روسيا: حيث الإله هو الشريك الأصغر للقيصر
الحكاية بدأت من هنا..
الزمان: نهاية القرن العاشر الميلادي.المكان: القسطنطينية، حيث الإمبراطور باسيل الثاني تحاصره جيوش المتمردين الأرمن والجورجيين والمسلمين، بقيادة جنراليه فوكاس وسكليروس.وصل المتمردون إلى «نيقية» مفتاح القسطنطينية، وحاصروها، كما فرضت أساطيلهم الحصار على مضيق الدردنيل. لم تكن الخيارات أمام باسيل الثاني مفتوحة، ولم يكن أمامه إلا طلب العون من جيرانه البرابرة.وافق فلاديميير، أمير كييف، على مساعدة باسيل الثاني وقام بتحريك 6 آلاف جندي إلى القسطنطينية في مقابل الزواج من أخته الصغرى (أننا) وتحوله إلى الأرثوذكسية.نجح باسيل الثاني في قمع الانتفاضة وفاز فلاديميير بمصاهرة الإمبراطور وتم تعميده إلى المسيحية الأرثوذكسية. لاحقًا أمر فلاديميير بجمع كل سكان كييف على النهر لتعميدهم، وتم بالفعل تحويل معظم السكان إلى الأرثوذكسية بأمر من فلاديميير، لتبدأ من هنا المصاهرة الأبدية بين الحكم والدين في روسيا.
الكنيسة والدولة
مع انتشار الإيمان الأرثوذكسي من كييف إلى موسكو وغيرها من المدن الروسية، انتشرت أيضًا الهوية الروسية وتم تعريفها، وأصبح الإيمان الأرثوذكسي هو الأساس القوي لهذه الهوية في معظم عهود القياصرة، لا ينتمي الروس لأوروبا ولا ينتمون لآسيا ولذلك كان سؤال الهوية مؤرقًا، وَوَجد القياصرة الحل في الإيمان الأرثوذكسي.ومع انهيار الإمبراطورية البيزنطية (روما الثانية) أصبحت موسكو هي مركز الثقل الأرثوذكسي الأول في العالم، ونظر الروس لأنفسهم على أنهم ورثة مجد روما، ونظروا لموسكو العاصمة على أنها روما الثالثة، وكما في القسطنطينية سار البطريرك جنبًا إلى جنب مع القيصر، وسُكت العملة المشتركة لهما، وتوسع النفوذ البطريركي داخل بلاط القيصر، فازدادت الأموال وتوسعت الكنائس والمعابد بأعداد كبيرة.بدأ العهد الذهبي للكنيسة في الأفول مع بيتر العظيم الذي أراد تحديث روسيا على الطراز الأوروبي والثقافة الأوروبية، فأنهى منصب البطريرك واستبدل مكانه مجلسًا من عشرة من رجال الدين.ومع قيام الثورة البلشفية أصبح الدين محرمًا في المجال العام، وتم إغلاق الأديرة والمعابد ومصادرتها وقتل رجال الدين وتدريس الإلحاد في المدارس، ومع دخول العهد الستاليني عام 1917 كان عدد الأديرة والكنائس يزيد عن 50 ألفًا، وفي العام 1940 ومع موجات التدمير والمصادرة انخفض عدد الكنائس والأديرة إلى 500 فقط!.واجه الروس دائمًا معضلة الهوية والأيديولوجية، ورغم الأيديولوجية الشيوعية التي تبنتها الدولة رسميًا فإنها لم تكن كافية لتحفيز الجنود للقتال في الحرب العالمية الثانية وخاصة أمام جحافل هتلر؛ لذا أعاد ستالين إحياء الإيمان الأرثوذكسي بهدف الحشد المعنوي للجنود والقوات لحماية روسيا الأم.أما في عهد غورباشوف وبعد أفول نجم الاتحاد السوفييتي، عاشت روسيا مرة أخرى دولة بلا هوية ولا رمز، أعاد غورباشوف إحياء الإيمان الأرثوذكسي وبعثه في المجال العام مرة أخرى. تبنت الدولة الروسية علم القياصرة وجزءًا من نشيد القياصرة وأعيد ذكر «الله» مرة أخرى في النشيد. عاد إذن الإيمان الأرثوذكسي ليشكل الثقافة والهوية الروسية مرة أخرى.
ولحل هذه المعضلة شكّل بوريس يلتسن عام 1996 مجموعة من الباحثين لصناعة الهوية الروسية أو الفكرة الروسية، ولكنهم لم يصلوا إلى شيء.
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين
في عهد بوتين: أدرك بوتين حيوية الكنيسة في تعريف دور روسيا ونفوذها الحيوي في العالم أجمع، ومركزيتها بالنسبة للإيمان الأرثوذكسي، فدعم بوتين الكنيسة بشكل واسع. ففي بداية عهده أصدر مجلس الدوما قانونًا يُعيد ملكية جميع الكنائس التي حُجز عليها في العهد السوفييتي إلى الكنيسة الأرثوذكسية مرة أخرى؛ لتصبح الكنيسة أكبر مالك أراضي في روسيا كلها. كما ارتفع معدل بناء الأديرة والكنائس بصورة ضخمة، فمن العام 2000 إلى الآن بُني ما يزيد عن 23 ألف كنيسة في روسيا.أصبحت علاقة الدولة الروسية بالكنيسة علاقة عضوية شديدة الترابط، حيث يتشاركان رؤية أيديولوجية وفلسفية واحدة عن استثنائية الهوية الروسية، فروسيا لا تنتمي إلى الغرب أو إلى آسيا، ولكنه مجتمع فريد يمثل مجموع قيم فريدة يُعتقد أنها مُلهمة إلهيًا.تقع الكنيسة في هذه الرؤية تحت إمرة الدولة، وتساعدها الدولة ببسط نفوذها داخل البلاد وخارجها في مقابل تمثيل الكنيسة لرؤية الدولة بين المجتمع، وتتحدث هذه الرؤية الفلسفية لأليكسندر دوجين عن أمة روسية تضم المتحدثين بالروسية على امتداد السهل الأوراسي تشملهم سلطة الدولة وهيمنتها.في هذا العام رُفعت قضية ضد المدون فيكتور كراسنوف، والذي يواجه تهمًا بازدراء الأديان ونشر الإلحاد في تدويناته. عُرض المدون على الطب النفسي لبيان صحته العقلية ثم عُرض المحكمة بهذه التهمة في سابقة لم تحدث من قبل، حُوكم فيكتور كراسنوف بقانون سنّه بوتين بعد مظاهرات لمجموعة (pussy riot) النسائية والمعارضة لحكم بوتين والمنادية بالحقوق والحريات الدينية والجنسية، حيث نظمت مجموعة من النساء عرضًا راقصًا في إحدى كاتدرائيات موسكو.
روما الثالثة
لم تتخلف الكنيسة الأرثوذكسية عن دعم طموح بوتينالعسكري و الإستراتيجي، فمن حربه في شرق أوكرانيا إلى احتلاله القرم وانتهاء بتدخله العسكري في سوريا ظلت الكنيسة على موقفها، حيث أعلنت الكنيسة أن القرم أرض مقدسة بالنسبة للهوية الروسية، ففيها تم تعميد فلاديمير، و بدأ منها عهد روسيا الأرثوذكسية، وتحدث القساوسة عن دور الغرب في نشر الإلحاد في أوكرانيا ونزع الإيمان، وأن ما يحدث في أوكرانيا هي حرب لتدمير الهوية الأرثوذكسية، التي يمثلها بوتين وروسيا والكنيسة.أصبحت الحرب في شرق أوكرانيا والقرم إذن معركة مقدسة بالنسبة للكنيسة الأرثوذكسية، وحضر دعاتها وقساوستها مع الجنود على خط النار، واستعملت الكنيسة الأرثوذكسية بموسكو نفوذها على بقية كنائس أوكرانيا لحشد الدعم لروسيا.وفي معركته للمرة الثانية في سوريا، لم تتخلف الكنيسة الأرثوذكسية أيضًا عن دعم بوتين، واستخدمت نفس العبارات التي استعملتها في الحرب في أوكرانيا. ففي 16 أكتوبر/تشرين الأول، وفي تصريح صحفي للكنيسة الأرثوذكسية، أعلنت أن الحرب التي تخوضها روسيا في سوريا هي «حرب مقدسة».في هذا السياق يبدو أن روسيا القيصرية تحاول بعث نفسها من جديد، الامتداد إلى المياة الدافئة عبر سوريا، السيطرة على محيطها الأوروآسيوي، توحيد الأمة الروسية تحت مظلة موسكو، مساعٍ تلعب فيها الكنيسة الأرثوذكسية دور القوة الناعمة، ويلعب فيها بوتين دور اليد الباطشة. فهل ينجح بوتين في بعث روما من جديد؟