رغم محاولات بكين للنأي بنفسها عن التضرر من الأزمة الأوكرانية، فإن علاقتها مع موسكو كانت سببًا كافيًا لتوتير الأجواء مع الولايات المتحدة، إذ وجه الرئيس الأمريكي جو بايدن، تحذيرًا أو بالأحرى تهديدًا صريحًا لنظيره الصيني، شي جين بينج، إذا قدم دعمًا ماديًّا للروس.

الصين: الشريك التجاري الأول لروسيا

تعد بكين الشريك التجاري الأول لموسكو وقد نمت هذه العلاقات على نحو متزايد في السنوات الأخيرة، فقفز إجمالي التجارة بينهما بنسبة 35.9% العام الماضي، ليصل إلى مستوى قياسي بلغ 146.9 مليار دولار وفقًا لبيانات الجمارك الصينية، حيث تعمل روسيا كمصدر رئيسي للنفط والغاز والفحم والسلع الزراعية، وتحقق فائضًا تجاريًّا مع الصين.

كان الاثنان يهدفان إلى زيادة إجمالي التجارة إلى 200 مليار دولار بحلول عام 2024، لكن تم الإعلان عن رفع الرقم المستهدف إلى 250 مليار دولار، الشهر الماضي خلال زيارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى بكين لحضور دورة الألعاب الأولمبية الشتوية.

ويعد قطاع الطاقة من المجالات الرئيسية للتعاون بين الطرفين، فروسيا ثاني أكبر مورد للنفط للصين بعد المملكة العربية السعودية، حيث بلغ متوسط ​​حجم الإمدادات 1.59 مليون برميل يوميًّا العام الماضي، بما يعادل 15.5% من الواردات الصينية، ويتدفق حوالي 40% من الإمدادات عبر خط أنابيب شرق سيبيريا والمحيط الهادئ (ESPO) الذي يبلغ طوله 4070 كيلومترًا، وتم تمويله بقروض صينية بقيمة 50 مليار دولار.

وتعد روسيا أيضًا ثالث أكبر مصدر للغاز لبكين؛ فقد صدرت لها 16.5 مليار متر مكعب من الوقود في عام 2021، مما يلبي حوالي 5% من احتياجاتها من الخارج، ومن المقرر أن ترتفع إلى 38 مليار متر مكعب سنويًّا بحلول عام 2025، فالبلدان مرتبطان منذ عام 2014 بعقد لتجارة الغاز بقيمة 400 مليار دولار على 30 عامًا، كما تعد روسيا أيضًا ثاني أكبر مورد فحم إلى الصين.

وتتدفق إمدادات الغاز الروسي للصين عبر خط أنابيب «قوة سيبيريا» منذ عام 2019، وتهدف موسكو إلى بناء خط جديد لذات الغرض تحت اسم «قوة سيبيريا 2»، بسعة 50 مليار متر مكعب سنويًّا، وكشف بوتين، الشهر الماضي، عن صفقات نفط وغاز جديدة مع بكين تقدر قيمتها بنحو 117.5 مليار دولار.

كما تشهد تجارة المواد الغذائية بين الدولتين توسعا مطردًا، فعلى سبيل المثال بلغت صادرات فول الصويا إلى الصين أكثر من نصف مليون طن العام الماضي، ومن المتوقع أن تصل إلى 3.7 مليون بحلول عام 2024 وفقًا لاتفاق بهذا الشأن تم توقيعه عام 2019، وفي العام الماضي بدأ استيراد اللحم البقري الروسي بكميات ضخمة، ومؤخرًا بدأ استيراد القمح الروسي، فضلًا عن الأسماك والزيوت والدواجن، كما تُقبل الصين بنهم على استيراد الأخشاب من الشرق الأقصى لروسيا، حيث بلغت وارداتها العام الماضي من الخشب والمنتجات ذات الصلة 4.1 مليار دولار.

وعلى الجانب الآخر تصدر بكين للروس السيارات والآلات والهواتف المحمولة وسلعًا استهلاكية بلغت قيمتها العام الماضي 67.6 مليار دولار.

صداقة في المكاسب لا الخسائر

بعد الغزو الروسي لأوكرانيا عام 2014، أجبرت العقوبات الغربية موسكو على التطلع إلى الاستثمارات الصينية، وفي إطار مبادرة الحزام والطريق ساعدت البنوك الحكومية الصينية في تمويل البنية التحتية ومشاريع النفط والغاز في روسيا، وافتتحت الدولتان خطًّا لمبادلة عملتيهما لتسوية التجارة الثنائية في عام 2014.

وزادت نسبة هذه المعاملات التي تتجنب استخدام الدولار تدريجيًّا، ففي حين لم تكن تتجاوز 2% فقط عام 2013، فإن 28% من الصادرات الصينية إلى روسيا في النصف الأول من عام 2021 تم دفع ثمنها باليوان، واستحوذت العملة الصينية على 13.1% من احتياطيات النقد الأجنبي للبنك المركزي الروسي في يونيو/حزيران الماضي، مقارنة بـ 0.1% فقط في نفس الشهر عام 2017، وانخفضت حيازات موسكو بالدولار إلى 16.4% من 46.3% في نفس الفترة.

وحققت تلك الإجراءات مكاسب اقتصادية للطرفين، لكن مع بدء الأزمة الأوكرانية الأخيرة تخلى الصينيون عن دعم الروبل خشية التعرض للعقوبات الأمريكية، ففقدت هذه العملة كثيرًا من قيمتها مما دعا بوتين، الأربعاء، لفرض دفع ثمن الغاز بالروبل على الدول التي وصفها بـ «غير الصديقة»، قاصدًا أعضاء الاتحاد الأوروبي الذين يعتمدون على غاز بلاده.

ومع تصاعد العقوبات ضد موسكو، بدأت بكين تتعامل معها بحذر شديد؛ ففي حين أن الصين هي الشريك التجاري الأول لروسيا، فإن العكس ليس صحيحًا، ولا تشكل التجارة بين البلدين أكثر من 2% من إجمالي حجم التجارة الصينية.

وتجدر الإشارة إلى أن أزمة أوكرانيا السابقة عام 2014 – عندما ضمت روسيا شبه جزيرة القرم – شكلت فرصة لبكين فوسعت التجارة مع الروس بأكثر من 50% وأصبحت أكبر وجهة تصدير للروس، بعدما سُدت المنافذ الغربية أمامهم، واليوم تجد بكين نفسها في موقف مقلق يحمل فرصًا ومخاطر؛ فهو يجعل موقفها أقوى أمام حلفائها المنبوذين عالميًّا، لكن حجم المصالح الثنائية لا يستحق المجازفة بالمصالح الضخمة مع الغرب، خاصةً بعد أن بدأت أسهم الشركات الصينية العملاقة في الأيام الأخيرة تتعرض لعمليات بيع كبرى مدفوعة بالمخاوف من احتمال تعرضها لعقوبات أمريكية بسبب العلاقات مع الروس.

وقد أعلنت بكين صراحة أنها ليست طرفًا في الأزمة الأوكرانية، ولا تريد أن تؤثر العقوبات عليها، وقرر البنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية الذي تهيمن عليه بكين أن يحذو حذو البنك الدولي ويوقف جميع مشاريعه المتعلقة بروسيا وحليفتها بيلاروسيا، ورفض الصينيون تزويد روسيا بقطع غيار الطائرات اقتداءً بالشركات الأمريكية والأوروبية.

صحيح أن بكين وموسكو لهما مصالح استراتيجية مشتركة في تحدي هيمنة الولايات المتحدة، لكن الصين تدرك أن المواجهة في الظرف الحالي ستضر بها بشدة، فهي ما زالت لا تستغني عن التكنولوجيا الغربية، ولا تستطيع بنوكها مقاطعة الدولار.

وعلى الرغم من الرسوم الجمركية المتبادلة والتوترات السياسية بين أكبر اقتصادين في العالم فقد ارتفعت التجارة بين الصين والولايات المتحدة العام الماضي بنسبة 28.7% وبلغت 755.6 مليار دولار، مثلت نسبة 12% من إجمالي تجارة الصين الخارجية البالغة 6 تريليونات دولار العام الماضي، وحافظت الولايات المتحدة على مكانتها كثالث أكبر شريك تجاري للصين بعد الآسيان والاتحاد الأوروبي.

كما شهدت الروابط مع أوروبا تناميًا هائلًا، فبينما كان الاتحاد الأوروبي منذ العام 2004 الشريك التجاري الأول لبكين، استطاعت الأخيرة في عام 2020، إزاحة الولايات المتحدة لتصبح الشريك التجاري الأول للاتحاد الأوروبي، كما أن «مبادرة الحزام والطريق» الصينية العالمية تضم 23 دولة أوروبية.

وقد نمت المبيعات إلى دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة مؤخرًا بمعدلات قياسية، لأن بكين استطاعت التكيف بسرعة مع فيروس كورونا واستغلت بداية التعافي العالمي من الجائحة لرفع حجم صادراتها إلى الخارج بوتيرة أسرع من الدول المنافسة، وهو ما انعكس بشكل إيجابي على تدفق العملات الأجنبية، وبلغ عجز الميزان التجاري للولايات المتحدة ضعف ما كان عليه قبل انتشار فيروس كورونا، وبلغت الزيادة في التجارة الخارجية العام المنصرم 1.4 تريليون دولار.

ولا يريد التنين الصيني التضحية بهذه المكاسب الاقتصادية الهائلة، معتقدًا أن موقفه الحالي من الحرب الأوكرانية سيجنبه التعرض لكثير من التحديات، بينما ينشغل الآخرون في صدامات وخسائر متبادلة تنهك الجميع ما عدا من ينأى بنفسه عن الصراع، وتبدو بكين اليوم في موقف به بعض الشبه إجمالًا بموقف الولايات المتحدة في الحربين العالميتين عندما حافظت على قوتها الاقتصادية واستفادت من الحرب رغم أنها كانت منحازة إلى أحد الأطراف، لكنها لم تتدخل إلا بعدما أنهكت الحرب الجميع.