روسيا والغرب: خصومة فرضتها الجغرافيا السياسية
عندما سقط الاتحاد السوفييتي وبدأ الغرب استيعاب دول أوروبا الشرقية، لم يكن هذا الاستيعاب يجري بنفس النسق فيما يتعلق بأكبر هذه الدول الأوروبية الشرقية، روسيا، رغم أنها في تلك اللحظة كانت من أكثر هذه الدول انغماسًا في النموذج الرأسمالي الغربي الذي كانت تعاديه سابقًا. وظلّت روسيا تتزلّف إلى الغرب لنحو عقد ونصف حتى عام 2005 تقريبًا، إلى أن انتبهت أنها لن تخرج كليًا من دائرة الخصومة بالنسبة للغرب، حتى ولو انتهت الحرب الباردة ضد الشيوعية. ويبقى السؤال: لماذا؟
بين الحغرافيا والتاريخ
فيما يبدو أن الجواب الأساسي يمكن اختصاره في كلمتين: الجغرافيا والتاريخ، تحديدًا الجغرافيا والتاريخ في السياق الحضاري. مشكلة الغرب مع روسيا لم تكن فقط في حقبة الشيوعية، وإن كانت هذه الحقبة الأقرب زمنيًا و الأكثر حدة، لكنها في الوجدان الاستراتيجي الغربي (خصوصًا الأنجلوسكسوني)، مشكلة تمتد إلى فترة التنافس مع روسيا القيصرية وتوسعها الإمبريالي، ولذلك كانت أهم النظريات الكلاسيكية في الجيوبوليتيك (قلب الأرض وحافة الأض) مرتكزة في حقيقتها حول كبح روسيا، ولا يهم هنا أي روسيا تلك التي ينبغي أن تُكبَح: شيوعية، قيصرية، جمهورية. لا يوجد فارق حقيقي جيواستراتيجي.
بل قد لا نبالغ إذا قلنا إن هذا التوجس لدى الغرب (حتى بعد علمنته) «ربما» يكون له جذور في اللاوعي، أو حتى في الوعي، متعلقة بتمايز الغرب تاريخيًا عن الفضاء الشرق أوروبي الأرثوذكسي الذي أصبحت روسيا وريثته الأساسية. ففي حين يمكن للغرب ابتلاع باقي الدول الواقعة في ذلك الفضاء الأرثوذكسي، يصعب ذلك مع روسيا فلا يمكن إلا محاصرتها وعزلها، خصوصًا أن سقوط روسيا وضعفها بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، ورغم ارتمائها في النموذج الرأسمالي، لم يكن سقوطًا كاملًا كما كان الحال مع ألمانيا النازية، والتي تم إعادة هندسة مؤسساتها الرسمية والثقافية بعد الاحتلال الأنجلوسكسوني لها في نهاية الحرب العالمية الثانية. فروسيا ما بعد الشيوعية ظلّت مُحافظة على نفس المؤسسات العسكرية والاستخباراتية والأمنية والبيروقراطية، بل زادت نزعتها الاستقلالية بعد تنحي يلتسين وصعود بوتين.
أكبر من أن يتم استيعابها
من منظور أولي، ومع صعود الصين كمنافس أساسي للهيمنة الغربية، كان يمكن أن يتضمن المشروع الاستيعابي الغربي روسيا من أجل احتواء التمدد الصيني، خصوصًا مع مساحة روسيا الشاسعة وقوتها البشرية ومواردها الطبيعية وثقلها الاقتصادي. لكن نفس عوامل القوة هذه هي تحديدًا التي جعلتها خصمًا تاريخيًا ودائمًا لقوى الغرب الرئيسية. فعلى عكس باقي دول أوروبا الشرقية، تبدو روسيا أكبر من أن يتم استيعابها في أطر المنظومة الغربية كحلف الناتو والاتحاد الأوروبي. وتاريخيًا، كانت وما زالت أعجز من أن تكون هي المهيمنة والرائدة لأوروبا والغرب.
ومما يؤكد هذا المنظور تصريح سابق لبوتين شرح فيه أنه في بداية صعوده السياسي، طرح على الرئيس الأمريكي حينها، بيل كلينتون، رأيه في إمكانية انضمام روسيا إلى حلف الناتو، وأوضح بوتين أن بيل كلينتون أبدى عدم ارتياحه إلى الفكرة. فإشكالية روسيا من منظور المنافسين الغربيين، أنها ليست بولندا أو أوكرانيا أو ليتوانيا أو ما شابه من دول شرق أوروبا، أي ليست مجرد امتداد لدوقية موسكو القديمة التي كانت تتمحور جغرافيًا حول مدينة موسكو. فدوقية موسكو أو ما كان يُطلق عليها في بعض الحقب «إمارة موسكوفي» التي تحولت فيما بعد إلى روسيا التي نعرفها اليوم، قامت مع الزمن بالتوسع جغرافيًا بشكل مهول، لا يُقارن مع أي دولة أوروبية أخرى، حتى وصلت لتكون في زماننا أكبر دولة في العالم من حيث المساحة.
هذا التوسع الذي كان اتجاهه شرقًا جعل الجزء الأكبر من مساحتها في قارة آسيا وإن كان ثقلها جغرافيًا وعقلها ثقافيًا ما زال في أوروبا. هذا التوسع الذي واكب حقبة الاستكشاف الأوروبية، ومن ثَمَّ حقبة الاستعمار الأوروبي في العالم، كان يختلف عن توسع باقي منافسيه الأوروبيين في جانب جوهري ومهم. ففي حين كان الاستكشاف والاستعمار الذي قادته دول كبريطانيا وفرنسا وهولندا وإسبانيا والبرتغال وغيرها يتم وراء البحار. كان الاستكشاف والاستعمار الروسي يتم في الامتداد البري المتجانس لدوقية موسكو.
ورغم أن ذلك كان محنة جغرافية، وإن كانت مكاسبه أقل في وقت حدوثه في النصف الثاني من الألفية الماضية، حيث جعل انحسار روسيا محدودًا جدًا مقارنة بباقي القوى الاستعمارية بعد انتهاء حقبة الاستعمار. فروسيا لم تفقد إلا إقليم ألاسكا بعد أقصى توسع إمبراطوري لها، وحافظت إلى اليوم على أراضي كل شعوب شمال آسيا وسيبيريا التي غزتها وأخضعتها كجزء لا يتجزأ من روسيا.
هذا الامتداد للروس يُبرَّر وفق رؤية أمنية وجودية، فيتم اعتباره توسعًا إلزاميًا كونه السبيل الوحيد للحفاظ على أمن قلب الأرض الروسية الأساسية التي شكّلت دوقية موسكو. فموسكو وفق تجربتهم التاريخية منذ غزو المغول. لا بد أن تحكم كل الأرض التي تقع بشرقها أو ستكون عُرضى للغزو، نظرًا إلى السهول المنبسطة خلف جبال الأورال. وكذلك التجربة التاريخية الحديثة تشير إلى أن الممرات المنبسطة التي تقع إلى الغرب منها كانت سببًا في حملات غزو خطيرة كتلك التي قادها نابليون وهتلر، وهو ما يعني ضرورة خلق هيمنة عسكرية نسبية باتجاه الغرب أيضًا وضرورة أن تبقى خطوط الدفاع الأمامية متقدمة، بحيث لا تتركّز قوى دولة عظمى أخرى على أعتاب موسكو، وهو بالضبط ما يفعله في منظورهم حلف الناتو في آخر عشرين سنة، والذي يرفض انضمامهم بوضوح.
خصومة حتمية
هذا الحجم الجيوسياسي لروسيا، التي كانت عادةً يُنظر لها كخطر مستمر لهيمنة رائدة أوروبا الغربية، الإمبراطورية البريطانية وحلفائها في القرن التاسع عشر، ما زال تقريبًا نفس السبب الذي يجعلها تحتل نفس الموقع لوريثة بريطانيا الولايات المتحدة وحلفائها، في القرن السابق والحالي. خصوصًا مع وجودها بشكل متطرف في أقصى شرق أوروبا، ما يزيد من الهوة السياسية معنويًا وثقافيًا.
فهل الخصومة بين روسيا و الغرب كانت و ستظل أمرًا حتميًا رغم انتماء روسيا نظريًا إلى أوروبا البيضاء المسيحية؟ ورغم ذوبانها في الرأسمالية و كفرها بالشيوعية؟ أم أن سلسلة من القرارات الاستراتيجية الخاطئة لدى دوائر صنع القرار الغربي في التسعينيات و مطلع الألفية كانت استفزازًا منع الدب الجريح حينها من أن يُروَّض ويُهجَّن ليكون مجرد فقمة بلطيقية مُسالمة وخاضعة للفضاء الغربي؟
أيًا كانت الحقيقة، فإن نظرية هنتنجتون حول «صدام الحضارات» تُثبِّت نفسها مُجددًا أمام أطروحة تلميذه فوكوياما بخصوص وهم نهاية التاريخ وطبيعة الصراعات الدولية. فخطوط تماس الحضارة الغربية لا تلامس فقط المارد الأخضر الإسلامي، لكنها في خريطة هنتنجتون تحتك أيضًا بما سماها الحضارة الأرثوذكسية. ومرور ألف سنة على الانشقاق الكنسي العظيم الأرثوذوكسي الكاثوليكي، وما يُقارب ألفي سنة على سلفه انقسام الإمبراطورية الرومانية إلى شرقية بيزنطية و غربية لاتينية، لم يُغيِّر من حقيقة المُسبِّب الأساسي لهذه الانقسامات السياسية والثقافية، وهو الثابت القديم المُتجدد تاريخيًا في العلاقات الدولية: الجغرافيا.