رونالدو .. ليه؟
اليوم وبعد ما يقارب الثلاثة الأعوام من توقفي عن الكتابة قررت أن أعود مرة أخرى. من أجل رونالدو؟ ربما، ولكن من داخلي وبكل سلام نفسي أجد نفسي مدافعًا عني، ليس أنا فقط ولكن عن الكثير من أبناء جيلي ممن بدأوا العقد الرابع وعانوا إحباطات ويأسًا وقلة حيلة، الكثير ممن كانوا يرون في كرة القدم الحلم الذي لن يتحقق، وفي رونالدو البطل الذي فعل كل ما كانوا يريدون فعله.
قررت البدء بتصريح مورينيو عن الصورة الشيطانية التي صدرها الإعلام لسنوات عنه، في مقابل الصورة الوديعة لبيب؛ لأن هذا ما عانى منه رونالدو دومًا. ربما لأنهما من نفس البلد ويحملان نفس الثقافة، أو لأنهما واجها نفس التهم أمام نفس الخصوم! لا أعلم، ولكن ما أعرفه هو أن جوزيه متحدثًا أفضل من رونالدو؛ لذلك اقتبست منه هو.
السؤال دومًا وبعاميتنا المصرية الجميلة سيكون «ليه؟». مائة ليه وليه عانى منها رونالدو، ولكن هنا سنذكر البعض فقط في مسيرة امتدت لما يقارب العشرين عامًا.
لماذا تبكي؟ الرفض؟
كما الحال الآن ولكن قبل حوالي أربعة عقود ولد كريستيانو لأب سكير وأم تعمل بالطبخ. القصة التي يعرفها الجميع، ووالدته التي كادت أن تجهضه لسوء الأحوال المادية، ولكن هل تعلمون أن الكوميديا السوداء استمرت؟
يروي باروس سوزا، أو كما يُعرف بالأب الروحي لرونالدو، أنه يوم تعميده كطقس ديني مسيحي ذهبوا به هو ووالده متأخرين عن الموعد، ورفض القس إتمام التعميد حتى أقنعوه بعد فترة!
كان يطلب التدليل بصورة أو بأخرى، لكنه لم يجده، فكان يرد الفعل بالبكاء أحيانًا ويرمي الكرسي في وجه معلمه مرة أخرى؛ لأنه على حد تعبيره لم يحترمه!
الكل ضده: ليه؟
في مرحلة ما لن يصبح البكاء حلًّا فتلجأ حينها لحيل أخرى مثل كثرة المراوغة في بدايته مع اليونايتد فيتشاجر معه لاعبو فريقه، ويصرح ضده أحد قدامى الفريق مثل جاري نيفيل أنه لا يمكن تحمله لعام آخر! شجار مع هداف الفريق فان نيستلروي في التدريبات وعنف مبالغ فيه من كل مدافعي البريميرليج، كل هذا وهو مجبر من فيرجسون على ارتداء الرقم 7 الأسطوري ليخلف بيكهام وكانتونا.
على الضفة الأخرى لم تكن الصحافة رحيمة برونالدو، حيث انتقاد كل شيء، بداية من مراواغاته وقصة شعره، نهاية بحادثته الشهيرة مع روني في كأس العالم 2006 حينما ظل يلح على الحكم لطرده ثم غمز لدكة البرتغال، وكأن الهدف تحقق، حينها لم يكن يستطيع البكاء وهو في الواحد والعشرين من عمره، ولكنه صرح قائلًا: «لم أعد أتحمل البقاء في مانشستر، لم يقف معي أحد يومًا رغم أنني لم أضر أحدًا قط».
عام عصيب مر على رونالدو من حملات الصحافة عليه وتحميله طرد روني، هتافات كل الجماهير الإنجليزية ضده، فقدان والده نتيجة إدمان الكحول، وهنا كانت البداية من رونالدو الجديد.
رونالدو لم يعد المراهق الذي سيبكي عندما يأخذون منه الكرة، ولكنه تعلم من أبيه الذي لم يمت شيئًا مهمًّا، هنا أتى دور فيرجسون.
الأب الروحي
فيرجي كما يطلق عليه لم يكن مجرد مدرب لرونالدو، ولكنه كان بمثابة أبيه حتى إن رونالدو نفسه صرح بذلك في مرات عديدة. تدخل فيرجسون كان حاسمًا في توحيد صف روني ورونالدو وإعلام الأخير خصوصًا أن كل الهجوم سيتوقف عندما يصبح رونالدو أفضل.
هنا تعلم رونالدو فنًّا جديدًا غير المراوغة، وهو الرد في الملعب كما تقول الثقافة الشعبية الكروية. هاجموك؟! حسنًا سدد ولكن ليس في الميكروفون، سدد نحو المرمى.
رينيه ميولنستين أحد مساعدي فيرجسون والشخص الذي يدين له رونالدو بالفضل في تحويله لمهاجم، وبتعليمه وضعيات جديدة لاستلام الكرة ومناطق أكثر خطورة بالتحرك وتحديد هدف للموسم، النتيجة كانت تسجيل 42 هدفًا في موسم 2007-2008 والحصول على الدوري ودوري أبطال أوروبا بأداء – ولأول مرة يعترف الجميع أنه – عالمي من رونالدو.
هنا أدرك كريستيانو أن كل مشكلاته مع الكل ستنتهي بدخول الكرة للشباك. المرحلة التي ظل فيها رونالدو حتى قبل سنة من الآن، 15 سنة من الهجوم عليه وتسجيل الأهداف وحصد البطولات، 15 سنة من كريستيانو رونالدو الذي يعرفه الناس.
النرجسية والخيانة
المقدمات تقود إلى نتائج، تعلمنا صغارًا أن التبخر يليه تكثف، فالنتيجة الحتمية هي المطر ولا شيء غير ذلك.
كل ما فعله كريستيانو مؤخرًا كان نتاج ما فعله الجميع به سابقًا. الضحية التي لم توافق بالدور أبدًا. كلكم تعرفون ماريو بالوتيلي الموهوب القوي السريع المتمرد على كل شيء، والذي انتهت مسيرته سريعًا. لماذا ؟ لأنه استسلم لكل ما يقال ووضع آدميته فوق الكرة وقرر الرد دومًا لينتهي الأمر بنعته بالمغرور والمستهتر.
الإنسان كائن معقد بسبب تشابك المشاعر بالأفكار بالطموحات، فكلما غلب جانب على الآخر ظهر الإنسان بمظهر مختلف. يومًا ما رونالدو البكَّاء الذي تغلبه مشاعره، ثم رونالدو المراهق الذي يريد الهروب من إنجلترا دون تحقيق شيء يذكر؛ لأنه لم يتحمل الهجوم ثم رونالدو الآلة التي تحطم الجميع.
كلمة السر في كلمة الآلة. الآلة التي أجبر الجميع رونالدو على صنعها ليعاملوه على أنه عدد من الأهداف كل موسم، والنتيجة أنهم نسوا أنه إنسان يغضب ويفرح ويثور ويبكي، إن لزم الأمر.
البكاء هو أصدق شعور إنساني والذي ظل كريستيانو مانعه – على الأقل أمام الكاميرات – من الظهور ليصدر دومًا صورة الواثق القوي، ليصرح مثلًا يومًا عندما هاجمته جماهير دينامو زغرب في إحدى ليالي الأبطال: «الناس تحسدني ربما لأنني وسيم وغني ولاعب كرة قدم رائع»، ردًّا على الصحفي الذي سأله عن سبب الهجوم.
بدلًا من البكاء هاجم هو الآخر؛ ليلومه الناس على هذا التصريح وتصبح وصمة مدى الحياة. ولكن هل تعلم أنه قبل هذا التصريح السيئ البذيء المعادي الذي أطلقه رونالدو بثلاث سنوات أصدر موقع «بليتشر ريبورت» الشهير تقريرًا بعنوان «لماذا يكره العالم كريستيانو رونالدو؟!» مقال كامل به ادعاءات بالغرور وادعاء السقوط، مقال يصف كاتبه رونالدو بأنه راقص باليه، أو على حد قوله نصًّا «باليرينا»، وأنه لاعب مبالغ في تقييمه تمامًا كديفيد بيكهام، لا يملك سوى اهتمام بقصة الشعر أو الاعتناء بالبشرة والرقص في وسط الملعب.
تقرير يصف رونالدو بالمهرج، وأن العالم كان سيصبح مكانًا أفضل إن لم يلعب رونالدو الكرة. عفوًا هل اسمه رونالدو أم أدولف، ستالين، موسوليني؟! هل شاهد أحد منكم لاعب كرة يوصف بتلك الأوصاف علنًا من قبل؟ في الحقيقة الإجابة هي لا.
في الغالب لم تكن تعلم كل هذا لأن تلك هي الخدعة التي أرادوك أن تصدقها، ويجب أن تنصاع لهم، الفيلم السينمائي لا بد له من بطلين، أحدهما حمل وديع والآخر شرير.
السؤال وإن لم يكن هناك شرير ماذا نفعل؟ نصنعه إذًا! نفعل ضده كل هذا ثم نستثيره ليصرح بأنه قوي ووسيم وغني ثم نهاجمه، نبرز ما يقول ونخفي ما نقول، نلعبها يومًا بعد يوم والنتيجة واضحة للعيان.
لكي تكتمل الرواية لا بد من وجود الحمل الوديع المسالم الذي يجب أن يجابه هذا الشرير المفترس ويتوحد العالم خلفه، ميسي، هنا فقط أدركت قيمة تصريح مورينيو المذكور سلفًا.
عذرًا لست هنا لشيطنة ليونيل، ولكنني إن أردت لفعلت، ولكن السياق يقتضي الذكر لوجوب المقارنة، وتلك المرة خارج الملعب كما فعل بلاتر رئيس الفيفا السابق حينما ظل ما يقارب الخمس الدقائق يقدم فقرة كوميدية أعجبت جميع الحاضرين، حيث قلد مشية رونالدو وأعرب عن استيائه من الاهتمام الزائد بمظهره، أما ليونيل وعلى حد وصف رئيس الفيفا فهو ولد جميل، سريع ولاعب كرة قدم رائع، وحلم كل أب وأم، ثم ختم بأنه يفضل ميسي شخصيًّا.
نسي بلاتر ذكر دور رونالدو في اندلاع الحرب العالمية الثالثة، ودور ميسي في إنقاذ الأرجنتين من الإفلاس. عفوًا! هل تتخيلون أن هذا حدث حقًّا؟ رئيس الاتحاد الدولي لكرة القدم يسخر من لاعب علنًا ويمجد في الآخر بصفات ليست بشرية.
الوعي الجمعي يتشكل، رونالدو مغرور وميسي طيب، رونالدو سيئ وميسي جيد. كل هذا ورونالدو رد بنفس طريقة بلاتر عندما أحرز هدفًا في الأسبوع التالي، والباقي ما يريده الجميع بوضع القوالب وإصدار الأحكام دون التفكير ولو لدقيقة.
النهاية: الفصل الأخير
في مشهد حزين لي شخصيًّا ولكثيرين، وسعيد لأكثر بالطبع، خرج رونالدو بعد هزيمة البرتغال من المغرب وهو لم يستطع غلب دموعه وظل يبكي في النفق المؤدي لغرفة تغيير الملابس. ليست الأولى التي بكى فيها كريستيانو، وربما لن تكون الأخير، ولكن أقسم إنها ليست ككل مرة.
بكى كريستيانو حينها من العجز والضعف وقلة الحيلة. نعم، تلك هي الأشياء التي أحب جيلنا رونالدو لأنه يقهرها، المشاعر التي كلما أحسها أحد منا نفاها رونالدو ليلة لقاء صعب بتغلبه عليها.
الأمل الذي كان يبعثه بداخلنا كان مستمدًّا من قوته وأمله هو شخصيًّا، ولكننا ككارهيه نسينا أنه إنسان أخبره جسده أن الآلة لم تعد تعمل كما كانت للرد. الآلة تعطلت لأنها حجة الله على خلقه ولأن لكل شيء نهاية.
بكى رونالدو لشعوره بالخيانة، الخيانة من فلورينتينو بيريز في 2017 والخيانة من تين هاج في 2022، والخيانة من جسده نفسه. حتى ولم يكن محقًّا، طوال مسيرته كان يريد فيرجسون آخر يشعره بالأهمية ويكون له أبًا، ولكنه لم يجد.
بكاء رونالدو يومها كان كلامًا لن يفهمه سوى المحبين، كان يقول لنا ولنفسه إن بوده الرد كما كان يفعل ولكنه لم يعد يقدر، كان يريد أن يتحدى الجميع ولكنه سقط كما سيسقط الكل، كان يريد أن يقول إنه عاد إنسانًا مرة أخرى.