طفولة مُشوّهة – قصة قصيرة
أنا؟ منْ أنا؟ منْ أكون؟
تُصيبني حالة مستعصية من السكون والجمود كلما حاولت أن أجيب عن هذه الأسئلة. أنا شيء ما، أو ربما شخص ما. شخص لم يتسنَ له أن يجد أجوبته، ولم يكن سوى عابر سبيل في هذه الدنيا، عابر سبيل منبوذ لم يعثر على حس الانتماء الذي يبحث عنه كل إنسان على وجه البسيطة.
تراودني أسئلة لا أكاد أجد لها أجوبة: ماذا لو ظل الوجود البشري غير مُبرر؟ وماذا لو لم نفهم لما جئنا على هذه الأرض أو لم نتفق على أفكار مُجردة وقيم مشتركة؟ ماذا لو لم نُفلح في النجاة من خطر التفرقة والعداوة بين بني الإنسان؟ وماذا لو تعلمنا حب الحياة دون الحاجة إلى فهمها أو التحليل الممل لكل ما يحصل في خضمها؟
علّمني التخبط في دهاليز الأسى ألّا أحلم كثيراً، أن أعيش الحياة رويداً رويداً، وأختبئ خلف الكلمات التي تخفي بقدر ما تبوح. لهذا كنت دائماً ممّن يرضون بالقليل ويجدون في الهدوء والرتابة المملة شاعرية لا مثيل لها، أنوء عن العالم بأحزاني وأتخذ قلمي ملجأً من كل هذا، لأُقدِّم لنفس العالم الذي تمادى في أذيّتي ما خطّته يدي وأبدعه ألمي، مُتحدياً شره المطلق.
ينتفض البشر في وجه صفة الحيوانية، إذ يصفهم الفلاسفة بها، لكنهم مهما حاولوا التنصل من الطبيعة والغريزة فإن حيوانيّتهم تظهر في أوقات تسقط فيها أقنعة التحضر ويندثر وهم الحداثة ليُعرِّي الواقع، وحدهم منْ يتصالحون مع حيوانيّتهم يجدون في الحياة شيئاً من الحرية.
رغم جبني وخوفي من أن أعيش الحياة خارج سجن اللغة، فإن تصالحي مع حيوانيّتي يُعوِّضني عن حاجتي لتلك الحرية الكاذبة والوهم الجميل، فمهما تنصلت من أكذوبة الحرية الشخصية، فإنني مُدرك أن هناك أمور لا يسع الواحد منّا أن يتنصّل منها، فهي جوهر الوجود وأقرب طريق للحقيقة.
ولكن كل هذا الكلام بالكاد يعني شيئاً، لا يُغيِّر إدراكنا لحيوانيّتنا أقدارنا الشقية وحيواتنا البائسة، ولا يزيدنا الكفر بفكرة الحرية سوى خوف من المجهول. ضع عقلك أيها الإنسان في وضعية الصامت، لا تجتهد في التفكير والتحليل إلا إذا كنت على أتم استعداد لمواجهة وابل من الكسل الفكري من جهة، وأسئلة أخرى تصعُب الإجابة عليها من جهة أخرى.
سيعانقك الجهل المفرط أكثر من مرة في رحلتك للبحث عن الحقيقة، ليُذكِّرك أنك مجرد إنسان، ويُذكِّرك بحجمك الضئيل أمام كل ما يزخر به هذا الكون. سينتابك التعب من ثقل المسئولية التي تأتي مع الوعي والتفكير. اعذرني عزيزي الإنسان إن بدا لك في كلامي الأجوف هذا فائض من التشاؤم والسلبية، ولكن الواقع لا يرتفع حتى إذا أمضينا نصف العمر في الإنصات لروّاد التنمية البشرية وخالقي التغيير الجذري وغيرهم ممّن يبيعون الأوهام ويصدقونها.
لم أكن دائماً شخصاً مُشبّع الفكر بقناعات سوداوية، لكنها الحياة، تُذيقنا مرارة الواقع وتُذهِب عنّا السذاجة والحمق. ما زلت أذكر الخوف الذي كان يعتريني وأنا طفل كلما سمعت وقع خطواتها وهي متوجهة نحو غرفتي لتتأكد من أنني قد خلدت إلى النوم بالفعل، أدعو الله ألّا يرف لي جفن وأنا أحاول جاهداً أن أُغمِض عيني والرعب ينهش فؤادي الصغير.
تعلمت من طفولتي المُشوهة أن أكذب لكي لا أُعاقَب وأن أتظاهر بالنوم، لكي لا أجبر على مجابهة غضبها وسخطها الذي ينزل عليّ أحياناً كالصاعقة. بينما أكون مُنكّباً على واجباتي المدرسية أو مُنشغلاً بقراءة روايتي التي تنتشلني من بشاعة الحياة، تخاطبني بصوت عالٍ، عادةً ما يبلغ مسامع سابع جار وتصرخ فيَّ: «لمَّ لا تقوم بمساعدتي أيها المشاغب الكسول؟ سمير! ضع ما بين يديك حالاً وهَلُمَّ لمساعدتي».
كنت أجيبها بصوت خافت وأنا مُطأطئ الرأس: «سيضربني الأستاذ إن لم أقم بإنجاز واجباتي». أماطل رغم خوفي من فوران بركان غضبها، حتى تجيء بعصاها السميكة وتهوي بها على جسدي الهزيل. أستسلم للعصا ولها، وأقدم لها نشوة تعنيفي على طبق من ذهب، وما إن يجتاحها الملل من ضربي ضرباً مبرحاً حتى تُشعِل سيجارة من سجائر «مارلبورو» – التي كان يجلبها صاحب الدكان خصيصاً لها- وتُنفِّث دخانها في وجهي، حتى أُصبح في حاجة ملحة لاستخدام بخاخ الربو الخاص بي.
اليوم ورغم أنها لم تعد ذات سطوة عليّ، لا يزال الطفل الذي في داخلي يخاف منها، ورغم أنها توفيت قبل ثلاث سنوات فإنني أراها كل يوم في انفعالات الآخرين وغضبهم الذي يُوقظ فِيَّ ذكريات طفولتي الدميمة. بتُّ أخاف من الأنشطة الاجتماعية والسهرات التي يتطرق فيها كل إلى ذكرياته الجميلة، أقارن بشاعة ماضيَّ بوداعة ما عاشه زملائي في العمل في طفولتهم.
أخاف كثيراً أن يسقط القناع الذي أخفي به الشرخ العميق في فؤادي، أو أن ينتبه أحدهم لارتجافي كلما رأيت طفلاً يشبه سمير الفتى الخجول ذا النظارتين المقعرتين الذي كنته، الذي لا يزال يقطن في مكان ما من جسدي المليء بالكدمات وروحي المشوهة. أخاف أن تفضحني العبرات وأن يخونني التزامي بالصمت أمام أسئلة زملائي الفضولية. أخاف أن تُعرِّيني حاجتي الماسة للبوح فتضيع كرامتي ويتبخر غموضي أمامهم.
أحيانًا أعود من العمل لأجدنني أرتمي في حضن خزانتي، كما كنت أفعل وأنا طفل، أعانق ثيابي وأتمسك بها وأعد خسائري. أعود لكوني الطفل العالق في جسد رجل في سن الرشد، عندما أكون وحيداً في خزانتي الخشبية حيث الظلام وشح الأُكسجين، أسترجع أياماً كنت فيها منبوذاً لأنني ابن بائعة هوى.
كنت أقف وحيداً بينما يلعب أولاد الجيران كرة القدم، يرفضون رفضاً قاطعاً تمرير الكرة لـ«ابن الحرام» على حد قول أمهاتهم. كثيراً ما يُخيِّل لي أنني جئت إلى هذه الحياة لأدفع غالياً ثمن أخطاء المرأة التي كانت أمي دون أن تكون لي أماً، كنت أُكفِّر عن ذنوبها وأتلقى طعنات القدر بدلاً عنها.
كانت المرة الوحيدة التي تمكنت فيها من البوح بما عشته من ألم هي عندما كنّا أنا وأسماء نتسامر. شاركتني قصة طفولتها الحزينة وخوفها المُزمن من الموت الذي اختطف منها عائلتها، وشاركتها المآسي التي جعلتني أتمنى الموت ولا أجده.
وحدها أسماء كانت تُضيء حياتي وتنتشلني من زنزانة الماضي لتملأ حاضري بالأمل. علّمتني أسماء أن أتمسك بالأمل وألّا أستعجل القدر، علّمت الطفل الذي في داخلي أن يمضي قُدماً ويتحرر من قيد أحزان الماضي، والأهم من هذا كله، علّمتني أن أحب. وبوجودها إلى جانبي تمكنت من أن أتظاهر –ولو لبعض من الوقت- أن لوجودي الخجول معنى جلياً.
هذا الرجل الذي كان يبدو أنه لا شيء يُخيفه، لم يكن في حقيقة الأمر سوى طفل يبحث عن القليل من المواساة والكثير من الحب، هذا الرجل الذي يُدعى سمير لم يكن يعرف من السمر سوى اجترار ذكريات طفولته المشوّهة، هذا الرجل كان أنا ولم يكن.