التكهن بما يجول في عقل بوتين مهمة شبه مستحيلة، غير أن قراءة متمعنة في «وثيقة استراتيجية الأمن القومي» الروسية تفك رموز تفكير صانع القرار الروسي والكيفية التي ينظر بها إلى التحديات الأمنية الداخلية والخارجية، وتساهم في وضع سيناريوهات ممكنة لخيارات ومبادرات القيادة الروسية في المرحلة القادمة في التفاعل مع الأحداث.

الوثيقة الجديدة التي وقعها بوتين في يوليو/تموز 2021 كانت أكثر من مجرد تحديث للوثيقة السابقة التي اعتُمدت في عام 2015 بعد الأزمة الأوكرانية 2014. تناولت الوثيقة الجديدة عددًا من المواضيع التي اهتمت بها استراتيجية عام 2015، لكنها قدمت تصورًا مختلفًا بشكل ملحوظ للتهديد الغربي وشكل الاستجابة له، علاوة على التأكيد على دور روسيا كحامية للقيم التقليدية، وهو الدور الذي دأبت روسيا على الترويج له إعلاميًّا خلال الأعوام الماضية.

امتدت الوثيقة كذلك لتشمل مجموعة واسعة من القضايا الأخرى، مثل الأمن السيبراني والتكنولوجيا والبيئة، مما جعل ديمتري ترينين، مدير مركز كارنيجي في موسكو، يصفها بأنها «بيان لحقبة جديدة» ويعتبرها خارطة طريق تسعى لتكييف روسيا مع عالم ما يزال متداخلًا ومليئًا بالانقسامات التي ترسم خطوط الصراع بين الدول وداخلها.

يمزج التصور الروسي الجديد للأمن القومي لحالة النظام الدولي بين تفاؤل حذر بالتراجع المستمر للهيمنة الأمريكية على النظام الدولي، وقلق عميق من التغيرات الدولية الناجمة عن هذا التراجع الذي يُتوقع أن تجابهه مقاومة ضارية من الولايات المتحدة، الأمر الذي من شأنه أن يؤجج المزيد من الصراعات وانعدام الاستقرار في مناطق مختلفة من العالم، وهذا الوضع سيكون من المحتم على روسيا التعامل معه.

تظل أولوية تأمين روسيا لموقعها المهيمن في مجالها الجيوسياسي أولوية رئيسة وحيوية للدولة الروسية، يتم ذلك عبر تقوية الهياكل والمؤسسات الإقليمية «لتنسيق عمليات التكامل» بين الدول الواقعة في المجال، وهذا يعني أن روسيا حسمت أمورها بالتوجه شرقًا. فالتصور الجديد يعتبر أن تعميق التعاون «المفيد للطرفين» و«تطوير شراكة شاملة» تقوم على «التفاعل الاستراتيجي» مع الصين والهند والمؤسسات غير الغربية مثل منظمة شنغهاي للتعاون ومنظمة البريكس. في هذا الإطار، قامت روسيا بترقية الهند إلى مستوى الشريك الاستراتيجي في محاولة روسية للتوازن مع الصين، وذلك لعدم رغبتها في لعب دور الشريك الأصغر للصين.

يأتي ذلك على حساب استبعاد التقارب مع الولايات المتحدة والمؤسسات الغربية. فالوثيقة الحالية تصف الولايات المتحدة وبعض حلفائها في حلف شمال الأطلسي بأنهم أطراف غير ودية (تسميهم الوثيقة: «البلدان غير الصديقة») معتبرة إياهم مصممين على إضعاف روسيا عسكريًّا وتكنولوجيًّا واقتصاديًّا وحتى «روحيًّا»، ويسعون بشكل متواصل لزعزعة استقرار النظام السياسي الروسي عبر دعم أشخاص ومجموعات معارضة للكرملين تصفهم الوثيقة بـ «عملاء أجانب»، وأيضًا استغلال المشاكل الداخلية لروسيا لدعم ما تسميه روسيا «الأنشطة الإرهابية والمتطرفة»، هذا بالإضافة إلى «النشاط العسكري المتزايد» لحلف شمال الأطلسي وتعزيزه «لبنيته التحتية العسكرية» بالقرب من الحدود الروسية. تعتبر موسكو هذا النشاط، إلى جانب العقوبات الاقتصادية الأمريكية، أدوات لاحتواء روسيا.

اهتمت الوثيقة الاستراتيجية بالتأكيد على مركزية الأمن السيبراني والمعلوماتي، مشيرة إلى الاستخدام المتزايد للتقنيات والوسائط الحديثة لاختراق المجال السيبراني الروسي والتدخل في الشئون الداخلية الروسية، ومشددة على توظيف المنصات الكبرى في حملات التضليل الإعلامي التي تعتبرها تهديدًا للسيادة والاستقرار الوطنيين. لذلك، نصت الوثيقة على سلسلة من التدابير التي شملت العمل على إنشاء قطاع سيادي في مجال الإنترنت، وتعزيز الضمانات ضد الهجمات السيبرانية، وتطوير قطاع التكنولوجيات الوطنية بشكل منهجي، وبشكل أعم، إنشاء «قوى ووسائل المواجهة الإعلامية». يعتبر هذا الجانب من الوثيقة بمثابة إضفاء طابع رسمي لممارسات قامت بها روسيا على مدى سنوات، من التدخل في الانتخابات في الغرب إلى حملات التضليل الإعلامي التي وظف فيها الروس منصات التواصل الاجتماعي وشبكة روسيا اليوم ومجموعة من الصحفيين الغربيين الذي كرسوا أقلامهم للدفاع عن نهج الكرملين في الصحافة العالمية.

تطرقت الوثيقة باهتمام إلى كل من القطب الشمالي والقارة القطبية الجنوبية، وهما منطقتان يعتبر التعاون الدولي فيهما حاسمًا. ويمكن رصد تغير لافت للمفردات في هذه الوثيقة مقارنة بالوثيقة السابقة. ففي السابق، كان الحديث يتم عن «التعاون الدولي المفيد»، فتحول في تلك الوثيقة ليصبح عن «ضمان» مصالح روسيا المتعلقة بـ «تطوير» القطب الشمالي، مما ينبئ بتوجه روسي منفرد يتطلع إلى تحويل المنطقة القطبية الشمالية إلى منطقة إنمائية ذات أهداف اقتصادية طموحة من خلال توسيع الاستثمار فيها واجتذاب قوة العمل اللازمة لمشاريع الطاقة والنقل البحري، بالإضافة إلى حماية المصالح الأمنية الروسية في الطريق البحري الشمالي، إضافة إلى التوسع في عمليات عسكرة القطب الشمالي التي بدأت بها روسيا منذ سنوات قليلة.

سيعني هذا التوجه الروسي الجديد نهاية حقبة السياسة التعاونية في المنطقة القطبية الشمالية ورسم خطوط الصراع جديدة في منطقة غنية بالموارد تتقاسمها روسيا مع دول منتمية لحلف شمال الأطلسي أو قريبة منه مثل السويد وفنلندا، علاوة على اهتمام الصين برفع إمكانيات العبور البحري في المحيط المتجمد الشمالي الذي يقلص زمن شحن البضائع إلى أوروبا إلى النصف. أما بالنسبة للقارة القطبية الجنوبية، فإن روسيا أعدت استراتيجية منفصلة خاصة بتلك القارة في أواخر عام 2020، ولم يعلن عنها بعد رغم موافقة الكرملين عليها. ومن الواضح أنه تمت إضافة عبارة «الاقتصاد الجيولوجي» إلى قاموس اللغة الاستراتيجية الجديدة للكرملين.

الخلاصة التي يخرج بها القارئ المحلل للوثيقة هي أن روسيا شرعت بصياغة هويتها التي تريدها كقوة عظمى عبر إحياء قيم الدولة القومية الروسية ذات الهوية التاريخية المميزة والحضور المهيمن في مجالها الجيوسياسي والبروز كقطب مستقل يسعى مع الآخرين لنقل النظام الدولي من حالة سيطرة القطب الأوحد إلى التعددية القطبية.