العلاقات التركية الروسية بعد إدلب
لا يمكن لأي تقدير رصين أن يتجاهل التطورات الآنية لا سيما المؤثر منها ولا التصريحات السياسية اليومية بمضمونها وأسلوبها ورسائلها، لكنه أيضاً لا يمكن أن يبنى حصراً على هذه التفاصيل بعيداً عن الأسس الراسخة والسياقات العامة.
يصلح ذلك في أغلب القضايا والتقييمات، لكنه يصلح أكثر في تناول السياسة الخارجية لدولة ما وعلى الأخص علاقاتها مع دولة أخرى، لا سيما إن كان لهذه العلاقات جذور تاريخية ومسار طويل وأسس واضحة، والعلاقات التركية – الروسية ليست استثناءً في هذا الإطار.
المسار التاريخي
الخلاف هو الوجه الأوضح للعلاقات التاريخية بين البلدين منذ الدولة العثمانية وروسيا القيصرية، حيث كانت الحروب الروسية – العثمانية العنوان الأبرز لهذه العلاقات بسبب الحلم الروسي التقليدي بالوصول للمياه الدافئة وغيرها من العوامل.
وباستثناء فترة قصيرة خلال حرب الاستقلال التركية، حين ساعدت روسيا البلشفية تركيا وأمدتها بالسلاح، بقي التوجس السمت الأساس للعلاقات الثنائية، وكان الاتحاد السوفيتي السابق عاملاً مهماً في تحديد بوصلة السياسة الخارجية التركية لعقود تلت. فقد كان دفع عدم تجديده معاهدة الصداقة مع تركيا ومطالبته بمدن تركية ومضيقي البوسفور والدردنيل تركيا نحو الحماية الأمريكية ثم طلب عضوية حلف شمال الأطلسي، والتي حازتها أنقرة عام 1952.
وطوال سنوات الحرب الباردة بقيت العلاقات متوترة حيث كانت تركيا قاعدة الناتو المتقدمة في مواجهة «الخطر الشيوعي»، وكادت تنطلق من أراضيها حرب نووية بين القطبين العالميين عام 1962 فيما عرف بأزمة الصواريخ الكورية.
بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وانتهاء الحرب الباردة، أتى العدالة والتنمية بفلسفة جديدة لسياسة بلاده الخارجية عنوانها الأبرز «تعدد الأبعاد» أو المحاور، أي انتهاء فترة الاحتكار الغربي لها ونسج علاقات مع أطراف أخرى من بينها روسيا الاتحادية والصين وفق منهجية جديدة تعتمد الأولويات التركية وليس سياسات المحاور السابقة. وقد بدأ التقارب التركي مع روسيا في عهد العدالة والتنمية في عام 2004 بزيارة رسمية من بوتين، ثم تطورت بشكل هادئ وتدريجي.
رغم حادثة إسقاط المقاتلة الروسية في خريف 2015 والتي ألقت بظلالها على علاقات البلدين، فإن مسارها العام استمر تصاعدياً، وخصوصاً في المجالات الاقتصادية والتجارية وهو ما تثبته الأرقام الرسمية.
بلغ حجم التبادل التجاري بين البلدين العام الفائت 26.3 مليار دولار بزيادة أكثر من مليار دولار عن العام الذي سبقه وفي ظل رغبتهما في رفعه إلى 100 مليار، ومع ميلان كفته بشكل واضح لصالح الاتحاد الروسي بواقع 18.6 مليار دولار.
وتعد الطاقة المجال الأكبر للتعاون بين الجانبين، حيث أبرما اتفاقات لمشاريع عملاقة، أهمها محطة أك كويو للطاقة النووية الذي تقدر قيمته بنحو 20 مليار دولار، والسيل التركي للغاز الطبيعي الذي تقدر قيمته بـ19 مليار دولار والذي افتتح، مؤخراً، ويتوقع أن يضخ 63 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي الروسي لتركيا التي ستستفيد من 14 ملياراً منها وتضخ الباقي للقارة الأوروبية.
كما أن الطرفين تخطيا حاجزاً كان يصعب توقع اجتيازه بالنسبة للقوة العسكرية الثانية في الناتو وهي صفقة منظومة إس400 الدفاعية الروسية، والتي تفوق دلالاتها الاستراتيجية قيمتها المادية (2.5 مليار دولار) بكثير.
وفي مجال السياحة، تحتل روسيا المركز الأول بين قائمة السياح الأجانب الزائرين لتركيا بواقع أكثر من 7 ملايين سائح عام 2019 وبفارق نحو مليونين عن ألمانيا صاحبة المركز الثاني.
سوريا: العقدة والحل
وقف الجانبان على طرفي نقيض في الأزمة السورية، حيث نادت تركيا برحيل الأسد وعدم شرعيته منذ عام 2012، وقدمت للمعارضة السورية كافة أنواع الدعم، بينما وقفت موسكو إلى جانبه وتوجت ذلك بتدخلها المباشر في أيلول/سبتمبر 2015.
وقد كانت حادثة إسقاط المقاتلة سوخوي في تشرين الثاني/نوفمبر 2015 محطة فارقة في علاقات البلدين حيث أوصلتهما إلى شفا الحرب التي لم يردها أي منهما، قبل أن تساهم المحاولة الانقلابية الفاشلة في تركيا صيف 2016 في إتمام ترميم علاقاتهما.
عنى تدخل روسيا بثقلها في الملف السوري لتركيا أمرين:
الأول: أنه لم يعد بالإمكان العمل على إسقاط الأسد بالقوة، لا سيما وأن الولايات المتحدة كانت تراجعت عن ذلك سابقاً.
والثاني: أن أنقرة نفسها باتت مضطرة للتنسيق مع موسكو في حال أرادت مكافحة مشروع حزب الاتحاد الديمقراطي في الشمال السوري والمدعوم من واشنطن.
أسفر ذلك عن ثلاث عمليات عسكرية تركية في الشمال السوري بدأت و/أو انتهت بالتفاهم مع الروس، وهو ما حقق مكاسب استراتيجية لأنقرة من حيث إنه وجه ضربة مباشرة لمشروع الدويلة الكردية أو «الممر الإرهابي» على حدودها الجنوبية.
لكن الاستفادة الروسية من التفاهمات كانت أكبر، حيث استثمرت ذلك في إطلاق مسار أستانا وجلب المعارضة السورية للتفاوض، ثم إعلان مناطق خفض التصعيد التي عنت نظرياً وقف المواجهة المسلحة مع النظام ثم أدت عملياً لإنهاء المناطق التي كانت المعارضة تسيطر عليها الواحدة تلو الأخرى، وآخرها إدلب التي تتوتر العلاقات التركية – الروسية اليوم بسببها.
إدلب ولحظة الحقيقة
رغم التفاهمات في سوريا وحجم المصالح المشتركة، لا يمكن توصيف العلاقات التركية – الروسي بالتحالف أو المحور. فالبلدان يملكان رؤى متناقضة تماماً وتسود بينهما علاقات تنافس وأحياناً خصومة في مختلف القضايا، بدءاً من القرم وإقليم ناغورني كارابخ مروراً بالبحر الأسود والبلقان والقوقاز وآسيا الوسطى حيث «الجمهوريات التركية» التي خرجت من رحم الاتحاد السوفياتي السابق وليس انتهاءً بالقضية السورية.
في سوريا تحديداً، لا تجمعهما علاقة تحالف وإنما تفاهمات المختلفين لتجنب المواجهات وتعظيم المكاسب، وهو منطق مسار أستانا الذي يجمع داعمَيْ النظام روسيا وإيران مع داعم المعارضة تركيا.
في هذه السنوات الأخيرة استثمرت روسيا كثيراً في الخلافات التركية – الأمريكية بخصوص الميليشيات الكردية السورية لتعمّق أكثر فأكثر فجوة الثقة بينهما، بينما وجدت أنقرة في موسكو بديلاً عن واشنطن يمكن للتفاهمات معه أن تسهل مكافحة تلك الميليشيات، فضلاً عن تأثير الانقلاب الفاشل والذي يسود اعتقاد في أنقرة بأن الولايات المتحدة تورطت فيه أو على الأقل لم تتعاون معها في تسليمها المسؤول عنه.
يختلف الموقف التركي اليوم عما ساد سابقاً لدى سيطرة النظام على مناطق خفض التصعيد الأخرى، فالمنطقة محاذية للحدود التركية وتحمل أي عملية واسعة للنظام نذر توجه ملايين اللاجئين/النازحين نحوها (وهو ما اعتبرته ورقة ابتزاز من النظام) فضلاً عن كونها الملاذ الأخير للمعارضة المحسوبة عليها.
وبالتالي رأت أنقرة في استمرار خرق النظام لاتفاق سوتشي وسعيه للسيطرة عليها بالكامل خطراً يتهدد أمنها القومي، ما تطلب منها موقفاً متشدداً شمل رسائل ميدانية متعلقة بتحركات المعارضة وتعزيزات كبيرة مع تهديد بعملية عسكرية ضده قبل نهاية الشهر الجاري.
أذكت هذه المواجهة المفترضة مع النظام توتراً كبيراً بين أنقرة وموسكو هو الأكبر منذ حادثة السوخوي، بما في ذلك تصريحات حادة متبادلة ورسائل ساخنة في الميدان شملت على ما يبدو مشاركة روسية مباشرة في قتل الجنود الأتراك قبل أيام حسب ما يفهم من بيان وزارة الدفاع التركية الذي نص على أنهما قضوا بـ«قصف من الجو».
تريد موسكو تثبيت الوضع القائم ونقل تركيا نقاط مراقبتها خارج المناطق التي سيطر عليها النظام وتحديد حدود جديدة للفصل بين النظام والمعارضة، بينما تريد أنقرة عودة النظام لحدود سوتشي وفك الحصار عن نقاطها.
تأخرت التفاهمات التركية – الروسية هذه المرة وبدا الطرفان متشبثين بشدة بموقفيهما رغم اتفاقهما مبدئياً على ضرورة التوصل لتفاهمات وتجنب المواجهة بينهما. هنا، تبرز ثلاثة أهداف تركية رئيسة تصلح أن تكون سقف التفاهمات أو العملية المفترضة وهي أمن نقاط المراقبة وإنشاء شريط حدودي أو منطقة آمنة وتجنب موجة كبيرة من النازحين من خلال ضرب مركز إدلب.
إلى أين؟
في الأزمة الحالية، ثمة مرتكزات تركية ثلاثة:
- تحقيق الأهداف الرئيسة سالفة الذكر وردع النظام.
- تجنب المواجهة المباشرة مع روسيا.
- استكمال المسوغات القانونية والسياسية لأي عملية مفترضة لها.
وبالنظر لهذه الركائز الثلاث، فأنقرة أقرب للتفاهمات منها للعملية العسكرية، لكنها قد تضطر لها إن لم تصل مع موسكو لما تريد، أو بالأحرى قد تستثمرها لتصل معها للتفاهمات. فالميدان يتحرك حين ينسد المسار السياسي، والأخير تتسارع خطاه حين يسخن الميدان.
ثمة احتمالات حقيقية إذن لعملية تركية ضد النظام، محدودة في الغالب على الأقل في بداياتها، في حال لم يتوصل الطرفان لاتفاق ما. لكن الدعوة لقمة رباعية تجمع ميركل وماكرون مع بوتين وأردوغان في الخامس من آذار/مارس المقبل (أي بعد المهلة التركية بأيام) تعني أن هذه العملية قد تجمّد مؤقتاً حتى لا يقع اللوم على تركيا بأنها أفشلت المساعي الأوروبية للتوسط. لكن ذلك لا يعني بالضرورة تجميد الميدان بالكامل، فثمة إمكانية دائماً لتحرك/تحريك المعارضة والرد على النظام وإرسال رسائل معينة. مما يعني أن القمة قد تُستبق بتحركات ميدانية أو إرهاصات العملية لتكون القمة المكان الأنسب لإيقافها والتوصل لتفاهمات ما بخصوصها.
وبغض النظر عن السيناريو الذي سيتحقق في إدلب، فليس هناك احتمالات كبيرة لمواجهة مباشرة بين أنقرة وموسكو، بل يبدو الطرفان حذرين مما يعتبرانه محاولات أمريكية لدفعهما للاشتباك.
استراتيجياً، إدلب أحد ملفات القضية السورية، وسوريا برمتها إحدى القضايا ذات الاهتمام المشترك أو حتى الخلاف بين البلدين. وفي ظل المصالح الكبرى والمكاسب الاستراتيجية والمشاريع العملاقة بينهما، لن يكون من المنطقي توقع تأثر العلاقات التركية – الروسية بشكل كبير بسبب إدلب.
ثمة استثناء لذلك بالتأكيد وهو تدحرج الميدان لما لا يريده الطرفان أي المواجهة، إما بسبب تطورات غير محسوبة أو بتدخل أمريكي/أطلسي أو مساعي أطراف ثالثة، لكنه في النهاية احتمال ضعيف جداً.
في المقابل، تدرك أنقرة أنها دفعت ثمناً باهظاً لتفاهماتها مع روسيا في ظل التوتر مع الحلفاء التقليديين في الغرب، ما يمكن أن يحول الأزمة الحالية إلى فرصة بالنسبة للناتو لإعادة أنقرة نسبياً وتدريجياً إليه وإبعادها عن موسكو قدر الإمكان. لكن ذلك سيتطلب من الولايات المتحدة تحديداً موقفاً واضحاً من الميليشيات الكردية ومن القضية السورية عموماً، وفي ظل استمرار غياب ذلك سيستمر التوجس التركي منها والنظر إليها كمحرض على معركة غير متكافئة لإضعافها وإعادتها لـ«الحظيرة الأمريكية».
في الخلاصة، لم يطرأ تغير كبير على الرغبة التركية في سياسة خارجية متوازنة قدر الإمكان بين الولايات المتحدة وروسيا، لما تحققه لها من مرونة واستقلالية نسبية في القرار لخدمة مصالحها بعيداً عن سياسات المحاور. تنجح أنقرة في ذلك حيناً وتفشل حيناً، لكنها لا تملك بديلاً في ظل الخلاف مع أوروبا، وتبقى سياستها الخارجية مفتقرة لرؤية واضحة من جهة وحلفاء وشركاء حقيقيين من جهة أخرى، وهي أكبر معضلات السياسة الخارجية التركية في السنوات القليلة الأخيرة.