذيت بسببه نفسي باللوم: «أفندم يا ست صافي؟ كنت تبحثين عن عبد الله النديم لتفتديه، وها هو أمامك بشحمه ولحمه؛ الشاعر الذي يعطي ولا يأخذ، الذي كلما اشتد ساعده في العمل كان أجره السجن والاعتقال والتجويع، الشاعر الذي صاح في زمن الكبت والخرس بعد هزيمة 5\6\1967، الشاعر الذي بحق لم يبع شبرًا ولم يخضع لضيم».
استمر لومي لنفسي على هذا المنوال حتى وصلت إلى: «هذا الشاعر يحتاج لمن يعتني به ويحافظ عليه ويرممه؛ يقص أظافره (عانى نجم من ذلك بالذات كثيرًا!)، ويأخذه لطبيب العيون لأنه يحتاج نظارة قراءة، ويحضر له كمية هائلة من الصابون والفنيك وفرشاة مسح بلاط وتنظيف المكان كل أسبوع على الأقل، يحتاج لسرير ومرتبة ووسادة، وطعام وفق نظام غذائي متوازن، هذا شاعر النبض الشعبي وضعه الله أمانة في عنقك إذا كنتِ حقًا مستعدة للفداء كما تزعمين!».
تم اعتقالكِ ثلاث مرات في عهد السادات، أيها كانت الأكثر صعوبة بالنسبة لكِ؟
في المعتقل تبين لي أنني أنتظر حادثًا سعيدًا وجاء الإفراج عني في شهر حملي الأخير، ليرزقني الله بابنتي الغالية نوارة الانتصار أحمد فؤاد نجم، في فجر اليوم الثالث من معارك تحرير سيناء 8 أكتوبر 1973، وليكرمني الله بجعلها من الملايين الذين شاركوا في نصرة ثورة الشعب المصري 25 يناير 2011 بميدان التحرير.
دخل نجم السجن بعد زواجنا بأربعة أشهر 29\12\1972، ومعه الشيخ إمام ومحمد علي الرسام، وشاركت في اعتصام طلبة جامعة عين شمس يناير 1973 احتجاجًا على كذب شعارات الديمقراطية التي رفعها أنور السادات.
كانوا طلبة وكنت صحفية كاتبة ناقدة ممنوعة من النشر، ذهبت إلى اعتصامهم أقول إنني لا أملك أن أساندهم بقلمي ولذلك فإنني بانضمامي إلى اعتصامهم السلمي، الذي هو حق من حقوقنا الدستورية، أكون قد قمت بواجبي الصحفي الشريف. استمر الاعتصام بقصر الزعفران في قلب الجامعة من أول يناير 1973 حتى التاسع منه عندما اقتحمته قوات الأمن المركزي بقيادة اللواء أحمد رشدي، وتم القبض عليّ مع الطلبة والطالبات بتهمة الاندساس بين صفوف الطلبة لإثارتهم وتحريضهم على قلب نظام الحكم. (في المعتقل كنت أنادي الطالبات مزاحًا: يا بنات في تفتيش اللي قالبة نظام الحكم تعدله فورًا!).
المرة الثانية التي اُعتقلت فيها كانت نوارة رضيعة وكانت هذه أقسى مرة على نفسي وأكثرها إيلامًا؛ لأنني لم أكن قد فطمتها بعد. أما الثالثة كان عمر نوارة ثمان سنوات واحتفلنا بعيد ميلادها داخل المعتقل.
صورة شهيرة لحضرتك تتوسطين فيها محمود درويش وعبد الرحمن الأبنودي، احكي لنا عن ذلك اليوم.
تلك كانت جولة فبراير 1971 أخذت فيها محمود درويش الغورية وأنحاء أخرى في القاهرة التي كانت أول مدينة عربية يزورها بعد خروجه من فلسطين المحتلة، ونشرت تفاصيلها بمقال مصور تحت عنوان: «قال للناس حوله كل شيء سوى الندم».
تلابيب الكتابة ويوميات بغداد وتاكسي الكلام وصنعة لطافة وغيرها من الكتب التي أمتعتِ جمهوركِ بها خلال مسيرتك. أي من كتبك هو الأقرب لقلبك؟ ولماذا؟
جميعها.
حصلتِ على ماجستير في النقد المسرحي من نيويورك عام 1966، وقلتِ قبل ذلك إنكِ أقدمتِ على تلك الخطوة بدافع حبك لمصر. كيف؟
أنا من جيل لم يكن يسأل: «ماذا أعطتنا مصر بل يبحث ماذا سنعطي لمصر». حقيقة وليست مجرد جملة في أغنية، لذلك بحثت وسألت مجموعة من المسرحيين الكبار مثل بديع خيري وغيره: «هل لدينا ناقد مسرحي لا يخلط بين النقد المسرحي والأدبي؟» وجاءت الإجابة من الجميع: «لا»، فعقدت العزم على السفر إلى أمريكا لدراسة هذا التخصص والعودة إلى مصر بما ينفعها.
بعد العودة عملتِ بمجال النقد المسرحي بمجلة المصور لمدة 5 سنوات، ثم كان الصدام مع يوسف السباعي. ماذا حدث؟
وجودي بين من يكتبون عن المسرح وقتها كان كوجود طبيب في وسط حلاقي صحة. كنت أنا الطبيب، فكان طبيعيًا أن أحارب من الجميع. زاد الوضع سوءًا عندما جاءنا الأستاذ يوسف السباعي رئيسًا لمجلس إدارة دار الهلال ورئيسًا لتحرير المصور بدلاً من الأستاذ أحمد بهاء الدين الذي كان سبب وجودي بالمصور وكان يقدر عملي.
وحين توفي عبد الناصر وجاء السادات عصف بي السباعي عصفًا شديدًا حتى أنه قال لي: «العجرفة اللي عندك سأضع حدًا لها وسأمرغ أنفك بالتراب». وكان يكتب تقارير للأمن تحرض على اعتقالي.
كيف تجدين حالة المسرح العربي في المائة عام الأخيرة؟
أراها ثرية مليئة بالإنجازات.
ما المسرحية العربية الأفضل في التاريخ من وجهة نظرك؟
نتجنب أفعل التفضيل، لكن من العروض التي أحبها: «آخر أيام سقراط» لمنصور رحباني.
لماذا تمتع فنانو مصر قديمًا بحد أدنى من الثقافة والذكاء الاجتماعي لم يعد موجودًا في فناني اليوم في مصر؟
أرى أن ذلك حكمًا غير دقيق. دعنا نقول إن لكل مرحلة ناسها.
الأستاذة صافي ناز كاظم، شرفنا بإجراء هذا الحوار مع حضرتك ونشكرك لاختصاص موقع إضاءات به.
العفو، بالتوفيق.