في ذكرى التأسيس الخامسة: وما أدراك ما «رواة»!
الساعة الآن هي الواحدة صباحًا بعد منتصف الليل .. طريقٌ موحشة تكادُ تُنسي المرء أن في الدنيا إيناسًا ما. ليست قيادة السيارة لساعتيْن على مثل هذه الطريق هي النهاية الأنسب ليوم عملٍ شاقٍ، لا سيَّما والنوم يحاول بإصرار أن يغزو عينيْ قائد السيارة الغارق في الإنهاك حتى الثمالة. يشعر من يتخيَّل هذا المشهد بالقلق الشديد، وقد يظن أنه مقدمة لقصة قصيرة حزينة ستنتهي بعد دقائق قليلة بحادثٍ مروري بشع، لكن خلال نفس تلك الدقائق القليلة المقبلة سيتغير المشهد تمامًا ..
تهدر سمَّاعات السيارة بتلك القصيدة الشهيرة من قصائد أبي الطيب المتنبي، بإلقاء حماسيٍّ لواحدٍ من فناني «رواة» على موقع غيمة الصوت soundcloud الشهير، فتقلب سكون الليل المُخيف إلى صخبٍ مُنعش، لا سيَّما وقد اندمج قائد السيارة مع الأبيات الهادرة، واعتبر نفسَه جزءًا من كورال موسيقي طليعي.
عبرَ قصيدتيْن أو ثلاث للمتنبي، وأخرييْن لمحمود درويش، وأُخَر لتميم البرغوثي، وعشرات المقاطع المتنوعة من بين ما يقارب 2600 مقطوعة متنوعة لرواة على قناتها في موقع الصوتيات الأشهر محليًا وعالميًا، مرَّت الساعتان، ليسَ بسلامٍ فحسب، إنما بمتعةٍ أيضًا، واعتبر قائد السيارة نفسَه محظوظًا لكونه واحدًا من بين ما يُقارب 80 ألفًا من متابعي «رواة» على هذا الموقع الصوتي الشهير، والتي لم تَعُد رفيقةً له في طريق السفر فحسب، إنما تؤنسه أيضًا في أصعب مواقف حياته، وأشدها بعثًا للملالة، مثل الدورات التي لا تنتهي من الامتحانات، وبعض المناسبات الاجتماعية التي يضطر لحضورها اضطرارًا.
دندنات تكسر الغُربة العربية
هذا هو الشعار الصوتي المُميَّز الذي يسبق أيَّ محتوىً صوتيٍّ على «رواة» والذي يجعل المتابع الدؤوب مثلي يعتدل في جلسته، ويُرهِف السمع في شوقٍ وتلهُّف. وحقيقةً، لا يحمل هذا الشعار أي نوعٍ من المبالغة التسويقية، فـ«رواة» على بساطتها، هي نغماتٌ عربية تعترض رتابة رتم حياتنا الذي يبعث على الانقباض، وتكسر حواجز الغربة العازلة للصوت التي تفصل كثيرين عن اللغة العربية الفصحى السلسة، المظلومة بين حذلقة البعض وانسحاق كثيرين.
ولا يقتصر إسهام «رواة» على الإمتاع باللغة كلغة، إنما تطويعها بانسيابية في خدمة الثقافة العربية، عند طريق تحويل المعارف والمعاني وعصارات العقول والأرواح التي تسطرُها مئات الآلاف من الكلمات في الكتب والمقالات والأشعار ..الخ، إلى آلافٍ من الدقائق المسموعة المُتاحة لقطاعٍ أوسع وأوسع من المتلقّين، مع تنوعٍ بديع في المحتوى، بين مقتطفاتٍ من السيرة النبوية، وحِكم المتنبي الشعرية الخالدة، والقصف الشعري الحديث لأمل دنقل أو لمحمود درويش، ومناجاة أبي فراس الحمداني في ليل الأسر السرمدي، ومقالات العراب أحمد خالد توفيق، والخواطر الشفوقة لد.هبة رؤوف عزت، واقتباسات مترجمة لأدباء عالميين مثل فرانز كافكا، وقصص من أيام العرب التي لا تُنسى، وقطعٍ من التاريخ الأوروبي، وكتب صوتية متنوعة المجالات، وقراءات فيما وراء تلك الكُتب، وعشراتٍ من إسهامات الكتاب الشباب المعاصرين .. الخ.
وأنا أشعر دون جهدٍ كبيرٍ في الملاحظة بمدى حرص القائمين على «رواة» على خدمة المحتوى الذي يقدمونه، وذلك بإضافة المؤثرات الصوتية والموسيقية غير المتكلَّفَة، وكذلك بتسهيل سبل وصولِ المتابعين أمثالي إلى هذا المحتوى المتميّز، عبر قنواتٍ عديدة تناسب الجميع، فعلى الواجهة السهلة لموقع رواة على الإنترنت، يمكن بضغطة زر الوصول في ثانيةٍ واحدة لكافة المنصات التي توجد عليها «رواة».
لم يكتفِ القائمون على هذا الصرح الصوتي بقناتهم الفعَّالة على موقع soundcloud، فأنشاوا تطبيقًا خاصًا لرواة يحظى بتقييم 4.5/ 5 على منصة Google playstore، وفَّروا عليه الجانب الأكبر من إنتاجهم على مدارٍ سنواتٍ خمس بشكلٍ مجاني، أما الاشتراك المالي الرمزي، فهو في الأساس نوعٍ من الدعم المُستحق من المعجبين لا يشوبه إجبار. كما حرصت «رواة» على التواجد على مواقع التواصل الاجتماعي الرئيسة كافة، الفيسبوك وتويتر وإنستاجرام.
ومؤخرًا كنت من السعداء كثيرًا بتفعيل قناة اليوتيوب الخاصة برواة – وأنا من هؤلاء الذين ينفقون حصة ثابتة من يومهم رفقة اليوتيوب – والمكتظَّة بعشرات السلاسل المميزة التي قدمتها في مواسم رمضان وسواه، مثل سلسلتي الأيام الكبرى وأمة الصحراء اللتيْن تسلطان الأضواء على زوايا بعضها غارق في الظلال في تاريخ الأمة العربي، وسلسلة العارف بالشعر، والتي انتظم في عقدها مختاراتٌ شعرية بخاصة لأستاذنا في الفصاحة عارف حجاوي، وسلسلة الرومي التي تسرد سيرة الصحابي الجليل صهيبٍ الرومي، صاحب السابقة في الإسلام، والذي لا يعرف عنه الكثير من المسلمين المعاصرين ما يتناسب مع مكانته العظيمة.
ولا تكتفي «رواة» بهيمنتها الساحقة على حاسة السمع، وذائقة الروح، فأعطت النظر حقَّه عبر المئات من التصميمات البديعة التي تقدم لمنشوراتها على صفحات مواقع التواصل، ولا يبقى أمام إبداعات «رواة» سوى أن تُلمَسَ باليديْن.
ولكنني على المستوى الشخصي أتوق إلى أن تقتحمَ «رواة» مساحات أكبر وأعمق من المعرفة والثقافة العربية والعالمية، وأن تتحرَّر قليلًا من الهيمنة الأدبية والروائية والتاريخية على موضوعاتها، وأن تخوض بنا غمار الفكر والفلسفة والجغرافيا السياسية والمناظرات الإيديولوجية والتأصيل السياسي .. الخ، وظنّي أن «رواة» قادرة على تبسيط تعقيداتها دون إخلال، وتفصيل أبرز جوانبها دونَ إملال.
الزاهر أبو ورد
والحديث عن «رواة» ناقص، ما لمْ يُتمُّه الدخول إلى ساحة الصديق العظيم «أحمد أبو خليل» المُكنَّى بـ«أبي ورد»، صاحب الحنجرة النقية والروح الأنقى، والذي كان ثاني اثنيْن في غار «رواة» العظيم، وأحببت أن أستغل هذا المقام، وأن أواسيه وأواسي أحبابه في محنته الحالية، وأقول له أولًا .. لا تحزن إن الله معك ومعنا، وثانيًا .. لا يُنسى المُخلصونَ المُبدعونَ من أمثالِكَ أبدًا، مهما طالت غيبتَهم ولبثوا في السجن بضعة أشهر كالسنين، فروحهم العظيمة وأعمالهم المتجددة شكلًا ومعنىً كـ «رواة» و «إضاءات» .. الخ تظل حاضرةً دائمًا في القلوب وفي الأثير وفي تلافيف التفكير.
لقد كان الصديق العزيز أحمد مهجوسًا على مدار سنين بتجديد الروح الإسلامية المعاصرة، وكذلك تطوير المحتوى العربي على الإنترنت، كمًّا، وكيفًا، وخدمة اللغة العربية الفصحى بمُنتجاتٍ غير تقليدية، تعقد الصُلحَ مجدَّدًا بينها وبين الملايين من الشباب العربي، وأرى أنه عبر «رواة» وأخواتها قد قطع أشواطًا حسنة في سبيل هذا، وبذر في هذا المجال بذورًا لأشجارٍ دائمة الخضرة ووارفة الظل، وأدعو الله أن يخرج إلينا «أحمد أبو خليل» سالمًا بدنًا ونفسًا وروحًا وشغفًا في أقرب وقت، وأن تمر تلك المحنة الحالية في حياتِه كسحابة صيف، وألا تترك في قلبه الفتِيّ مثقالَ ذرةٍ من قنوطٍ أو انكسار.