«غرفة تخص المرء وحده»: مانيفستو الحركة النقدية النسوية
«لكن» هو حرف استدراك لا محل له من الإعراب، وهو الحرف الذي استخدمته السيدة «فيرجينيا وولف» لكي تستهل به مقالتها الثرية «غرفة تخص للمرء وحده» أمام الحضور بجامعة كامبريدج الشهيرة عام 1928، وهو أيضًا الحرف الذي سأستخدمه بكثرة في محاولة لفهم وتفسير ما قالته «وولف».
لم تعلم السيدة «وولف» عن الرحلة المرهقة التي ستقطعها، عند التطرق للحديث عن علاقة المرأة بالمناحي الإبداعية، وتساءلت ببراءة إذ كان من الأفضل التحدث عن الكاتبات وحيواتهن، أم أعمالهن الإبداعية، أم التوقف عند صورة المرأة في الأدب بشكل عام.
كانت تُدرِك أن المطلوب منها سهل، فالحضور في جامعة كامبريدج يطلب كلمات بسيطة عن كل كاتبة، وأسلوبها الأدبي، وبلمح البصر تنتهي القضية، ثم تعود إلى بيتها، وتتناول عشاءها، ثم تخلد إلى النوم، واثقة أنها قامت بعمل المطلوب منها بدقة، وربما إذا أرادت طريقًا آخر كانت لتسلك مذهب «جورج أليوت» وتكتب مقالة طويلة كمقالتها «روايات سخيفة من قبل روائيات»، تهزأ بها من أدب المرأة وقيمها وحياتها، فيضحك الجمهور وينتشي، ثم تعود إلى بيتها، وتتناول عشاءها، وتخلد إلى النوم، مرتاحة البال بأنها على المسار الاجتماعي السليم.
ولكن باستخدامها حرف الاستدراك «لكن»، تسلّلت السيدة «وولف» بعيدًا عن وضع أسئلة تافهة لمقالها وتدوين إجابات تطفو على السطح، في محاولة تبدو بائسة للغوص إلى الأعماق، لتأتي بإجابة ترضيها وتقنعها. فما المسار- إذًا- الذي اتخذته «وولف» لكي تُقيِّم هذه العلاقة الشائكة بين المرأة والكتابة؟
كانت الملاحظة الأولى التي انتبهت إليها السيدة «وولف» هي القلة في عدد الكاتبات، وتساءلت لماذا هناك هذا العدد القليل جدًا من الكاتبات المتناثرات عبر القرون.
ككاتبة محترفة، كانت «وولف» تدرك قيمة العزلة المؤقتة، ودورها في العمل الإبداعي: أن يكون للمرء غرفة تخصه وحده، يعني أن يكون له مكان لكي يتحرر فيه من القيود الاجتماعية، ويُقيِّم الآراء والأفكار، بما يتناسب مع مزاجه وطباعه.
أكانت للنساء غرف لهن وحدهن منفردات؟ بالطبع لا!
الدلائل التاريخية التي تتبّعتها «وولف» أكدت أن النساء- حتى وإن كن من الطبقة العالية- لم يحظين بدقائق منفردة لهن، ويُشاع أن «جين أوستن»- الكاتبة التي تُقدِّرها «وولف» كثيرًا- كانت تكتب رواياتها في غرفة المعيشة، وعائلتها ربما تتسامر حول أفضل أنواع الخزف، والطريقة الأفضل لتنسيق الزهور، والزواج الحديث لإحدى الفتيات بعد أن ذهبت إلى حفلة راقصة بفستان دانتيلا سماوي اللون، واستطاعت انتشال «جينتلمان» من الحفل.
تعود «وولف» لتتساءل لماذا لم تمتلك النساء غرفة خاصة؟ وكانت الإجابة الواضحة أن بنات جنسها فقيرات مُعدمات، يعيشن على الصدقات التي يمنحها إياهن ذكور العائلة.
ولكن لماذا كانت النساء فقيرات إلى هذا الحد إذ تمت مقارنتهن بالرجال؟
تجيب «وولف» بكل تلقائية أن السبب هو التعليم. النساء لم يكن لديهن الفرصة للتعلم، لقد أشاع الفلاسفة والمفكرون والشعراء «الرجال» منذ قديم الأزل كثيرًا من الافتراضات المُحرِّضة تجاه النوع الأنثوي، فهناك من يؤمن أن النساء بلا شخصية، وهناك منْ يعتقد أنهن بلا روح، وهناك من يؤيد ويبصم بالعشرة أصابع أنهن ذوات أدمغة أصغر، وهذا يمنعهن من التفكير أساسًا.
لم تتعلم المرأة إذًا، ولم يكن لديها المتسع لكي تُنمِّي ملكاتها العقلية والحسية، وأُرغمت على القبوع في المنزل، وغُصبت على لعب أدوار اجتماعية محددة كزوجة وأم، وأي امرأة حاولت أن تخرج عن هذه الأدوار كان مصيرها يتنوع ما بين الاستهجان والإقصاء من المجتمع إلى الانتحار هربًا من الجحيم المجتمعي.
ولكن لماذا حصر الرجال المرأة في هذه الصورة وهذه الأدوار، لماذا لم يكن هناك مجال رحب للجميع؟ تظن «وولف» أن الأصل في هذا الحصر هو الغضب.
إذا الرجل- من وجهة نظر «وولف»- لكي يمتلك الثقة والقوة ومن ثَمَّ الثروة والسلطة، تحتم عليه أن يكبت المرأة ويُخضعها ويُسخِّرها لخدمة أغراضه، فانحصرت السيدات في نطاق معين، محرومات من التعليم، محرومات من التجارب الحياتية المهمة للنمو، محرومات من الكسب المادي وإعالة أنفسهن، لذلك لا غرف خاصة لهن، ولا وقت يحظين فيه بأنفسهن، ولا مجال للرقي الفكري، ومن هنا قلة عدد الكاتبات، وضعف إنتاجهن.
من كان يتوقع من الحضور عام 1928 أن يتطرق الموضوع الطريف الظريف عن أعمال المرأة الإبداعية، إلى القهر المُمنهج الذي تعرّضت له النساء عبر التاريخ، والذي منعهن من إطلاق حواسهن وتفكيرهن.
وعلى الرغم من أن آلات الزمن لم تُخترَع بعد- وربما لن تُخترَع أبدًا- ولكن من السهل تخيل وجوه الحاضرين، والسيدة الإنجليزية اللطيفة المتحفظة ترشقهم بالخناجر. صورة تجعل المرء يشعر بالانتعاش، حتى وإن لم يكن لديه غرفة تخصه.