سعد صايل: عندما ودعنا مارشال بيروت
هكذا أنهى «سعد صايل» (أبو الوليد) عشرين عامًا من الكفاح المسلح مع الجيش الأردني في العام 1970م؛ ليستكمل رسالته التي كان يؤمن بها ويثق أنها الأقدر على تحرير وطنه السليب بالدم لا بالمساومة والمهادنة مع المحتل الذي اغتصب أرضه واستباح شعبه عام 1948م.
وعلى مدار أحد عشر عامًا كان السلاح الأقوى للمقاومة الفلسطينية بعد خروجها من الأردن إلى البقاع اللبناني، واستطاع بحنكته العسكرية أن يؤخر تنفيذ الخطة الأمريكية الإسرائيلية في إنهاء الثورة الفلسطينية وتفكيك منظمة التحرير آنذاك.
الجنرال الأكاديمي الأول
بين الميلاد والشهادة قضى القائد الفلسطيني أبو الوليد حياة مليئة بالجهاد غنية بالإنجازات ضد المحتل الإسرائيلي، فقد فطن بعد تخرجه من الثانوية العامة بإحدى مدارس نابلس بالضفة المحتلة أن العمل العسكري وحده السبيل الأقوى والأجدر لاستعادة الحق المغتصب، وتضميد جراح الوطن السليب.
كانت خطوته الأولى الالتحاق بصفوف الجيش الأردني عام 1951م، ومن ثم عمل على بناء شخصيته العسكرية بالتعليم والتدريب المستمر، فالتحق بكلية سانت هيرتز للعلوم العسكرية في بريطانيا، ودرس الهندسة العسكرية حتى عام 1954م.
وتابع تطوير قدراته بعد التخرج بالعديد من الدورات، ففي مصر عام 1956م، أنهى دورة متقدمة في اختصاص الدفاع الجوي، وبعدها في العراق التحق بدورة تخصصية في تصميم الجسور وتصنيفها، ومن ثم عاد إلى بريطانيا عام 1959م ليزداد من علم الهندسة العسكرية المتطورة، ومع بداية الستينيات سافر إلى الولايات المتحدة الأمريكية ودرس في جامعة ويست بوينت الهندسة المتقدمة، واستمر بالدراسة وتطوير قدراته ومهاراته العسكرية بالحصول على شهادة من كلية القيادة والأركان عام 1966م؛ ليعود بخبرة علمية ومهنية جعلته ضابطًا محترفًا، وأهّلته لقيادة لواء الحسين في الجيش الأردني.
نشأته في البيئة الفلسطينية المجبولة بالوجع جعلته أينما حل وفيًا لفلسطين، متميزًا بمواقفه الوطنية الوحدوية، فلم يكن يكره أكثر من التعصب الحزبي والفصائلي. كان همه الأول فلسطين، كل فلسطين، ولذلك عمل على تنظيم المقاومة على أسس متن نصها العلم والإخلاص للوطن والقضية بعيدًا عن أي نفاق أو ارتزاق لفصيل أو زعيم، وهو ما جعله يحظى باحترام مختلف القوى الوطنية الفلسطينية واللبنانية آنذاك، سواء القوى المتطرفة أو الجبهة العربية المشاركة في الثورة وقتها، فكان قائدًا عسكريًا وسياسيًا فذًا.
في الميدان كان نشطًا لا يمكنه مفارقته، أسد مغوار يخوض غمار التحدي على دراية وبينة، فيُجري الدراسات عبر دوائر المعلومات الموثوقة للتعرف على موازين القوى حتى لا يُفاجئ بما ليس له به علم، وكانت ذروة نشاطه في خدمة الثورة الفلسطينية خلال السنوات العشر التي قضاها في لبنان بعد الخروج من الأردن إلى حين استشهاده وهو يؤدي واجبه الوطني والإنساني.
على مدار تلك السنوات أرسى قواعد الثورة الفلسطينية وثبّت وجود المخيمات في وجه كافة الاعتداءات التي كانت تتعرض لها، واستطاع عام 1980م تولي قيادة غرفة العمليات المركزية في مركزية فتح، واُختير قائدًا للقوات المشتركة الفلسطينية مع الحركة الوطنية اللبنانية، فعبقرية أبو الوليد لم تكن نابعة من خبرته العلمية والعملية فقط، بل أُضيف إليها صفاته القيادية وحنكته السياسية، فكان مقاتلًا من أجل الحق تواقًا للحرية.
في البقاع: جهاد وثورة
مسيرته في الجيش الأردني التي امتدت إلى عشرين عامًا انتهت اختيارًا منه، في صيف عام 1971 بعد أن خرجت الثورة الفلسطينية من الأردن إلى البقاع في الجنوب اللبناني، وقتها التحق بصفوف الثورة واستطاع أن يحشد خلفه الكثير من الأفراد والضُباط الذين خرجوا مُلبين النداء ومستجيبين لرسالة الثورة المقتضبة التي بثها في نفوسهم، وكان مفادها أن تركه للجيش الأردني كان لهدفٍ أسمى يرنو إليه وهو «العمل المسلح ضد الاحتلال لتحرير الأرض والوطن والشعب في فلسطين»، قائلًا مقولته الشهيرة «قررت الالتحاق بصفوف الثوار للدفاع عن الحق قدر ما أستطيع».
ولم تكن تلك المقولة مجرد شعار خاوٍ من أي مضمون وفعلٍ مقاوم، بل كانت خطوة عملية على الأرض، تبعتها خطوات وعمليات أخرى مكّنته من أن يكون المعلم العسكري الأول في صفوف القوات الفلسطينية الثائرة، والعقل المدبر لأي عملية ضد الاحتلال الإسرائيلي، شاركه وقتها خليل الوزير «أبو جهاد» بالتنفيذ الميداني.
فخبراته العسكرية التي اكتسبها خلال قيادته لكلية الهندسة بالجيش الأردني مثلت رافدًا مدّه بالمهارة والقوة، فدأب منذ وصوله مع القوات الفلسطينية الثائرة إلى البقاع في الجنوب اللبناني إلى إنشاء أكاديمية عسكرية تعمل على تنظيم القوى الفلسطينية، وتحقق حالة الدمج بين القوات النظامية سواء الملتحقة به بعد الخروج من الجيش الأردني أو القوات النظامية بجيش التحرير الفلسطيني آنذاك، حيث قرر دمجها بقوات العاصفة التي كانت أقرب إلى تشكيلات العصابات منها إلى القوات النظامية.
هذا الدمج حقق قوة كبيرة للقوات الفلسطينية، ووحد هدفها تحت إطار منظم، هو القطاع الغربي من البقاع اللبناني بالتعاون الحثيث والتوافق التام مع أبو جهاد، فكانا السلاح الأقوى المباغت بالردع العسكري والمسلح لكافة الأهداف الإسرائيلية في داخل الضفة الغربية وقطاع غزة، ووُصفا بأنهما الجهة الفعّالة في الثورة التي استطاعت الإضرار بالمصالح الإسرائيلية بنسبة 100%.
بداية الصدامات مع القوات اليمينية اللبنانية والجيش السوري
في عام 1975م، وفي أوج الحرب الأهلية التي اخترقت كافة المناطق اللبنانية، بدأت صدامات أبو الوليد مع القوات اليمينية اللبنانية المتعاونة مع الاحتلال الإسرائيلي، لقد كانت ترى فيه عقبة أمام إنهاء القوات الفلسطينية الثائرة في لبنان، وخطرًا كبيرًا على مصالحها مع الاحتلال الإسرائيلي والولايات المتحدة الأمريكية.
وبعد أن دخل الجيش السوري إلى الأراضي اللبنانية؛ بذريعة إنهاء الحرب الأهلية، غير أنه أراد ضرب المقاومة الفلسطينية والقوى اللبنانية المتحالفة معها، وهنا توافقت مصالحه مع المصالح الإسرائيلية والأمريكية في وأد الثورة الفلسطينية، فكثف التحالف الثلاثي السوري الأمريكي واللبناني–الإسرائيلي من عملياته ضد المقاومة.
أبو الوليد لم يأبه بتلك التهديدات، كان قريبًا من وحداته العسكرية، ملامسًا لاحتياجاتهم، معهم خطوة بخطوة في الإعداد والتجهيز لملاقاة التحالف الثلاثي، وكان همه الأول حماية الثورة والشعب الفلسطيني واللبناني الذي شاركهم هم القضية وحمل معهم لواء المقاومة من أجل تحرير الوطن. كانت المهمة ثقيلة على كاهل أبو الوليد لكنه تمكن من حملها رغم كل المخاطر التي أحاطت به من عملاء إسرائيل من القوات اللبنانية اليمينية المتطرفة.
دوره في صمود بيروت
لم تنجح محاولات الاحتلال الإسرائيلي في إشغال المقاومة الفلسطينية وزجها في أتون الحرب الأهلية اللبنانية؛ ما أدى إلى استمرار التصعيد وعمدت إلى اجتياح مخيم الليطاني عام 1978م، وتبعتها بعمليات تقطيع الأوصال وحرب الأربعة عشر يومًا عام 1981م، غير أن صمود المقاتلين الفلسطينيين في لبنان وتمكنهم من صد الهجمات الإسرائيلية المتكررة على مدن وقرى لبنان والمخيمات الفلسطينية أفشل العملية، حيث تمكن سلاح المدفعية الفلسطيني من قصف 33 مستوطنة إسرائيلية في يوم واحد.
ومع بداية عام 1982م رأى أبو الوليد أن المواجهة مع الاحتلال الإسرائيلي لا مفر منها، لكنه لم يتخذ قرار المواجهة منفردًا، وكان ذلك من سماته القيادية؛ أن يُشرك الجميع في خطط المواجهة للخروج بخطة دفاعية واحدة وموحدة لا اختلاف عليها.
لقد مثَّل أبو الوليد شرارة الأمل التي مكنت بيروت من الصمود ثلاثة أشهر متتالية تحت نيران القصف، عمد خلالها إلى التفاوض غير المباشر مع المبعوث الأمريكي «فيليب حبيب»، واستطاع أن يستغل صمود المقاومة الفلسطينية في لبنان لصالح تحسين شروط الخروج، وتوفير حماية مضمونة للمخيمات وتحقيق مكاسب سياسية للقضية الفلسطينية، وتم في يوم الثالث عشر من أغسطس/آب 1982م التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار والفصل بين المتقاتلين.
لم تكن المفاوضات سهلة وسريعة بل كانت شاقة تقوم على المساومة، فكان أحد العروض على أبو عمار أن يختار خمسة عشر ضابطًا وقائدًا فقط لتأمين خروجهم معه من لبنان لكن لم يلقَ العرض أذنًا صاغية من عرفات واستمر مُوعِزًا لأبو الوليد بتنفيذ خطته.
كان أبو الوليد يؤكد أنهم إذا اضطروا إلى الانسحاب فمن الضروري أن يكون انسحابًا منظمًا ولائقًا، واستطاع أن يُحقق ذلك بعقليته العبقرية.
فبينما كان «آرئيل شارون» يُراقب من أعلى برج رزق في بيروت رحيل الثورة الفلسطينية، قرر أبو الوليد صفعه الصفعة الأخيرة بتنفيذ عملية أسر لجندي إسرائيلي، وبالفعل وقبل تسيير آخر باخرة للفلسطينيين وكانت لأبو عمار، تم أسر الجندي، وتم التحفظ عليه لحين خروج البواخر الفلسطينية المحملة بأنواع من الأسلحة والمعدات العسكرية، كل إلى وجهتها.
وبعد المغادرة، تم تسليم الجندي الأسير للإسرائيليين؛ ما شكّل صفعة قوية للاحتلال، تبعتها صفعة أقوى بعدم التزام أبو الوليد بعد خروجه إلى سوريا باتفاقية فيليب حبيب، فعمل بالتعاون مع أبو جهاد وأبو إياد للتخطيط لتجميع القوات الفلسطينية المنسحبة من الجنوب اللبناني.
أراد القادة أن تعود القوات الفلسطينية إلى منطقة البقاع حتى يعود تشكيلها بالشكل الصحيح، ومن ثم تنطلق بواجباتها العسكرية، وكان لهم أن نجحوا فاستطاعوا أسر ثمانية جنود إسرائيليين؛ مما مكن القيادة الثورية الفلسطينية من تحرير أسرى معسكر أنصار في عملية تبادل للأسرى تجاوز عددهم الألف فدائي من حركة فتح والمنظمات الأخرى.
استشهاده
في 27 سبتمبر/أيلول 1982م، استشهد أبو الوليد في عملية اغتيال لم تمكنه من تحقيق هدفه بصون ذاكرة مجزرة صبرا وشاتيلا، والانتقام لدماء الأطفال والنساء والشيوخ الذين استُبيحوا في وضح النهار بالتآمر بين القيادة اليمينية اللبنانية والاحتلال الإسرائيلي.
لقد جاهد أبو الوليد في حماية الوجود الفلسطيني وصيانة استقلالية قراراته، بعيدًا عن أي وصاية لبنانية كانت أو سورية، ولكنه لم يستطع أن يُكمل المسيرة بعد أن نفذت بحقه القيادات العربية المتآمرة مع الاحتلال الإسرائيلي عملية اغتيال أثناء تفقده لقوات الثورة على الخط الرابط بين منطقتي الرياق وبعلبك في أول أيام عيد الأضحى.