«Room 237»: البحث عن ستانلي كوبريك
هناك دائما من الأفلام ما يأبى أن يعطي حقيقته المتلقي من المشاهدة الأولى، ومخرجين يجعلونك تستغرق في التأمل والتفكير وإعادة المشاهدة لمرات حتى تصل لفكرة واحدة عن الفيلم، سواء كان ذلك بقصد أو بدونه، ولأن معظم أفلام «ستانلي كوبريك» تكون غير واضحة المعنى (الفكرة الأصلية للفيلم) بشكل مباشر وصريح، وهو ليس من أولئك المخرجين الذين يعدون موقعا للتصوير ويتركون الصدفة تسيطر عليه، وأفلامه تزخر بأفكار عدة في آن واحد، وربما وضع العديد من الموتيفات في أفلامه بغرض أن تراها العين المتأملة أو جعلها تتراكم في وعي المتلقي. لكل تلك الأسباب قرر المخرج «رودني آشر» أن يخوض رحلة بحث في أحد أفلام كوبريك مع بعض المحللين ممن كتبوا عن فيلم «The Shining» أو «البريق» نظرا لتعمقهم في تحليله وتقديم رؤى مختلفة لما صنعه كوبريك في الفيلم.
«The Shining» هو فيلم من تأليف «ستيفن كينج»، عرض في عام 1980، ويحمل رسميا تصنيف الدراما والرعب، أخرجه كوبريك ضاربا بالقصة الأصلية عرض الحائط، فقد أضاف وغير من الرواية، وهذا مفهوم وطبيعي، ولكنه وبحسب الفيلم الوثائقي قد أطاح بالكاتب نفسه في أجزاء من الرواية، وهذا ما استفز كينج كثيرا.
الفيلم الذي يحمل اسم «الغرفة 237» هو بحث وثائقي عن «The Shining»، من إخراج «رودني آشر»، ويتناول افتراضيات حول أسباب قيام كوبريك بصناعته، وما الذي أراد أن يقوله ويعبر عنه من خلال الفيلم، وقد عرض عام 2012، والغرفة 237 هي محل الأحداث والخيالات التي كانت تعتري شخصية الفيلم الرئيسية جاك تورانس «جاك نيكلسون».
في بداية عرض «البريق» قال من شاهده أنه لا يتعدى كونه فيلم رعب عاديا، حتى المحللين الذين قاموا بالبحث وإعادة استكشاف الفيلم ومشاهدته لمرات أخرى متعددة على مدى سنوات طويلة بدءوا عند مشاهدة الفيلم للمرة الأولى بإصدار ذلك الحكم «ما هذا الهراء.. إنه فقط فيلم رعب»، ولكنهم أصروا على إعادة استكشاف الفيلم من منطلق أن المخرج هو «ستانلي كوبريك» صانع الأفلام الرائعة 2001: A space odyssey، Full metal jacket، A clockwork orange، وغيرها العديد من الأفلام غير العادية.
اقرأ أيضا:ستانلي كوبريك: كبيرهم الذي علمهم السحر
لم يصنع كوبريك أيا من أفلامه بهدف الرعب المطلق، حتى وإن قُدِّم الفيلم في قالب غامض وغير مفهوم ويبدو ظاهريا أنه أحد أفلام الرعب أو الخيال العلمي، هذا هو الخط الذي يسير عليه الفيلم البحثي محاولا تقديم نتائج مختلفة عن معنى «البريق» المحير، ومؤكدا أن إرهاصات كوبريك التي تبدو عليها أفكاره وأطروحاته في حاجة دائمة للدراسة وإعادة التأويل لكل مفردة وآلية يقوم فيها بصناعة فيلمه.
يحاول المحللون من خلال عملية البحث التي يقدمها الفيلم تقديم اكتشافاتهم وتأويلاتهم للبريق من خلال مرجعية كل منهم وأطر رؤيته للفيلم، كتفسير الفيلم بأن كوبريك يحكي تجربته عن تصنيع فيلم مفبرك حول الهبوط على القمر، وأن هذا هو المسكوت عنه في رحلته وحياته الخاصة، والتي لم يتمكن من حكيها حتى لزوجته نظرا لطبيعة القضية الخاصة بالحكومة الأمريكية ووكالة الفضاء الدولية «ناسا»، لذلك صنع دليلا بصريا محكما ليعترف بالحقيقة التي طالما أخفاها بداخله وأراد أن يعرفها الجميع، كما تم تأويله على أنه عن المحرقة النازية لليهود، أو على أن كوبريك قد استخدم معرفته عن التأثير الإعلاني بمدخلات الجنس غير المرئية للتأثير على المستهلك.. إلخ، والواقع أن كل تحليل عضدته أسباب عدة من قبل شارحيه.
بل بلاكمور: غليون الهنود الحمر والإبادة الجماعية
أول عنصر رآه الكاتب «بل بلاكمور» للفيلم كان البوستر الدعائي له في أوروبا تحديدا كما يصف في إنجلترا، والذي طبعت عليه جملة «موجة الرعب التي اجتاحت أمريكا»، الجملة التي جعلته في حيرة من الفيلم إلى أن شاهده وتوصل إلى أن «ستانلي كوبريك» صنع هذا الفيلم من أجل الهنود الحمر أو السكان الأصليين لأمريكا، وأن هذا الرعب المقصود به هي جريمة الإبادة الجماعية التي تمت ضدهم من قبل «الرجل الأبيض» الذي قتل الهنود ليطهر الأرض منهم ويبدأ عمليات التنقيب الصناعية في أراضيهم.
يرى «بلاكمور» أن جاك نيكلسون في الفيلم يمثل هؤلاء البيض الوحشيين، ورمز لذلك بالمشهد الذي كان يدمر فيه نيكلسون الباب باستخدام بلطة، وهو المشهد الراسخ عن تدمير البيض لبيوت وأملاك الهنود ببلطات وفئوس، كذلك وجه زوجته وندي «شيلي دوفال» المرتعب هو وجه الهنود المذعورين مما يتم ضدهم من عنف وإبادة.
يؤكد «بل» على نظريته في تحليل الفيلم من خلال ما يقول إن ذاكرته البصرية ظلت محتفظة به بعد مشاهدته للفيلم للمرة الأولى، ألا وهو علبة (خميرة الخبز) التي تحمل اسم (كالوميت)، والتي ظهرت خلف رأس هالوران «سكاتمان كروثرز» -الممثل الهندي الأصل في الواقع- وكانت العلبة وحيدة غير متكررة ما يفسره بلاكمور على أنه الحقيقة المطلقة التي لا يطغى عليها مضمون آخر، وقد تكرر ظهور علبة الخميرة تلك في مشهد آخر لجاك نيكلسون وهو يتحدث مع شخصية أخرى، وكانت عدة علب منها مرصوصة بشكل معين بحيث لا تظهر كلمة (كالوميت) على إحداها بشكل كامل ما يفسره بلاكمور على أنه عهد سلام غير صادق.
مشهد من فيلم «البريق The Shining»
ولمن لا يعرف معنى «كالوميت» التي ظهرت على علبة الخميرة في الفيلم أو في اسم آخر (القلموت)، والتي تعني (غليون السلام)، فهي أسطورة خاصة بالهنود تحمل الأجيال الجديدة من الهنود أو السكان الأصليين لأمريكا مسئولية البحث عن بلاد جديدة خالية من البيض الهمجيين لكي يعيشوا فيها بسلام.
يستمر «بلاكمور» في تقديم تفسيرات تدعم من رؤيته للفيلم عن كونه يعبر عن الإبادة الجماعية للهنود، فيكتشف ويقدم لنا عدة تفاصيل يزخر بها الفيلم عنهم كالصور المعلقة على الجدران، واللوحات الجدارية عنهم، كما يستعرض مشهد وندي وهي تقول لابنها داني إن الخاسر عليه أن ينظف أمريكا في إحالة منه على أن الهنود هم الخاسرون، كذلك يؤكد «بلاكمور» على أن الفندق الذي صورت فيه أحداث الفيلم كان بالأساس مقبرة جماعية للهنود الحمر.
جاي ويدنر: رحلة إلى القمر
ينطلق «ويدنر» من طبيعة عمله بالأرشيف السينمائي لمدة طويلة، ويبدأ حديثه بالكشف عن «الفبركة» التي تأكد منها بمشاهدة المواد المصورة عن الحرب العمالية الثانية مرارا وتكرارا، مؤكدا أنه من خلال تحليل كل الصور والشرائط الإخبارية التي شاهدها عن الحرب يثق تماما بأن النسبة الأكبر منها مُمَثَّلة وليست واقعية، وهو يعرف ذلك من دراسة الاتجاهات والمواقع في الصورة.
يقول ويدنر أن ثمة الكثير من الأسباب التي أكدت له وجهة نظره داخل الفيلم، منها الاتفاق الذي أتمه جاك مع أولمان مدير الفندق وهو الممثل «باري نلسون»، والذي اختاره كوبريك لتشابهه كثيرا مع الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون بعدما أضاف له الماكياج والشعر المستعار المناسبين، والذي أسقطه ويدنر على الاتفاق الذي تم بين كوبريك والحكومة الأمريكية لفبركة فيلم عن الهبوط على القمر بــ «أبوللو»، وأيضا إخفاء جاك لطبيعة عمله أو ما يقوم به على زوجته وندي هو محاكاة لشعور كوبريك في الواقع.
«جاي ويدنر» كان المحلل الأكثر صراحة في الفيلم، حيث واجه نفسه بالنقطة الأكثر أهمية على الإطلاق، وصاغ تلك النقطة بطريقة التساؤلات الأبدية للناقد: هل أشوه خط الفيلم الحقيقي بتأويلي، هل أقرأ الفيلم حسب ما تقرأه عليّ خبرتي ويخزنه وعيي، هل تلك النتائج نابعة من رغبتي الخاصة في إثبات فرضيتي، وهل هذا ما قصده كوبريك بالفعل؟
لكنه كلما حاول طرح تلك الأسئلة واجهته إشارات الفيلم التي يرى أنها أكدت فرضيته بأن «ستانلي كوبريك» صنع هذا الفيلم ليعترف بمشاركته في فبركة فيلم الصعود إلى القمر، وهي الرحلة التي أتمتها ناسا في العام 1970، ففي مشهد للطفل «داني» كان يرتدي سترة كتب عليها «Apollo USA» على رسم لصاروخ يتجه للأعلى.
واستدل ويدنر، مؤكدا روايته، برقم الغرفة محل الأحداث 237، والتي لا تحمل هذا الرقم في الرواية الأصلية لستيفن كينج بل كانت مرقمة بــ 207، وعندما سئل كوبريك عن سبب تغييره للرقم قال إن إدارة الفندق طلبت ذلك بحجة أن هناك غرفة تحمل ذات الرقم في الرواية، فتم تغييرها إلى 237 حتى لا تسبب ذعرا لنزلاء الفندق فيما بعد، لكن ويدنر يؤكد أن هذا السبب غير صحيح على الإطلاق، حيث لا توجد غرفة تحمل الرقم 207 في الفندق، وفسر ويدنر ذلك بأن 237 في الواقع هو البعد الذي يفصل الأرض عن القمر، أو 237 ألف ميل تفصل الحقيقة عن الكذب.
في النهاية.. لا أستطيع أن أجزم بأحقية كل رؤية في الفيلم الوثائقي الصغير عن «البريق» أو فيما يخص «ستانلي كوبريك». فلا أحد يستطيع القطع بأن الرؤى التي قدمها أولئك المحللون هي الحقيقة التي أراد كوبريك أن يقدمها أو يوصلها بالفعل، أو أن كل تحليل نابع من معايشات صاحبه ومحاولاته لإثبات فرضيته رغم تدعيم الفرضيات المطروحة بأسباب عديدة، وربما كان أقلها هو الطرح الجنسي الذي تناوله أحد المحللين باعتبار أن كوبريك استغل معرفته بالأدوات الإعلانية الخفية للتأثير على المشاهد واستخدمها كي يروج لفيلمه.
الأهم من كل ذلك هو أن كوبريك استطاع تحقيق فيلم يحمل العديد من الأفكار التي تجعل من المستحيل تفسيره تفسيرا قاطعا وباتا، وتضمينه إشارات مرئية وسمعية مختلطة تجعل من تحليله أمرا شاقا ومربكا، وهو ليس بالأمر الجديد على كوبريك فمن قبله قد أجهد الكثير في تحليل فيلم 2001: A space odyssey.