من فتى هارب إلى صقر قريش: هكذا كانت الأسطورة
تداعيات الانهيار
بدا من الواضح للعيان أن مُلك بني أمية يأكل بعضه بعضًا، وأن أمرهم إلى زوال، فمنذ مات آخر خلفائهم الأقوياء «هشام بن عبد الملك» وتولى «الوليد بن يزيد» الخلافة من بعده فبدأ الصدع من عيوب أخذها الأمراء على الخليفة الجديد وشاعت بين الناس، إلى الوثوب عليه وقتله، ولم يكد يمضي العام على توليه، وهكذا كانت نبوءة الوليد قبل مقتله:
ويكأنها كانت النبوءة، فلم يستقر خليفة على العرش الذي أصبح كالجمر لا يستقر عليه حاكم مهما كان، فبمقتل الخليفة «الوليد» وتولي ابن عمه «يزيد بن الوليد» سدة الحكم، لم يستقر الحكم لوفاة الخليفة الجديد المفاجئة بالطاعون، وحينها بدأ الصراع الواضح بين الكثير من الأطراف في البيت الأموي الحاكم، فعلى جانب يقف «إبراهيم بن الوليد» شقيق الخليفة المتوفى يطالب بحقه في الملك من دمشق، وعلى الجانب الآخر تحرك أمير أرمينية وأذربيجان «مروان بن محمد بن مروان بن الحكم» مطالبًا أولًا بحق ولدي الخليفة المقتول، «الحكم» و«عثمان»، في ميراث أبيهما من الحكم، مدعيًا أنه ليس له أي حق في الخلافة.
وبما أن الكلمة في الحكم بعد الصراع أصبحت للسيف؛ فقد استمر مروان في زحفه نحو عاصمة الخلافة حتى دخلها، ولما وجد أن الحكم وعثمان قد قتلا؛ أعلن الأمر لنفسه وتمت بيعته بالخلافة في صفر من عام 127هـ منتزعًا بذلك الخلافة من بني عبد الملك. وأصبح مروان الخليفة الثالث عشر من خلفاء بني أمية، ولكن طوفان الانهيار لم يتوقف. فأول الأمر أن مروان وجد بيت المال فارغًا من كل ما كان فيه بعد أن تم نهب الخزانة بواسطة «إبراهيم بن الوليد» قبل فراره، ثم ازداد الأمر سوءًا بقرارات مروان المتتابعة؛ فالخليفة الجديد أعاد توزيع النفوذ بين قبائل العرب، فقرّب قبائل القيسية على اليمنية خلافًا لسنة أجداده من خلفاء الأمويين، وهكذا زاد الطغيان بسبب العصبيات بين القبائل، ولم يستطع الخليفة أن يمنعه بعد أن اعتزل عاصمة الخلافة في دمشق واستقر في مدينة حران.
الجمر تحت الرماد
في أثناء ذلك كان العدو يتحرك في الخفاء بمهارة وقوة، فلم ينس الهاشميون من آل البيت ثأرهم مع بني أمية منذ خرج «معاوية بن أبي سفيان» على خلافة أمير المؤمنين «علي بن أبي طالب»، ثم تأسيس دولتهم ومقتل «الحسين» ومن بعده «زيد بن علي»، وعلى ذلك كانت ذرية «عبد الله بن العباس بن عبد المطلب» تمهد لنفسها الدعوة وتبث الدعاة في الخفاء، مستغلين بطش بني أمية وولاتهم وسخط الموالي من الفرس عليهم يدعون لإمام يقيم العدل من آل محمد تنحدر راياته السوداء من المشرق كالطوفان لتكتسح مملكة الأمويين الشاسعة.
وبنظام شديد التعقيد تسلسل هرم الدعاة في الدعوة العباسية، والتي استمرت ما يزيد عن الثلاثين عامًا، لا يعلم أحد باسم إمامها «إبراهيم بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس»، وذلك حتى حانت اللحظة التي استغلها رئيس دعاته وولي أمره في خراسان «أبو مسلم الخراساني»، فبدأ التحرك العاصف من الشرق ليحمل الخلافة للإمام المختفي في الحميمة من بلاد الأردن.
هكذا جاءت الرسالة الشعرية المستغيثة من والي خراسان «نصر بن سيار» لتخبر الخليفة مروان بعظم الخطر الزاحف من الشرق، ولكن الخليفة المشغول بتصفية الحسابات في الشام وبمقاتلة الخوارج في العراق لم يكن لديه ما يكفي لرد العباسيين وراياتهم السوداء عن المشرق، فترك نصرًا وخراسان لمصيرهما وهو ما قد كان.
وتولى السفاح!
تسارعت الأحداث وبرغم استطاعة الخليفة مروان أن يقتل إمام الدعوة العباسية إلا أن ذلك لم يمنع باقي الأسرة من الفرار حتى بلغوا الكوفة من أرض العراق، وهناك أعلن إمام الدعوة الجديد نفسه وصعد المنبر مطالبًا ببيعته بالخلافة وخطب في الناس «عبد الله بن محمد بن علي» المكنى بـ«أبي العباس» الذي أخذ أغرب لقب ملوكي في التاريخ، وهو ما استمده من خطبته الشهيرة حينما قال:
وهكذا بدا الطريق الذي اختاره العباسيون للحكم على أنهار من الدم التي باركها وأمر بها الخليفة السفاح.
بذلك تجمعت جيوش العباسيين في مقابل جيوش الأمويين عند نهر الزاب الأكبر شمال العراق، وبرغم فرق العدد الواضح لصالح الأمويين إلا أن النتيجة كانت توحي بالعكس من ذلك، فوقعت الهزيمة الساحقة على بني أمية واستمر خليفتهم مروان بالهروب حتى قتله العباسيون في قرية بوصير في الجيزة من ديار مصر؛ فانتهت بذلك دولة الأمويين وملكهم الذي كان يومًا ما قويًا مهابًا بعد 90 عامًا فقط من بداية خلافتهم.
نهر الزاب الأكبر الذي كُتبت عنده سطور النهاية لحكم بني أمية في المشرق
بعد الهزيمة تتبع العباسيون بني أمية بالقتل والتشريد وبكافة الطرق والأشكال الممكنة حتى إعطاء الأمان والنكث به بعد التسليم، وسال الدم أنهارًا بأمر الخليفة السفاح وقائد ثورته أبي مسلم الخراساني، وكان شعارهم في ذلك:
الهارب من المذبحة
وفي خضم تلك المذابح استطاع فتى يبلغ العشرين من العمر هو «عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك» أن يفر بنفسه ومعه خادم له يدعى «بدر»، وبعدما رأى عبد الرحمن مقتل شقيقه الأصغر هشام أمام عينيه بسيوف العباسيين، اتخذ قراره يحدوه في ذلك حلم ونبوءة قديمة رددها البيت الأموي قبل انهيار دولته وبنائه.
انطلق عبد الرحمن بصحبة بدر قاصدًا الشرق أولًا ليضلل من يطارده، ثم إذ به يلتف ويعود إلى الغرب ثم إلى جنوب الشام متخذًا وجهته إلى فلسطين ليتجهز منها كي يعبر إلى مصر عبر صحراء سيناء القاحلة.
بداية الأسطورة
تجهز الفتى وخادمه إذن لعبور الصحراء القاتلة صوب الفسطاط هروبًا من المُسَودة – وهو اللقب الذي كان يطلق على العباسيين لارتدائهم السواد وجعله شعارًا لهم – وفي مصر لم تكن هناك الفرصة لالتقاط الأنفاس، بل لا بد من مواصلة الرحلة صوب الهدف البعيد، فالأمير الشاب كانت تحركه الرغبة في الوصول لأقصى الغرب من ممالك الخلافة إلى الأندلس البعيد.
وفي القيروان عاصمة أفريقية والمغرب كان العدو مترصدًا وما يزال، وهو والي المغرب «عبد الرحمن بن حبيب الفهري» الذي بايع السفاح بالخلافة، واشتد في مطاردة بني أمية والتنكيل بهم باسم الخليفة الجديد، وبالطبع كان الأمير الهارب الذي حاز الشهرة هدفًا لجند ابن حبيب، ومطاردته المستمرة التي جعلته يستمر في الفرار من المغرب الأدنى في تونس، حتى يصل إلى شاطئ البحر متتبعًا هدفه، ورغم مطاردة الجند واشتداد العاصفة عليه ما فتئ يردد دائمًا:
على شاطئ البحر
وأخيرًا بعد 5 سنوات من الفرار والهرب والتخفي وصل الأمير الشاب مع خادمه بدر إلى غايته فوقف على شاطئ البحر في سبتة يترصد للشاطئ المقابل حيث الجنوب الأوروبي والأندلس التي تخوض غمار حربها الأهلية الشرسة منذ ما يزيد عن العشرة أعوام.. بهذا استطاع الفتى الطموح من بني أمية الفرار من طوفان الدم وبحر السيوف، وعلى شاطئ البحر بعيدًا عن الرايات السوداء وقف عبد الرحمن بن معاوية وحيدًا في المغرب باحثًا وساعيًا ومترقبًا حلمه الأكبر بحكم الأندلس، ولكن كيف السبيل إلى ذلك؟