روسيا وإيران: مسار العلاقة بين الأصدقاء الألداء
جاء التدخل الروسي في المراحل النهائية لمحادثات إحياء الاتفاق النووي بين إيران والقوى الكبرى، ليهدد بنسف المباحثات برمتها بحسب تحذيرات صادرة من برلين ولندن وباريس، فقد أعلن منسق الشؤون الخارجية والأمنية بالاتحاد الأوروبي، جوزيب بوريل، أن نص الاتفاق النهائي جاهز، لكن المفاوضات توقفت «لأسباب خارجية».
وطلب وزير الخارجية الروسي، سيرجي لافروف، من واشنطن «ضمانات مكتوبة» بأن العقوبات الغربية عليها بسبب الأزمة الأوكرانية لن تؤثر على تعاونها «الحر والكامل» مع إيران في المجالات الاقتصادية والعسكرية والاستثمارية والتقنية، وهو ما اعتبره نظيره الأميركي أنتوني بلينكن «خارج السياق» رافضًا الربط بين الأمرين.
واتُهمت موسكو بمحاولة عرقلة عملية إحياء الاتفاق النووي الوشيكة بعد مفاوضات طويلة وشاقة في فيينا استغرقت نحو عام بين إيران والمجموعة 5+1 التي تضم الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وروسيا والصين وألمانيا، إذ يخشى الروس من أن إحياء الاتفاق في هذا الوقت يعني رفع العقوبات عن طهران وتدفق نفطها وغازها إلى الأسواق العالمية.
وتسمح عودة طهران إلى الأسواق العالمية بتوسيع الحظر النفطي على روسيا، لأن ما يمنع دولًا غربية عديدة من الانضمام إلى واشنطن في حملة العقوبات على موسكو أن هذه الدول تعتمد على الغاز الروسي، كما أن عودة النفط الإيراني قد يأخذ حصة مهمة من سوق الطاقة الصيني خاصة وأن طهران ترتبط مع بكين باتفاق إستراتيجي يتضمن التعاون في مجال الطاقة لمدة ربع قرن، كما أن عودة الإيرانيين إلى التصدير سيهدئ من الأسعار العالمية المرتفعة للغاز والنفط على خلفية الأزمة الأوكرانية، مما يصب في صالح الغرب ويضر بروسيا أكبر مصدر للغاز في العالم وثاني أكبر مصدر للنفط الخام والتي استفادت كثيرًا من القفزة السعرية الأخيرة.
وتستطيع موسكو تعطيل الاتفاق فهي أحد أعضاء المجموعة 5+1، وبدونها لا يمكن تنفيذ خطة العمل؛ فهي تتولى تنفيذ الشق المتعلق بتخزين اليورانيوم الإيراني المخصب وتشارك في العمل بمفاعلي فوردو وبوشهر، ولا يمكن لطهران عقد اتفاق منفرد مع واشنطن بدون موسكو لأن ذلك –رغم صعوبته- سيحملها عواقب انتقامية روسية.
خشيت طهران من أن يؤدي هذا الخلاف إلى تعطيل الاتفاق وبالتالي عدم رفع العقوبات، وهو أمر لم تكن تحسب له حسابًا خلال الفترة الماضية عندما تلكأت في العودة للمفاوضات ولعبت على عامل الوقت، فحاولت معالجة الأمر مع موسكو بهدوء ولم تتهمها بـ«تعطيل» المفاوضات، وزار وزير الخارجية الإيراني، أمير حسين عبد اللهيان، موسكو الثلاثاء، وأجرى مباحثات منفردة مع نظيره الروسي الذي خرج بعدها ليعلن خلال مؤتمر صحفي مشترك مع ضيفه أنه حصل على ما يريد من واشنطن، وأن تلك الضمانات تسبغ الحماية على المشاريع التي تنفذها في إيران بموجب الاتفاق النووي، ومنها مشروع محطة بوشهر النووية.
مثلت هذه التصريحات من لافروف تنازلاً عن مطالبه الموسعة السابقة، فيما أكد المتحدث باسم الخارجية الأمريكية، نيد برايس، أن العقوبات على موسكو لا تشمل هذه المشاريع أصلاً، كما أن أسعار النفط هبطت بأكثر من 6% بعد التصريح الروسي الذي ساهم إلى جانب أسباب أخرى في طمأنة الأسواق العالمية.
الأصدقاء الألداء
أحيانًا ما توصف العلاقة بين طهران وموسكو بأنها علاقة «أصدقاء ألداء»؛ أي أنه رغم التعاون الوثيق بينهما لكن الخلافات وعدم الثقة تقوض من هذا التعاون، فالروس يخشون من تكرار ما وقع عقب توقيع الاتفاق النووي عام 2015، فرغم التعاون والمصالح الكبيرة التي جمعتهما خلال فترة العقوبات التي سبقت الاتفاق، أوقف الإيرانيون تعاملهم مع الشركات الروسية وفسخوا العقود المبرمة، وأحلّوا محلها الشركات الأوروبية، وعندما عادت العقوبات بعد انسحاب واشنطن من الاتفاق عام 2018، فتح الإيرانيون أبوابهم للروس من جديد بسبب غياب البدائل الغربية.
وقد حذر وزير الخارجية الإيراني السابق محمد جواد ظريف، في تصريحات مسربة، من أن موسكو حاولت إفشال المباحثات مع الغرب قبل التوصل إلى الاتفاق النووي عام 2015، مشددًا على أنه ليس من مصلحة الروس أن تتمتع بلاده مع الغرب بعلاقات طبيعية، وأنهم حاولوا اختراق القرار الإيراني عبر نسج علاقات مع المتشددين في الحرس الثوري.
ومؤخرًا قال الجنرال محمد إسماعيل كوثري، عضو البرلمان الإيراني، والقائد السابق لـ«مقر ثار الله» التابع للحرس الثوري، إن قطاعًا من النخبة الإيرانية بات يرى أن روسيا هي العقبة الوحيدة أمام بلادهم في المفاوضات وليس واشنطن، وأن الروس يضرون بالمصالح الإيرانية، لأن بلادهم تعاني من أزمة اقتصادية صعبة وتواجه الحكومة احتجاجات شعبية وفئوية نتيجة للعقوبات الأمريكية بينما أدى التدخل الروسي لتعطيل التوصل لاتفاق.
كما تجدر الإشارة هنا إلى أن روسيا التي كثيرًا ما توصف بأنها حليفة طهران تعارض عسكرة البرنامج النووي الإيراني، وقد وافقت على جميع العقوبات الأممية التي فرضها مجلس الأمن الدولي سابقًا على إيران بعد اتهامها بالسعي لإنتاج القنبلة، وبصفتها دولة نووية تحرص على عدم امتلاك دول أخرى لهذا السلاح بغض النظر عن موقفها منها حاليًا، وقد أخذت موسكو الأسلحة النووية من كازاخستان وأوكرانيا بعد استقلالهما عنها مطلع التسعينيات، واليوم يعد أحد أبرز أسباب الغزو الروسي لأوكرانيا هو الخوف من حصولها على سلاح نووي خاصة أنها تمتلك خبرة تؤهلها لذلك، فالروس في النهاية يستفيدون من الاتفاق النووي لأنه يجعل البرنامج النووي الإيراني تحت السيطرة.
وعلى الجانب الآخر تحمل عودة طهران إلى الاتفاق النووي فوائد لروسيا فهو يمنحها مليارات الدولارات جراء التعاون بينهما، ففضلاً عن الصفقات التجارية والاستثمارات التي تنتظر رفع العقوبات عن إيران، فإن الروس سيحصلون على 10 مليارات دولار بعد إحياء الاتفاق النووي، مقابل عمل شركة «روس أتوم» الحكومية الروسية، في محطة بوشهر للطاقة النووية، في وقت تعاني فيه موسكو من نقص السيولة بسبب العقوبات، مما دعا معارضين أمريكيين لانتقاد إدارة بايدن واتهامها بدعم الآلة الحربية الروسية.
فالموقف الروسي من إيران يتسم بالتعقيد وهذا ينعكس على سلوك موسكو تجاه المباحثات النووية فمن مصلحتها تكبيل طهران بقيود الاتفاق النووي، لكنها تجتهد في الوقت نفسه كي لا تؤدي العودة للاتفاق إلى تقاربها مع الغرب وإضعاف النفوذ الروسي عليها.
كما أن ترابط المصالح بين موسكو وطهران في سوريا وآسيا الوسطى وأفغانستان وجنوب القوقاز، يعكره تناقض الأهداف والرؤى في بعض تلك الملفات فالساحة السورية مثلًا هي ساحة تنافس أيضًا بين الروس والإيرانيين وشهدت صدامات عديدة بينهما لكنها ظلت أقل من أن تهدد مجمل العلاقة الثنائية لأن ما يجمع الطرفين أكثر مما يفرقهما.
الاتفاقية الإستراتيجية
أعلن المرشد الإيراني عام 2018 سياسة «الاتجاه شرقًا» التي يُقصد بها الاعتماد على العلاقات مع القوى الآسيوية كروسيا والصين، مما يعني التخلي عن شعار «لا شرق ولا غرب»، الذي أطلقته الثورة الإيرانية عام 1979، ومنذ ذلك الوقت كثفت طهران جهودها في هذا الصدد فانضمت إلى منظمة شنغهاي للتعاون التي تهيمن موسكو وبكين عليها، وعقدت مع الصين اتفاقية تعاون إستراتيجي وتنتظر عقد أخرى مع روسيا.
وقد تم الإعلان عن دراسة تجديد اتفاقية العمل المشترك الموقعة بين البلدين مدتها 20 عامًا خلال زيارة الرئيس الإيراني إبراهيم إلى موسكو في يناير/كانون الثاني الماضي وهي بمثابة تطوير لاتفاقية كانت تربط البلدين، قال المتحدث باسم لجنة الأمن القومي والسياسة الخارجية بالبرلمان الايراني، محمود عباس زادة مشكيني، إنها بحاجة إلى بعض الترتيبات قبل كتابتها، وخلال الزيارة الأخيرة لعبد اللهيان إلى موسكو أعلن لافروف أن البلدين بصدد توقيع وثيقة هامة بينها.