قمة روما: إعادة إطلاق الاتحاد الأوروبي
في إحدى القاعات الجنوبية لمتحف الكابيتول في روما، اجتمعت إرادات ست دول أوروبية قبل ستين عامًا للتوقيع على معاهدة قُدر لها لاحقًا أن تكون المحرك الأساسي لأنجح مشاريع التكامل فوق القومي في نظام ما بعد الحرب.
الخطوة الأولى في مسار التراكم الوحدوي بدأت قبل معاهدة روما بسنوات خمس حينما قاد جان مونيه الجهد الأوروبي لإنفاذ تصورات روبرت شومان الوحدوية. شهورٌ من الجولات المكثفة بين عواصم بلجيكا ولوكسمبورج وهولندا وإيطاليا وألمانيا وفرنسا أفضت في إبريل/نيسان من العام 1951 إلى إنشاء التجمع الأوروبي للصلب والفحم. النجاح لم يقتصر على إزالة القيود التجارية وإلغاء الرسوم الجمركية، كانت تلك السابقة الأولى التي يتخذ فيها التعاون الأوروبي نمطًا مؤسسيًا بإنشاء أربع هيئات لها سلطة التشريع والإشراف والتنسيق والفصل في المنازعات بين الدول الست.
شعار فرنسا وطننا، أوروبا مستقبلنا، وإن نجح في دفع شركاء باريس الخمس إلى قبول الانتقال لمرحلة أوسع من التعاون الفيدرالي تتضمن تنازلًا عن جزء من السيادة أكبر مما اعتادت عليه لصالح مؤسسات تنظم العمل الدفاعي المشترك، إلا أنه لم يستقطب دعمًا مماثلًا من المُشرع الفرنسي.
صاغ أقطاب الفيدرالية الأوروبية، الفرنسيان جان مونيه وجاك ديلور، وثيقة لإنشاء التجمع الدفاعي الأوروبي، وقع عليها أعضاء منظمة الصلب والفحم، بينما رفض أعضاء الجمعية الوطنية الفرنسية التصديق عليها في العام 1954، ما مثل في حينه انتكاسة مزدوجة لمساعي الإليزيه بتجذير الفيدرالية الأوروبية كخيار إستراتيجي محلي، ومن ثم انتفاء إمكانية تحرير البنية المعمارية الدفاعية لغرب أوروبا من مظلة التعاون عبر الأطلسي. وكان لزامًا العودة إلى الميدان الذي اعتاد الأوروبيون التوافق بشأن مخرجاته دون الخشية من مواجهة عقبات التشريع المحلي؛ (الاقتصاد من جديد).
خلافًا للنزعة الحمائية الفرنسية المدفوعة بمخاوف القطاع الزراعي المحلي من فقدان المنافسة لصالح المنتجات الواردة من هولندا وألمانيا حال تحرير التبادلات التجارية بين دول تجمع الصلب والفحم، كانت مصالح برلين تقتضي فتح أسواق جديدة من شأنها إدامة مستويات تصدير المواد الأولية وأدوات الإنتاج عند مستوياتها المثلى التي ساهمت في تحقيق المعجزة الاقتصادية عقب إجراءات الإصلاح النقدي.
وانتهت مفاوضات الطاولة المستديرة التي جمعت قطبي الحركة الأوروبية إلى تسوية مرضية، تقبل باريس المبادرة الألمانية لإلغاء كل الحواجز الجمركية، شريطة أن تلبي برلين الرغبة الفرنسية في إنشاء جماعة أوروبية للطاقة الذرية، فضلًا عن توحيد قواعد الأجور وقوانين السياسات الزراعية بما يضمن للمنتجات الفرنسية الحفاظ على ميزتها التنافسية. وكان ذلك إيذانًا بتوقيع معاهدتي روما المنشئتين للتجمع الاقتصادي الأوروبي، والتجمع الأوروبي للطاقة الذرية في الخامس والعشرين من مارس/آذار عام 1957.
تجاوز التطبيق العملي لمعاهدة روما حاجز الأهداف المعلنة، لم يقتصر الأمر فحسب على توحيد التعريفة الجمركية وتنسيق السياسات المشتركة في مجال الزراعة، بل امتد أيضًا إلى حرية حركة السلع والخدمات ورءوس الأموال والأفراد. معاهدة روما بهذا المعنى استحدثت للمرة الأولى مفهوم السوق الأوروبية الموحدة القائمة على مبدأ الحريات الأربع، وهي التي ستصبح بعد ذلك النواة الصلبة للاتحاد الأوروبي، بل أيضًا عصب المساومات في عملية تخارج لندن من العضوية الأوروبية. منذ تلك اللحظة مرت عملية البناء الأوروبي بعديد من المحطات، تنظيميًا بصياغة معاهدات ماسترخت وأمستردام ولشبونة. وظائفيًا باتساع مظلة التعاون فوق القومي لتشمل مجالات الأمن والدفاع والسياسة الخارجية المشتركة، وجغرافيًا عبر مرحلتين مفصليتين؛ أولهما قبول العضوية البريطانية بعد رفع الفيتو الفرنسي، وثانيهما الاتجاه شرقًا بقبول عضوية 10 دول في الفترة بين عامي 2004-2007.
لم يكن بمقدور أكثر أنصار الاندماج تحمسًا أن يتصور إمكانية تطور البذرة الاقتصادية التي غرسها ساسة غرب أوروبا في كابيتول روما قبل ستة عقود إلى الكيان الوحدوي بصيغته الحالية. وبالمثل أيضًا لم يعتقد يومًا من عاصر تجربة الوحدة المالية والنقدية في فضاء الشنجن، أن تغدو الذكرى الستين لمعاهدة روما أكثر من مناسبة احتفائية، يتذكر فيها الجميع البدايات التي انطلق منها المنجز التكاملي، وأن تصير، عوضًا عن ذلك، سقفًا ارتداديًا لما يمكن أن يئول إليه المشروع الأوروبي.
فك الارتباط: التفاوض من موقعين غير متكافئين
بهذه الكلمات خاطبت مارجريت تاتشر التجمع الاقتصادي الأوروبي مطالبةً بخفض مساهمة بريطانيا في الميزانية الأوروبية. هناك في «فونتانلو» إلي الجنوب من العاصمة الفرنسية باريس اجتمع القادة الأوروبيون في العام 1984. الخلاف الكبير الذي نشب بين طرفي المحور الألماني-الفرنسي عقب وصول حكومة اشتراكية بقيادة ميتران إلى السلطة تناهض السياسات المالية لحكومة اليمين المحافظ الألماني بقيادة هيلموت كول، كان قد تم احتواؤه باجتماعات تمهيدية سبقت القمة، ما مهد الطريق لاستحداث أجندة تطوير الجماعة الأوروبية التي أصابها الجمود خلال العقدين الأخيرين. صلبُ الإجراءات الإصلاحية تعلق بأمرين أولهما إجراءات ترضية اقتصادية لرجل أوروبا المريض آنذاك بريطانيا، التي كانت ترزح تحت وطاة إجراءات تقشفية أعقبت انتفاضة خريف الغضب، وثانيهما تعميق الاندماج الاقتصادي.
لم تقف عقيدة المرأة الحديدية بوجوب الحفاظ على السيادة البريطانية، بعد حصولها على التسوية المرجوة، عائقًا أمام انخراط لندن في عملية تعميق الاندماج الاقتصادي. رشحت اللورد أرثر كوكفيلد مفوضًا بريطانيًا للعمل مع رئيس المفوضية الأوروبية جاك ديلور على وثيقة المقترحات الخاصة بإتمام السوق الأوروبية الموحدة.
تحت إشراف رئيس الوزراء الإيطالي كراكسي قدم المفوضان الأوروبيان وثيقة بيضاء تتضمن 300 إجراء تتعلق بالسوق الموحد، تم اعتمادها في الثامن والعشرين من يونيو/حزيران 1985. براجماتية تاتشر تجلت من جديد حينما ارتدت عن مواقفها الأصلية القاضية بأن لا تتجاوز الأطر القانونية للسوق الأوروبية حاجز البرنامج. أصر شركاؤها على تضمين البرنامج في إطار معاهدة القانون الأوروبي الموحد الملزمة لأطرافها.في سبيل الامتيازات الاقتصادية التي يتيحها السوق الموحد للاقتصاد البريطاني وافقت تاتشر على إجراء التضمين على الرغم مما تتيحه ذات المعاهدة من توسيع مفرط للمظلة السياسية للاتحاد الأوربي، إذ نصت على توسيع التعاون السياسي الأوروبي، الاعتراف بالمجلس الأوروبي، ومنح البرلمان الأوروبي صلاحيات أوسع في العملية التشريعية.
اقرأ أيضًا:هولندا: الاختبار القادم لأوروبا قبل سباق الإليزيه المرير
عادةً ما تُوصف رئيسة الوزراء البريطانية من قبل أنصارها، وأيضًا حليفها الجديد في البيت الأبيض بأنها الإصدار الثاني من السيدة الحديدية. تماثل الانتماء الجندري وامتلاك ذات العنفوان الخطابي ليسا كافيين لاكتمال أوجه المقارنة. تمكنت تاتشر من قراءة التبعات السلبية لغياب بريطانيا عن طاولة مفاوضات الوحدة الاقتصادية الأوروبية، تحملت دفع فاتورة سياسية مؤقتة، ثم عادت لتناور في خطابها الشهير في بروج سبتمبر/أيلول 1988 لضمان الاستقلالية المحلية عن أي مشاريع فيدرالية أوروبية.
ليس هذا ما فعلته تريزا ماي. في مقابل تحقيق انتصار سياسي ضئيل نسبيًا بوقف الهجرة القادمة من شرق أوروبا، أعلنت في خطاب ترتيب إجراءات الانفصال في يناير/كانون الأول الماضي انسحاب بريطانيا الكامل من إنجاز تاتشر، السوق الأوروبية الموحدة، مقابل السعي لتأمين صيغة شراكة اقتصادية عادلة. قايضت ماي إمكانية الولوج لأكبر تجمع اقتصادي بحجم ناتج إجمالي يناهز 18 تريليون يورو، وما يترتب على ذلك من حرية تنقل السلع والخدمات ورءوس الأموال مقابل عدم تحرير الضلع الأخير من باب الحريات الأربع أي الالتزام بحرية حركة الأفراد.
افترض معسكر الخروج أن بإمكان بريطانيا التحلل من كل التزاماتها السياسية والمالية مع حيازة نفس الامتيازات الاقتصادية بولوج السوق الأوروبية الموحد، ترفض بروكسل مبدأ الانتقائية. تعتقد لندن أن بالإمكان استخدام التحالف الاقتصادي عبر الأطلسي كورقة ضغط على بروكسل من أجل حيازة صفقة عادلة تفوق أوضاع نظيرتها في سويسرا والنرويج وليشتنشتاين، تتجاهل نسقًا من المعطيات يؤكد أن لا مجال للمقارنة بين سوق يستوعب قرابة نصف الصادرات البريطانية وآخر في واشنطن لم يلامس سقف السدس. يأتي رد الفعل من بروكسل على لسان ميشيل بيرنر رئيس المفاوضين الأوروبيين على طاولة فك الارتباط، بأن صفقة تجارة حرة لن تتم قبل دفع لندن فاتورة انفصال بقيمة 52 مليار جنيه إسترليني، تذهب لتمويل البرامج الأوروبية.
ليس معلومًا حتى الآن الموعد النهائي الذي ستقدم فيه الحكومة البريطانية طلب تفعيل المادة 50 من معاهدة لشبونة، التي تنظم إجراءات التخارج. الأكيد أنه سيقدم في نهاية الشهر الحالي بحسب ما أكدته تريزا ماي في آخر مؤتمر صحفي لها في قمة بروكسل، لكن لم تحدد يومًا فاصلًا. التكهنات ترجح أن تتجنب لندن تقديم الطلب في ذكرى معاهدة روما لأنه من شأن ذلك أن يفسر كفعل عدائي ضد الاتحاد الأوروبي في أحد أعياده، على أن تقدمه في الأسبوع الأخير من مارس/آذار.
رد الفعل الأوروبي محسوم متى كان تاريخ التفعيل، بناء مسار تفاوضي شاق تضمن بموجبه بروكسل أن يكون النمط الاقتصادي لعلاقة بريطانيا بالاتحاد الأوروبي أقل من سقف العوائد الذي تتوقعه لندن، بحيث ترسل رسالة لباقي الأعضاء السبع والعشرين، مفادها أن لا مجال للتحلل من كل الأعباء السياسية والاستفادة من كل الفرص الاقتصادية التي توفرها منظومة السوق الموحد.
الكلفة الاقتصادية سيتقاسمها الطرفان. النصيب الأوروبي المتوقع من الخسائر، جماعيًا فيما يخص استقرار اليورو، وفرديًا فما يتعلق بتخوفات الدول صاحبة الميزان التجاري المتفوق من تبعات إعادة فرض تعريفة جمركية حال انسداد مسار المفاوضات، يبقى أقل إذا ما قورن بالنصيب البريطاني. ليس ذلك الحال نفسه في ميدان السياسة. الخسائر الأوروبية متعاظمة، لم تعد مقتصرة على نمو اليمين المتطرف أو تفشي الروح الانعزالية، بل امتدت إلى استدعاء نقاشات عن جدوى الفكرة الأوروبية ذاتها، وإلى طرح حلول تنطلق من أسئلة تأسيسية، ظن الأوروبيون يومًا أنهم قد تجاوزوها عند التصديق على معاهدة روما ستين عامًا قبل ذلك التاريخ.
الكتاب الأبيض: الحاضر إذ تُجتر نقاشات التأسيس
خلال السنوات الخمس التالية لانتهاء الحرب العالمية الثانية برزت مجموعة من المدارس الفكرية التي تؤصل لآليات بناء الاندماج الأوروبي. خبرة الحرب العالمية الثانية ومن ثم الحاجة إلى إعادة تشكيل الدور الأوروبي لألمانيا بحيث يتم استيعابها في صيغة فوق قومية تحقق أهدافها الوطنية وتضمن استدامة منظومة السلم الأوروبي من جانب وإقامة جدار أيديولوجي في مواجهة تمدد الشيوعية من جانب آخر، عوامل ساهمت جميعها في أن تتجاوز كل المداخل التكاملية أصول الاستقطاب التقليدي السائد قبل الحربين الكونيتين بين القطرية وفوق القومية، لتنصرف إلى جدال آخر متعلق بالنهج الذي يتعين اتباعه وصولًا إلى الوحدة الكاملة على مستويات الاقتصاد والسياسة والدفاع.
إجمالًا يمكن التمييز بين تيارين؛ الأول يدفع بإنشاء كيان اتحادي إقليمي بمؤسسات تنفيذية وتشريعية، تنتقل إليها تدريجيًا سلطات الوحدات القطرية، أما الثاني فقد انطلق من تخوف رئيسي مفاده أن سياسة القفزات السريعة والبدء من حيث يجب أن ينتهي مشروع التكامل، قد تؤدي إلى نتائج عكسية بإثارة هواجس السيادة الوطنية، وربما ارتداد بعض الفواعل عن التزاماتها، وأنه من الأفضل الانطلاق من قضايا جزئية لخلق مظاهر التضامن أولًا على أرض الواقع، ومن ثم تقبل المجتمعات المحلية لدرجة أوسع من تكثيف المعاملات الفنية، التي بدورها ستخلق الحاجة إلى إنشاء أطر مؤسسية تنظم التفاعلات حيث تنسحب السلطات الوطنية طواعية من ممارسة اختصاصتها، ما سيفضي في الأخير، مع تعاظم تراكم المنفعة وعدالة توزيعها على كل الوحدات، إلى الوحدة الفيدرالية.
اقرأ أيضًا:هل عاد العالم لما بعد الحرب العالمية الثانية؟
حسمت أوروبا اختياراتها لصالح إستراتيجية بناء الهرم من أسفل، وانطلقت من حقبة تعاونية إلى أخرى دون الالتزام بسقف زمني أو مؤسسي مع تطوير ميكانيزمات للتكيف مع السياقات المحلية والدولية. تُرفض عضوية بريطانيا لمدة عقد ونصف خوفًا من تأثير امتدادها الأطلسي علي الاستقلالية الأوروبية، ثم تقبل بروكسل بخطاب مارجريت تاتشر في بروج أواخر ثمانينيات القرن المنصرم كإطار إستراتيجي مؤقت للتفاعلات الأوروبية. يقف البرلمان الفرنسي حجر عثرة في وجه التعاون الدفاعي في الخمسينيات، قبل أن يعطي الضوء الأخضر الإليزيه للمضي قدمًا في شراكة ثنائية مع بريطانيا لتدشين سياسة دفاعية وأمنية مشتركة في أواخر التسعينيات. وحين يقف الناخب الفرنسي رافضًا تعميق الفيدرالية بدستور أوروبي موحد في مايو/آيار 2005 تتريث بروكسل قبل أن تصدر معاهدة أقرب إلى روح مشروع الدستور المجهض شعبيًا، معاهدة لشبونة.
قابلية المؤسسات للتكيف تعود في المقام الأول لغياب الأسئلة الكبرى بخصوص الفكرة الأوروبية. ساد الاعتقاد بأن الضمير الجمعي حسم، مع كل انتقال سلس من السوق الموحدة وصولًا إلي السياسة الخارجية والأمنية المشتركة، أهدافه بإقامة وحدة إقليمية فوق قومية تضمحل في مقابلها سيادة العواصم المحلية، إلى أن وُضعت بروكسل أمام أول اختبار وجودي؛ البريكزت. تمخض عن الارتباك، الذي كان السمت الرئيسي لرد الفعل الأوروبي على نتائج الاستفتاء، نسق من الحلول المغرقة في تفاصيل تقنية، امتدت من تطوير السياسة الدفاعية وصولًا إلى مراجعة برامج الموازنة المتوازنة وإغلاق طرق تدفق اللاجئين عبر مساري المتوسط، لكن تجاهلت في مجملها فحص جذور الأزمة الشعبية للاتحاد الأوربي، وبالتبعية إيجاد مداخل الاحتواء المناسبة.
المحاولة الجادة الأولى أتت في مطلع مارس/آذار حينما عرض رئيس المفوضية أمام البرلمان الأوروبي وثيقة تتناول مستقبل الاتحاد، أسماها بـ «الكتاب الأبيض»، تمثل المساهمة الرئيسية للمفوضية في قمة روما الاحتفالية في الخامس والعشرين من الشهر الحالي. تشتمل الوثيقة على سيناريوهات خمس، تدور على أرضيتها النقاشات بين الحكومات والبرلمانات الوطنية والفعاليات الشعبية، لاختيار أيها أنسب كمسار مستقبلي للمشروع الأوروبي.
السيناريو الأول؛ المضي قدمًا مع تبني نهج إصلاحي. الثاني؛ تقليص مشروع التكامل إلى حدود السوق الأوروبية الموحدة. الثالث؛ السماح بدرجات متفاوتة من العمق بالنسبة لأوجه التكامل المختلفة. الرابع؛ أن يكون للاتحاد سلطات أقل على الدول الأعضاء ولكن يتم العمل عليها بشكل أكثر كفاءة. الأخير؛ بذل المزيد من الجهد بشكل تعاوني عبر دعم أكبر لتقاسم السلطات والموارد من خلال صلاحيات أكبر لبروكسل. من المبكر القطع بطبيعة السيناريو الذي سيستقر عليه الإجماع الأوروبي الرسمي، لكن النظر إلى حزمة متضافرة من المحددات قد تمهد الطريق لتبيان أكثر السيناريوهات ملاءمة لمستقبل الاتحاد.
التهديدات الإقليمية؛ يبرز من جانب تدخل موسكو في القرم والمخاوف المتعلقة بامتداد مجالها الحيوي عسكريًا إلى دول البلطيق، فضلًا عما ينسب إليها باستهداف مرشحي يمين ويسار الوسط بسيل من الشائعات قد تقوض فرص منافستهم في الاستحقاقات الانتخابية في برلين وباريس، ومن جانب آخر غياب أفق محتمل لحسم سياسي للنزاعات الأهلية في الضفة المقابلة من المتوسط في سوريا وليبيا وما ترتب عليها من آثار ما زالت قائمة بتدفق اللاجئين واستهداف العواصم الأوروبية الكبرى بعمليات إرهابية. كلها عوامل تدفع إلى استبعاد سيناريو تفريغ الفكرة التكاملية من بعدها الأمني وتقليصها إلى حدود ما أفرزته معاهدة روما قبل ستة عقود، بسوق أوروبية موحدة.
اليمين المتطرف؛ النفور الشعبي من الأوضاع المؤسسية للاتحاد الأوربي بتنامي نفوذ أعضاء المفوضية غير المنتخبين في تقرير السياسات المحلية في مجلات الهجرة والإصلاح المالي، أمد تيارات أقصى اليمين بقاعدة جماهيرية مطردة في عديد الاستحقاقات الانتخابية على الصعيدين المحلي والقومي. ومن شأن الإبقاء على الفكرة الفيدرالية في طورها الأكثر طموحًا الإضرار بالطابع الديمقراطي للاتحاد أمام الرأي العام، كما أن التخلي عن آفاق التكامل عدا الاقتصادي منها، سيحمل في طياته رسالة مفادها انهزام المفوضية أمام اليمين المتطرف وقيمه الأيديولوجية ممثلة في النزعة الشوفينية القومية، العداء للأقليات الإثنية والدينية، وقصر حدود حماية دولة القانون على المواطنين دون المهاجرين.
اقرأ أيضًا:قبل أن يحكم اليمين المتطرف عاصمة أوروبية الرئاسة الأمريكية؛ غالبًا ما تكون العلاقات بين الكيانات الدولية متماسكة عبر مسار معين إذا لم تكن هناك رغبة من قبل أي طرف لتغييرها، أما إذا كان هناك من ينوي إعطاء العلاقات نمطًا جديدًا عبر إحداث تغييرات مقصودة، فإن العلاقات تدخل في طور اللا استقرار. ثمة تغيرات أحادية الطرف طرأت على العلاقة الإستراتيجية الأمريكية–الأوروبية بوصول رؤية مفاهيمية إلى البيت الأبيض مغايرة لما استقرت عليه الإدارات السابقة من مركزية حلف الناتو كأداة وظيفية مزدوجة لضمان أمن أوروبا وامتداد الهيمنة الأمريكية.
الكلمة التي ألقاها نائب الرئيس الأمريكي في مؤتمر ميونخ للأمن وإن هدأت قليلًا من المخاوف الأوروبية التي أثارها ترامب بحديثه عن رغبة واشنطن في التحلل من التزاماتها الدفاعية، لكنها لم تنف كامل التوجسات، إذ ما زال المدخل الأمريكي محكومًا بحسابات التكلفة والعائد عبر الإصرار على تخصيص نسبة 2% من الموازنات المحلية لصالح الإنفاق الدفاعي، كشرط حاكم لا للاستمرار وإنما لفعالية للعلاقات الدفاعية. النمط الانتكاسي المرشحة له العلاقات عبر الأطلسية يفرض بدوره نمطًا من التفاعل بين الأقطار الأوروبية أكبر من الارتداد لوضع السوق الموحد أو الإفراط في نقل السلطة من المركز الأوروبي.
استنادًا للقراءة السابقة ترجح الكفة لصالح أحد سيناريوهين، إما المضي قدمًا مع النزوع إلى إصلاح تدريجي شريطة أن تدار أجندة الإصلاح عبر عملية تفاوضية تقبل بموجبها دولتي المركز ألمانيا وفرنسا التحلل جزئيًا من أدوار القيادة الموكلة إليهما بحكم الوزن النسبي في التمثيل المؤسسي ومعايير القوة الاقتصادية لصالح تمثيل متزايد لأجندة تكتلات شرق وجنوب أوروبا. أو القبول بقصر التعاون علي المجالات التي يكون فيها العمل الإقليمي أفضل من القطري، شريطة أن تدير بروكسل السلطات الممنوحة بكفاءة وعبر حزمة من الأدوات التشريعية تضمن استيعاب المصالح المحلية المتباينة.
- الإتحاد الأوروبي: مقدمة قصيرة جدًا، جون بيندر، سايمون أشروود، مؤسسة هنداوي
- الاتحاد الأوروبي كظاهرة إقليمية متميزة، مخلد عبيد المبيضين، الأكاديميون للنشر والتوزيع
- التفاوض من موقعين غير متكافئين، فيلليس ب كريتيك، مكتبة العبيكان
- أوروبا من السوق إلي الإتحاد: صناعة وحدة، عمرو الشوبكي، الأهرام/ 1-1-2001
- مستقبل العلاقة الاستراتيجية الأميركية-الأوربية، إلياس طاهر أمين، مركز كوردستان للدراسات الاستراتيجية
- Commission presents White Paper on the Future of Europe, Avneus for the Unity for the Eu,Brussels , 1 March 2017
- Margaret Thatcher: the Critical Architect of European Integration, Helene von Bismarck,Economic and Social Research Council