جاسوس روسي: هل سعى «أرشافين» لقلب النظام في إنجلترا؟
بالنظر إلى كل شيء يحدث حولك في ذلك الكون، تستطيع أن تنسج عدة خيوط متباعدة من الأحداث لتنتج قصة مُدبرة بالكامل، أو على الأقل تستحق وصف المؤامرة بامتياز، فقط إن أردت ذلك. وفي نشأة وازدهار اللاعب الروسي الشهير «أندري أرشافين» قصة تستحق الوصف السابق بكل قوة.
حسنًا، بإيجاز شديد، دعنا نضعك في جزء من ادعاء المؤامرة تلك. لو فرضنا أن رجال الأمن الفيدرالي الروسي قد خططوا لوضع جاسوس داخل المملكة البريطانية، مع شرط أن يكون إحدى القوى الناعمة التي تعمل في ظل دعم جماهيري، متخفيًا كلاعب كرة قدم مثلًا، فهل تظن أن هناك أفضل من أرشافين ليكون بطلًا لتلك القصة المخابراتية؟
يمتلك الروسي 20 عامًا من العمل العام بمجال كُرة القدم، بدأت بصدفة غريبة داخل الأراضي الإنجليزي، حين شارك ضد فريق برادفورد في كأس «إنترتوتو» الأوروبي، مرورًا بسنوات صامتة داخل إنجلترا بلا أي علاقات اجتماعية مع أي مُقربين، ثم رحيل في صمت مشابه، لإحدى الدول السوفييتية السابقة، حيث اعتزل هناك.
لكن عقب 18 عامًا من العمل السري، ظهر الخيط الأبرز من خيوط الخُطة. موقف عابر داخل إحدى الطائرات المحلية، أجبر زوجته على الادعاء بأنها تعمل مع المخابرات الروسية. لتتحول قصة «شافا» من لاعب أجنبي ضل طريقه وفشل في إنجلترا، إلى شائعات كونه جاسوسًا جاء بأغراض واضحة، أنهاها ثم رحل في صمت.
إعادة روسيا للواجهة الأوروبية
تمتلك قصة حياة أرشافين العديد من التشعبات التي تفتح الباب أمام وضعها ضمن أي نطاق ممكن، ومن ضمنها النطاق السياسي، حيث تمت مُعاملة شافا من اللحظة الأولى كبطل شعبي أعاد أمجاد الروس وحمل لواء إسعاد مواطنيه.
في عام 1988، هُزم الاتحاد السوفييتي أمام هولندا في نهائي بطولة الأمم الأوروبية. كانت تلك أقرب الفرص أمام الروس لكسب بطولة كبيرة تضعهم في واجهة منتخبات القارة، لكن بعد ذلك ببضع سنوات، هُزم النظام الشيوعي ككل، وحُل الاتحاد السوفييتي، لتحتاج روسيا لأكثر من 20 عامًا لتقترب من المجد الكروي.
منح أرشافين مواطنيه انتقامًا لائقًا، حينما نجح في إقصاء هولندا من ربع نهائي بطولة الأمم الأوروبية عام 2008، بعد أن قاد منتخبه للفوز بثلاثة أهداف مقابل هدف واحد. ليضع بلاده أمام خطوة واحدة من بلوغ الحُلم الذي كانوا قد اقتربوا من نسيانه، لكن وضعت إسبانيا حدًا لتلك الطموحات عند نصف النهائي.
لكن حتى بعد الخروج من دور قبل النهائي، أطلق العديد من الصحفيين اسم «نهائيات بطولة أرشافين الأوروبية» على تلك النسخة من البطولة، تقديرًا للإنجاز الذي حققه بوضع منتخب بلاده في تلك المرحلة المتقدمة بعد سنين من الغياب التام عن أي حدث كروي كبير.
وفي نفس العام، بعد أن ساعد زينيت على الفوز بأول لقب أوروبي على الإطلاق، وكذلك أول لقب للدوري منذ 24 عامًا، حصل على الترتيب الـ6 ضمن أفضل لاعبي العالم في سباق جائزة الكُرة الذهبية. صانعًا حلمًا وطنيًا من عالم خيالي، كان فيه القائد الروسي الأبرز في مجال الرياضة، وربما فيما هو أوسع وأشمل.
كيف بدأت الجاسوسية؟
انتقل شافا لأرسنال في فبراير 2009، قبل غلق باب الانتقالات الشتوية بساعات، وكانت تلك هي اللحظة التي تكللت بها قصة متكاملة من الأحداث الغريبة، تجعلك تتأكد للوهلة الأولى أن تلك الوقائع لا يمكن أن تكون أي شيء غير قصة جاسوسية مُحكمة التنفيذ.
ففي نفس العام الذي قالت فيه السيدة «أليسا أرشافينا» إنها تعمل لدى جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، وضعت إنجلترا قائمة من 6 رجال أعمال من بينهم الروسي «رومان إبراموفيتش»، مالك نادي تشيلسي، كمجموعة تستهدفها المخابرات البريطانية كجزء من حملتها لتعطيل خطط روسيا لضرب الاستقرار البريطاني.
يملك إبراموفيتش تأثيرًا طفيفًا في حياة أرشافين، حيث كان الداعم الرئيس لعمليات التفاوض التي أُجريت مع المُدربين الهولنديين «جوس هيدينك» و«ديك أدفوكات» لتولي زمام الأمور في كل من المنتخب الوطني وفريق زينيت، وكان لكلاهما تأثير السحر في ظهور موهبة شافا، بعد أن عدلّا في طريقة تقويم سلوكه ومنحاه الحسم اللازم لنبوغه في سن مُتأخر، 27 عامًا.
خاض هيدينك وأندري بطولة «يورو» رائعة مع المنتخب الروسي عام 2008، كانت مسك ختام لفترة تواجد الأخير كلاعب محلي، وأعلنت عن حتمية احترافه بالخارج، وبعد شائعات عن الذهاب إلى برشلونة، حلم حياته، أو توتنهام، أكثر الراغبين في التعاقد معه، تمت الصفقة لصالح أرسنال في الختام.
حسب تأكيد شبكة «Independent» فإن الصفقة ككل قد تمت بخوف من نفوذ الرئيس الروسي «بوتين» والذي كان يترأس شركة «غاز بروم» المالكة لنادي زينيت الروسي. فحسب ما رواه «جون سميث» الوسيط الذي ساعد في إتمام الصفقة لصالح الـ«جانرز»، فإن شبكة الإحصائيات التي يمتلكها النادي في أمريكا لم تُعط تقييمًا جيدًا لشافا، وهو تقرير هام جدًا، تم إهماله أصلًا.
كان مفترضًا أن يتكثف سعي أرسنال تجاه إيجاد بديل للمدافع الإيفواري «كولو توريه»، لكنهم بشكل غريب تعاقدوا مع أرشافين في النهاية، والأدهى أنه تم بمبلغ قياسي وقتها، 15 مليون جنيه إسترليني، على الرغم من أن المفاوضات تمت بمعرفة «فينجر» المشهور باقتصاده في الإنفاق والذي أراد إنهاءها بمبلغ 7.5 مليون إسترليني، لكن أحد ملاك النادي قد عجل بتلك العملية.
تواجد مالك النادي ذلك على القائمة نفسها التي وضعتها المخابرات البريطانية من رجال أعمال تابعين للحكومة الروسية يقومون بعمليات سياسية ومالية في الخارج، وهو الثري الروسي «عليشر عثمانوف» والذي امتلك 30% من أسهم النادي خلال الفترة من 2007:2018، أي مع ظهور نجم أرشافين للعالم أجمع وحتى حادثة الطائرة الشهيرة.
كانت «أليسا أرشافينا» أحد الرُكاب على الطائرة المسافرة من موسكو إلى ألماتي في كازاخستان، عبر إحدى شركات الطيران الروسية. وبعد خلاف دار مع طاقم الطائرة أدى في النهاية لطردها من الرحلة، أكد بيان شركة «Aeroflot» أن زوجة اللاعب الروسي قد حاولت تهديد الركاب وطاقم الطائرة بأنها وكيلة للأمن الفيدرالي.
لنكن أمام احتمالين: إما تصديق تلك الرواية الخيالية بامتياز، أو الاعتقاد في أن كل ذلك حدث بمحض الصدفة. في الواقع، إن كنت أحد مُشجعي أرسنال، قد يكون تصديق ذلك السيناريو الغريب أهون لك من تصديق ماذا حدث لأرشافين خلال سنوات تواجده في لندن، من خفوت مُريب في المستوى.
رحلة فشل كروي
على الرغم من وصوله المُتأخر ومشاركته في أقل من ربع مباريات أرسنال، فقد احتل المركز الثاني في استطلاع لاعب الموسم في النادي لعام 2009، بدا الأمر حقًا وكأن فينجر وجد لاعبًا يمكنه تغيير مباراة في لحظة، كان من المفترض أن يكون التعويض المثالي عن رحيل «بيركامب»، لكنه لم يكن.
تختلف عملية اختلاق اسباب فشل شافا مع الجانرز، يظن البعض أنها تقع تحت طائلة الأشياء الاعتيادية التي عاشها أغلب الصفقات التي أبرمها فينجر في حقبة ما بعد الجيل الذهبي، والتي تتأرجح دائمًا بين واحدة من ثلاثة: عدم المشاركة في مركزه المفضل، لم يعطه المدرب الوقت اللازم للتأقلم، أو لم يناسبه نظام اللعب.
يظن آخرون أن عدم تأهل روسيا لكأس العالم عام 2010، قد حطم اللاعب نفسيًا، وجعله يخسر حماسه تجاه اللعبة ككل، حسب وصفه هو شخصيًا، لكن ارتفاع مُعدله التهديفي في الفترة ما بين بداية 2010، وحتى يناير 2011، حيث شارك شهدت 35% من إجمالي مع سجله مع أرسنال و33% من إجمالي ما صنعه.
حاول مُحللو موقع «Arsenal Blog News» إبراز حقائق إحصائية تشرح خفايا خفوت أداء أرشافين بعد التألق الأولي. اهتدوا في نهاية الأمر إلى تقسيم فترته مع أرسنال إلى حقبتين: ما قبل عودة «فان بيرسي» من الإصابة، وما بعدها.
خلال الدوري الإنجليزي الممتاز، سجل شافا في الحقبة الأولى 20 هدفًا وصنع 15 آخرين، في حين سجل 3 أهداف فقط وصنع 5 في الحقبة الثانية، بدأ كلا اللاعبين معًا منذ عودة فان روبن 8 مباريات فقط.
لكن في نهاية الأمر، كل ما سبق يمكن أن يؤول إلى أسباب نجاح وأسباب فشل ولا يمكنك أن تضع سببًا واحدًا لأن ينهار نجم كبير كأرشافين بهذا الشكل، ولا حتى عوامل التقدم في السن. ما قد دفع مُشجعي أرسنال وحتى مُحلليه الكبار إلى ما قد يُمكن تسميته الماورائيات، أو المؤامرة أو الأسباب الخفية، التي من بينها الجاسوسية، أو ربما الاكتئاب.
أرشافين الإنسان وليس الجاسوس
تعد أحد أهم التشعبات في قصة أندري هي ترشحه لانتخابات الحزب اليميني المؤيد للرئيس بوتين. يمكن ضم تلك الحقيقة إلى ما قد أسميناه ادعاء مؤامرة كونه جاسوسًا تابعًا للحكومة الروسية، إن جاز التعبير، لكن الأولى أن تندرج تلك الواقعة ضمن فرعيات عدة في قصة أندري الإنسان المليئة بالوقائع الغريبة.
وُلد شافا عام 1981 في الـ29 من مايو/آيار لأسرة من الطبقة العاملة في سان بطرسبرج. مر بتقلبات حياتية عدة، كان بطلًا شعبيًا ولاعبًا ذا مستقبلٍ باهرٍ وكاتبًا وفيلسوفًا وسياسيًا ومحبًا للشطرنج، وكذلك غاويًا للأزياء والفنون. فتح نقاشات عدة مع مُحبيه على موقعه الإلكتروني وأجاب عن أي تساؤل طُرح عليه.
لم يسبق لأندري أن افتقر للأراء، كان دائمًا ما يملك رأيًا عن كُل شيء حوله. كان أهمها هو ما قد حلله عن الحياة في إنجلترا عمومًا وعن الكرة الإنجليزية وطريقة اللعب خصوصًا.
كان ذكيًا بما يكفي لإدراك الانقسام الظاهر بين الطريقة التي يتم فيها تدريب الإنجليز لمدة 40 أسبوعًا في الموسم والطريقة التي يُتوقع أن يؤدوا بها في البطولات الدولية الكُبرى ضد المنتخبات الأكثر مهارة كهولندا وإسبانيا وحتى إيطاليا، التي وصفها بالأكثر ذكاءً. سُرعان ما اكتشف أن لعبته لم تكن تناسب هذا البلد.
السبب الذي دفع شافا للانضمام لأرسنال وجعله يُحب برشلونة حتى النخاع هو المهارة والانسيابية في اللعب، لكنه قد جاء إلى لندن مُتأخرًا بعد أن تم حل الفريق الذهبي ودخل الجانرز في مرحلة انتقالية رتيبة، لكن ما جعله يُعاني أكثر هو رغبته في التعديل.
شعر أن مواهبه تضيع في بيئة عمل كان عاجزًا عن تغييرها، يمكن أن يكون أندري أرشافين جاسوسًا وممكن أن يكون لاعبًا مُثقفًا بطريقة زائدة، لكن الأكيد أنه لم يكن يسعى لتعديل مركزه في الملعب وحسب، بل سعى لغيير طريقة لعب الفريق ككل لما هو أكثر مرونة، وقلب نظام اللعب في إنجلترا إلى انسيابية ومهارة أكثر، وذلك هو خطؤه الأهم وتُهمته الأكبر.