جدّد التوراة وترجمها للعربية: سعديا الفيومي تلميذ المعتزلة
عبْر بوابة الفلسفة الإسلامية، اتخذ سعديا الفيومي منهجه في تجديد التوراة، ومواجهة فرقة القرائين، فترجم العهد القديم إلى العربية، وأخضع النص إلى العقل، لذا احتل مكانة متميزة بين الفلاسفة اليهود.
حدثتنا معظم المصادر التي تعرضت لتاريخ حياة سعديا الفيومي أنه وُلد عام 892م، وتذكر مصادر أخرى أنه وُلد عام 882م، في الفيوم بمصر، وتوفي في بغداد عام 942م، بحسب ما ذكر الدكتور عبدالرازق أحمد قنديل في كتابه «الأثر الإسلامي في الفكر الديني اليهودي».
وعاش سعديا في مصر حيث تزوج فيها، ثم رحل عنها تاركًا زوجته وأولاده سنة 915م على الأرجح، متجهًا إلى الشام، ثم فلسطين، ثم بابل بالعراق، ثم استقر في بغداد حيث بدأت الفترة الخصبة في حياته، إذ أنتج فيها مؤلفاته التي عرفتها الجماهير وعاشت حتى اليوم، ومن ذلك تفاسيره المختلفة لأسفار العهد القديم، أو ما كتبه في الفلسفة وعلوم اللغة، ومكث في بغداد إلى أن توفى عام 942م.
معطيات سياسية وفكرية
ويذكر قنديل، أن الفترة التي قضاها سعديا في بغداد أو حلب كانت حافلة من جميع جوانبها، فمن الناحية السياسية عاصر قدرًا كبيرًا من أحداث الخلافة العباسية، وشاهد سقوط بغداد في أيدي البويهيين عام 935م في خلافة الراضي المقتدر إلى أن مات وتولى الخلافة أخوه المتقي عام 940م، وقد توفي سعديا أثناء خلافته.
وثقافيًا، عاصر سعديا ازدهار الفكر والعلوم الإسلامية وانتعش بالثقافات المختلفة التي امتلأت بها خزائن بيت الحكمة، وشهد نشاط الفرق الإسلامية من معتزلة وسنية، كما اطلع على ما خلفه علماء المسلمين من فكر، وقرأ المناقشات والمنافسات العلمية بين مدرستي الكوفة والبصرة في النحو، وبين مدرستي الحجاز والعراق في التشريع والفقه، وما كان بينهما من خلافات.
تلك هي البيئة التي تربى فيها سعديا الفيومي، وتأثر بها، واستخدم لغتها، وإن كان بعض المؤرخين يُرجع أسس الثقافة والفكر عند سعديا إلى مصر التي وُلد بها، حيث وُجد منذ الفتح الإسلامي تنافس بين الطوائف اليهودية، وكان اليهود يتكلمون لغة الطبقة الحاكمة الإسلامية وهي العربية. وسواء تكون فكر سعديا في مصر أو بغداد، فالأمر سواء، فكل منهما بيئة عربية إسلامية تشبع بها واقتبس منها.
وبحسب قنديل، نشأ سعديا والخلاف قائم بين فرقتي الربانيين والقرائين اليهوديتين، وكان غيورًا على تراثه وتقاليده، ويدافع عنها قدر طاقته، ويتصدى لمن يحاول أن ينال منها، ووضح ذلك في رده على عنان بن داود زعيم فرقة القرائين، الذي حاول أن ينال من التقاليد الدينية لليهود، ورد عليه سعديا برسالة فنّد فيها مزاعمه حتى أصبح يُعرف بالمناهض الأول لحركة القرائين.
وبذل الربانيون كل الجهود لمقاومة القرائين وسائر المنشقين على جمهور العلماء، وذلك عن طريق بحوثهم ومؤلفاتهم التي يدافعون عنها عن التراث اليهودي، وقد حمل سعديا لواء الزعامة لهؤلاء الربانيين في الرد على خصومهم، فآل على نفسه أن يفعل كما فعل المتكلمون للدين الإسلامي، فاتجه إلى نصوص الكتاب المقدس وتناولها بالبحث والدراسة.
كما تناول سعديا العهد القديم ونقله من العبرية إلى العربية التي كانت قد أخذت مكانتها بين اليهود بدلًا من الآرامية، وبدأ بالأسفار الخمسة أولًا، ثم تلى ذلك ببقية أسفار العهد القديم.
ويذكر قنديل، أن سعديا حاول في ترجمته أن يجعل الكتاب المقدس بسيطًا في متناول عقلية وإدراك القارئ العادي، وقدم لكل سفر من الأسفار التي ترجمها بمقدمة شرح فيها الهدف من هذه الترجمة، والهدف من السفر نفسه، وما يكون قد اشتمل عليه من أحداث ومدلول تلك الأحداث، وكانت ترجمته العربية خالية من «الصفات التشبيهية»، حيث تخلص فيها من التجسيم والتشبيه وخلع الصفات البشرية على الله.
ترجمة استثنائية
ويرى طارق شما ومريم سلامة كار، في كتابهما «أنثولوجيا الترجمة العربية»، أن ترجمة سعديا للتوراة تتميز بأهمية استثنائية من خلال التأثير الكبير الذي مارسته، حيث صارت منذ ظهورها النسخة المُعتمدة لدى اليهود العرب في الشام والعراق، وكذلك في مصر والشام، بل إنه ما لبث بعض المسيحيين العرب أن اعتمدوها، خصوصًا الكنيسة القبطية، لذلك صار الباحثون يشيرون إلى ما سبقتها من ترجمات بتعبير «ما قبل سعديا»، وهي ترجمات لم يتبق منها إلا مقاطع متفرقة بالأبجدية العبرية، وتعود في الأغلب إلى القرن التاسع الميلادي.
وتختلف الآراء في ما إذا كان سعديا قد وضع ترجمته هذه بالعربية اليهودية، (أي بلغة عربية مكتوبة بأحرف عبرية)، وحُولت بعد نسخها إلى العربية من بعده، أم أنه وضعها بالعربية مباشرة، أم وضع نسختين بالحرفين معًا، واحدة للاستخدام الداخلي ضمن المجتمع الذي ينتمي إليه، وثانية للاستخدام الخارجي، والنسخ الباقية حاليًا تتنوع بين الخطين العربي والعبري.
ويلاحظ الكاتبان التأثير الإسلامي في ترجمة سعديا للعهد القديم، والظاهر في استخدامه لتعابير إسلامية وقرآنية، مثل «الله جل جلاله»، و«لله الحمد»، و«تبارك وتعالى»، و«عز وجل»، بل ومصطلحات إسلامية شرعية مثل «الزكاة» في نص الترجمة، ما يدل على أنه حاول إقامة صلات مع الثقافة السائدة عبر استخدام مصطلحاتها وأساليبها، ولعل ذلك أيضًا مما أسهم في استفادته من علم الكلام الإسلامي.
تأثر سعديا بالمتكلمين المسلمين، ويذكر الدكتور علي النشار، في الجزء الأول من كتابه «الفكر الفلسفي في الإسلام»، أن الربانيين، مثلهم مثل العلماء القرائين، تابعوا إقامة بنائهم الديني مستخدمين طرق العقل والبراهين، وقد أمدتهم «فلسفة العصر»، أي فلسفة المتكلمين المسلمين بكل هذا، وكان أول فلاسفة الربانيين ومتكلمهم هو سعديا الفيومي.
وبحسب النشار، اعتبر مؤرخو الفكر اليهودي من الأقدمين والمحدثين سعديا الفيومي أعظم رجال الفكر اليهودي قاطبة، إذ إنه كان أول العلماء الربانيين في تاريخ اليهود، الذين أقبلوا على استخدام العقل والبرهان لإقامة فلسفة يهودية، أو لاهوت يهودي يستند إلى الكتاب والعقل معًا، بعدما استفاد من فلسفة المتكلمين، فقرر وضع النص أولًا ثم يؤيده بالعقل.
وقد كتب سعديا الفيومي فلسفته الكلامية في كتاب بالعربية عنونه بـ«الأمانات والاعتقادات»، والأمانات تشير إلى العقائد الدينية، والاعتقادات تشير إلى المعارف المكتسبة بواسطة البحث العقلي.
واتبع سعديا منهج المعتزلة في تنسيق أبواب الكتاب، وفي تناولهم لموضوعاتهم، فالمعتزلة كانوا يبدأون فلسفتهم الكلامية ببحث مشكلة قدم العالم أو حدوثه، ثم ينتقلون إلى البحث في الله وصفاته، وكذلك فعل الفيومي.
ليس هذا فحسب، فالكلام المعتزلي أقيم على خمسة أصول، هي التوحيد، والعدل، والوعد والوعيد، والمنزلة بين المنزلتين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد اتبع سعديا هذه الأصول واعتنقها، وبحثها في فصول متتابعة في كتابه.
لذا يمكن اعتبار أن سعديا الفيومي كان أثرًا من آثار المعتزلة، وتلميذًا من تلاميذهم، فقد أعطى للعقل سلطة كبيرة في أن يتفحص العقيدة الدينية وأن تُفهم بواسطته، وظهر ذلك في خوضه لكثير من القضايا التي تناولها المعتزلة قبله، ومنها وحدة الله وصفاته، والخلق، والنقل والعقل، وطبيعة النفس الإنسانية والسلوك الإنساني، وإخضاع الأخبار الواردة عن الملائكة والجن والشياطين لتفسير العقل، حسب ما ذكر النشار.
ودافع الفيومي عن النبوة، كما دافع المعتزلة، وهاجم الفيلسوف الأفلاطوني الملحد محمد بن ابي بكر الرازي، كما هاجمه المتكلمون المسلمون، وبرهن على الخلق من لا شيء أو من عدم، وهو في هذا يحارب الفلسفة اليونانية التي تقرر قدم المادة، كما اتبع منهج المعتزلة أيضًا حين أثبت حرية الإرادة الإنسانية بحجج تشبه أو هي هي حجج المعتزلة.
اتهامات الزندقة والكفر بالعهد القديم
ويقرر الدكتور محمد بحر عبدالمجيد، في كتابه «اليهودية»، أنه لولا جهود بعض علماء الربانيين لقضى القراؤون على مذهب الربانيين، وأبرز هؤلاء الذين دافعوا عن مذهب الربانيين هو سعديا الفيومي، الذي رأس المدرسة التلمودية في «صورا» ببابل، وكانت معرفته باللغة العربية وبالفلسفة أكبر عون له في الوقوف ضد القرائين.
وتبع محاولة سعديا التوفيق بين اليهودية والفلسفة في كتابه «الاعتقادات والأمانات»، محاولات أخرى لعدد كبير من علماء اليهود في هذا المنهج، وعلى سبيل المثال لا الحصر بحيا بن فقودة في كتابه «واجبات القلوب» الذي كتبه سنة 1060م، وسليمان بن جبيرول في كتابه «ينبوع الحياة» الذي تحدث فيه عن علاقة الرب بالعالم. ووصل تأثير الفلسفة إلى الأشعار الدينية التي كانت تُنشد في المعبد في المناسبات الدينية والتي تسمى «بيوطم».
وكان انتشار الفكر الفلسفي في كتابات علماء الدين اليهودي أثره البالغ في العقائد اليهودية. وبحسب عبدالمجيد، تعارض هذا الفكر أحيانًا مع ما ورد في التلمود والعهد القديم، لذا قامت حملات ضد أفكار هؤلاء الذين صبغوا الفكر الديني اليهودي بالفلسفة، ووصل الأمر إلى أن بعض حاخامات اليهود حرّموا قراءة هذه الكتابات، واعتبروها نوعًا من الزندقة والكفر بالعهد القديم والتلمود.
قاموس عبري عربي
وتذكر الدكتورة هويدا عبدالعظيم رمضان، في كتابها «اليهود في مصر الإسلامية حتى نهاية العصر الأيوبي»، أن سعديا قام بدراسة علمية لقواعد اللغة العبرية، وصنّف معجمًا لها مع ما يقابلها باللغة العربية، أي أنه صنّف قاموسًا عبريًا عربيًا.
وإضافة إلى ترجمة التوراة إلى العربية، و«الأمانات والعقائد»، وضع سعديا عددًا من الكتب، مثل كتاب «الشرائع»، وكتاب «تفسير أشعياء»، وكتاب «الأمثال»، وهو عبارة عن 10 مقالات، وكتاب «تفسير أحكام داود»، وكتاب «تفسير النكت»، وهو تفسير زبور داود، وكتاب «تفسير السفر الثالث من النصف الآخر من التوراة»، وكتاب «تفسير أيوب»، وكتاب «إقامة الصلوات»، وغيرها.