جذور فن «المقالة» بين مونتين وابن الجوزى
اشتُهر فن المقال الحديث مع ظهور الصحافة وذلك مع بزوغ عصر النهضة الأوروبية الحديثة ، فمع انتشار الصحف والمجلات كانت الحاجة إلى المقال كبيرة كوسيلة موجزة لإيصال المعلومة إلى الجمهور المستهدف ، كما أنَّ المقالة من ناحية توصيفها بأنها تعبير غير شائع ووجهة نظر خاصة ارتبطت ارتباطا وثيقا بالاتجاه العام لروح عصر النهضة .كما أنَّ الجو المثمر للتقدم الحضارى من حيث تصارع الآراء والأفكار وتطور الأداب والفنون ودوران عجلة الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية وتشكُّل ظاهرة الرأى العام ساعد على النمو والانتشار السريع للمقالة ليس فقط من حيث الموضوع المتناول وإنما من حيث القالب أيضا .فظاهرة المقال إنما نَمَت نتيجة لموائمة الظُّروف المختلفة ومعطيات عصر النهضة ، فتداخل اهتمام الجمهور ونَهمِه للمعرفة وألحق فيها مع كُتاب وجدوا ضالتهم فى ذلك الفن الجديد وبيئة منفتحة مساعدة تصاهرت جميعها لتدفع بعجلة الفن الجديد نحو مزيد من التطور .يجمع مؤرخو الآداب الغربية على أن المقالة وُلدت على يد الكاتب الفرنسي «ميشيل دى مونتين» وذلك بعد اعتزاله الحياة العامة سنة 1570.المقال ظهر حديثا وارتبط بالصحافة ، هذا الرأى الذى لم اقتنع به يوما كيف هذا وإرثنا العربى يزخر بأنواع شتى من المقالات التى بلغت من الكمال ما يجعلها فى رتبة المقالة الحديثة متجاوزة «مونتين» نفسه ، بصرف النَّظر عما إذا كان مصطلح المقالة هو مصطلح حديث، على أنه قد وجد من القدماء من استخدم كلمة مقالة كابن الأثير فى المثل السَّائر والقلقشندى فى صبح الأعشى ، وألف أبو الحسن الأشعري كتابا سمَّاه مقالات الإسلاميين .وسواء اطلع أئمة هذا الفن على الكتابات العربية أم لا فهذا لا يخوِّل للمؤرخين الغربيين تجاهل تلك الحلقة العربية الإسلامية ، وهو بلا شك جزء من النرجسية الغربية فى الثقافة والعلوم ونظرة التعالي بل والازدراء ، اللهم إلا ما ذكره دكتور إبراهيم عوض من أن المستشرق البريطاني «روجر ألن»؛ إذ وصف «الجاحظ» – ضمن ما وصَفه في الفصل الصغير الذي عقده له في كتابه: “An Introduction to Arabic Literature” – بأنه كاتب مقالات، وأردف قائلا «وبطبيعة الحال فإن في أدبنا القديم كثيرين كالجاحظ يمكن وصْفهم بأنهم كُتَّاب مقالات أيضًا».كتاب مونتانى كما وصفه إبراهيم العريس فى مقالة له ” إنه بكل بساطة، كتاب لا منهج ولا خطة له، إنه يشبه بالأحرى تلك الكتب التي اشتهر مفكرون عرب مثل الجاحظ والتوحيدي بوضعها كتب تخبط خبط عشواء في كل فن وفي كل فكر، وتتنقل متأملة عارضة محللة رابطة بين المواضيع والأفكار، على أمل بأن يخرج القارئ منها – إذ يعيش عبرها حرية القراءة بالمعنى الأشمل والأكثر تركيزاً للكلمة ، وقد تولى بنفسه الحكم على ما قرأه وعلى العالم .
ولعل وجود كتاب وحيد لمونتين هو الدَّافع وراء جعله إمامًا لهذا الفن، كما أنه كان مُلهما لمن جاء بعده من الكُتَّاب المقاليين خاصة بعد ظهور الصحافة واحتياجها لهذا النوع المقتضب من الكتابة ففتَّش الكُتَّاب فوجدوا خير دليل لهم مقالات مونتين التى كان قد أصدرها من قبل فى عدة طبعات ، فاستوحوا كتاباتهم من كتاباته وحاكوه فيها.ثم جاء «باكون» وهو الفيلسوف الإنجليزى الشهير والذى يعد من أئمة هذا الفن فتتلمذ أيضا على كتابات مونتين بعد ترجمتها إلى الإنجليزية على يد «جون فلوريو» ، كما تتلمذ غيره من الكتاب الإنجليز أيضا على «مونتين» وقد اعترف «وليم كورنوالس» لـ«مونتين» بدين لا ينسى على كتاباته.
وتعدُّ الأشكالية هي النظر فى المقالة من حيث القالب الفنى أو الشكل فمن وضع خطوطًا ورسومًا معينة قاس عليها المقالة ولم يتخيلها بدونها جعل هذا هو مقياسه فى الحكم على الكتابات التى ظهرت قبل تشكُّل هذا القالب الفنى وبعده، بل إنَّ بعضهم جعل مونتين حدًا فاصلاً لما قبله وبعده , وهذا فيه ما فيه لأن أى فن من الفنون يأخد أطوارا مختلفة فى طريق وصوله إلى الكمال الفنى ، فينأى اللاحق منها عن السابق حتى ليتباينان أشد التباين ، فالمقالة موجودة فى الكتابات العربية كما وجدت قديما فى الكتابات اليونانية وإن كانوا يذكرون أن الثانية هى الجذور الأولى للمقال دون غيرها ، وفى الحالة العربية الإسلامية لا نتكلم فقط عن جذور وإنما عن تجارب مقالية ناضجة ، أما مسألة التكلُّف فى الصَّنعة البديعية فهذا راجع إلى ذوق العصر الذى كُتبَت فيه ولكل عصر طبيعته ، ومن التعسف أن نحاكم العصور القديمة على أذواقها .فمن الكتابات التى تشكّل عنصرًا هامًّا من عناصر الأصالة في المقال العربي بصفة عامّة، الرسائل كما فى رسائل الجاحظ ، فعنده رسائل وفصول تُعَدُّ نماذج عُلْيَا من المقال في الأدب العربي القديم وتُشْبِه المقالات في عصرنا الحديث ، فهى تتناول موضوعات فردية واجتماعية تناولًا أدبيًّا يعتمد الجاحظ فيها على إثارة العواطف ، وفصول كتبه التي كادت تُلِم بكل موضوع وما فيها من فكاهة عذبة وانطلاق في التعبير وتحرر من القيود وتدفق في الأفكار وتلوين في الصور وتنويع في موسيقى العبارات، خيرَ مثل على النموذج المقالي في الأدب القديم.ومن أبرز الرسائل ذات الصِّلة بما نُسَمِّيه “المقال اليومي” رسالة “الحاسد والمحسود” ، ومنها أيضا كتاب الإمتاع والمؤانسة لأبى حيان التوحيدى والمُطَّلع عليه يَعجَب بثقافة الرجل الواسعة واطلِّاعه الغزير, إذ يضمُّ مسائل في كل علمٍ وفنِّ: أدب، فلسفة، أخلاق، طبيعة، بلاغة،تفسير، حديث، لغة، سياسة، فكاهة ومجون، وتحليل لشخصيَّات فلسفية وأدباء وعلماء وتصوير للعادات وأحاديث الناس.أما تجربة ابن الجوزى فهى بحق تجربة متميزة ، وهو كتاب طريف فى أسلوبه يشبه كثيرا المقالات الحديثة بل تشعر بأنك تقرأ مقالة حديثة ولا تكاد تشعر باختلاف الزمن ، والكتاب فيه تأملات عميقة فى أحوال الدنيا والأخرة ، انطلق ابن الجوزى فيها بكل حرية –تشبه تلك الحرية التى وُصِفَت بها كتابات مونتين- يُنقِّب عميقا وراء الأفعال ويُبحِر فى النفس البشرية محاولا تعليل أفعالها ، تنتقل بين موضوعات شتَّى ولكن تربطها وِحدَةٌ واحدةٌ وهى إرادة الصَّلاح للغير وتقديم النُصْح الصَّادق له.فهى خواطر وشوارد تطول وتقصر بلا تكلُّف يُشعِرك بأنك أمام كاتب مقالى يعيش بيننا ، فقد خطا ابن الجوزى بأُسلوبه هذا خطوات وثَّابه سابَق فيها عصره ، يُوجِّه فيها نقده سواء كان دينيا أو اجتماعيا أو نفسيا – والذى قد يكون لاذعا أحيانا – إلى فعل من الأفعال فيجمع من الأدلة النقلية والعقلية ما يؤيِّد وجهة نظره مستضيئا فى ذلك بنور الشريعة ومصباح العقل.