من القاهرة إلى دمشق: دور البريد الزاجل في مصر المملوكية
عرفت مصر نظامًا بريديًّا منضبطًا منذ أقدم العصور، وتحفظ لنا الوثائق بمعلومات عن طبيعة الهيكل الإداري لتلك النظم البريدية القديمة، وكذلك تزخر السجلات التاريخية في العصر البطلمي والروماني بتفاصيل عن طبيعة المراسلات وأعدادها وترتيب انتقالها وفقًا لنظام مواعيد ثابت، وقد اعتمد السعاة في نقل المراسلات أغلب فترات التاريخ على الحيوان من الخيول والبغال، ومع دخول العرب المسلمين أقروا أغلب النظم البريدية القائمة منذ العصر البطلمي، بالنظر إلى كتاب نظير حسن، «نظام البريد في الدولة الإسلامية»، ورتبوا ديوان البريد للربط بين مقر حكم الخليفة «أمير المؤمنين» ومراكز الحكام في الولايات المختلفة.
ظلت أهم خطوط البريد في مصر جزءًا من دولة الخليفة، الخط بين الشام ومصر، والخط بين مصر والحجاز عن طريق مصر السفلى، وما لبث النظام البريدي في مصر أن شهد عدة تغييرات جوهرية في طبيعته وهيكله، بعد أن استقر الفاطميون في مصر، وأنشئُوا ديوان الإنشاء، وهو النظام البريدي نفسه الذي استمر رغم التغيير في شكل النظم السياسية التي تعاقبت على مصر تحت حكم السلاطين الأيوبيين والمماليك، وخصصت له الدواوين وموظفي الإنشاء والكتاب، وتوسعت مراكز البريد والسعاة المتخصصين، لكن يظل أكثر ما يميز العصر المملوكي التوسع في استخدام الحمام الزاجل في نقل المكاتبات بين محطات بريدية معلومة.
البريد المنصور
تطور النظام البريدي بشكل غير مسبوق، وأصبح نظامًا سلطانيًّا خالصًا عام 1260م مع وصول السلطان بيبرس إلى عرش مصر، «واجتمع له ملك مصر والشام وحلب إلى الفرات، وأراد تجهيز دولته في دمشق، فعين لها نائبًا، ووزيرًا، وقاضيًا، وكاتبًا للإنشاء، «أوصاه مواصلته بالأخبار، وما يتجدد من أخبار التتار والفرنج»، ويصل إلى مقر السلطان يوميًّا إلى جانب الأخبار العسكرية والدبلوماسية، أخبار الأمراء والسجون والأسواق، وفقًا لمحمد جمال الشيال في كتاب «الظاهر بيبرس وحضارة مصر في عصره».
أنفق السلطان بيبرس مالًا عظيمًا في ترتيب البريد حتى أصبحت أخبار الممالك ترد إليه مرتين في كل أسبوع، وتمكن من التحكم في سائر المماليك بالعزل والتعيين وهو مقيم بقلعة الجبل، وأصبحت القاهرة ودمشق مركزين رئيسيين، تتفرع منهما سائر خطوط البريد، حتى صار الخبر يصل من قلعة الجبل في القاهرة إلى دمشق في أربعة أيام، ويعود في مثلها، وفقًا للمقريزي في كتاب «السلوك لمعرفة دول الملوك»، ويسجل لنا ابن فضل العمري رئيس ديوان الإنشاء في دمشق توصية السلطان بيبرس إليه، «إذا قدرت ألا تبيتني إلا على خبر، ولا تصبحني إلا على خبر، فافعل».
ونعرف من خليل بن شاهين صاحب «كشف الممالك وبيان الطرق والمسالك» كيف أصبحت دمياط محطة بريدية رئيسية، يأتي إليها البريد مارًّا بأشمون الرمان وفارسكور، ثم ينطلق منها البريد إلى غزة ثم بيروت وطرابلس، بالإضافة إلى خط بريدي ينطلق جنوبًا من القلعة موازيًا لمجرى النيل عبر الجيزة نحو مدينة قوص، وهي مركز تجاري مهم ومفرق طرق بين بلاد النوبة وبين ميناء عيذاب على البحر الأحمر، أما الإسكندرية فلها خط بريدي ثابت عن طريق دمنهور ومنفلوط.
وأرسلت الخيول تحمل البريد عبر محطات معلومة، خيولًا مختومة لا يسمح باستخدامها إلا في نقل البريد، ولا يستخدمها الولاة إلا بمرسوم من السلطان، على أن تكون المحطات مجهزة بالإسطبلات لخدمة الخيول والعناية بها، ويشرف على كل محطة أمير مملوكي (آخور) يختصُّ بالإشراف على سلامة الخيول، وفقًا للقلقشندي في كتاب «صبح الأعشى في كتابة الإنشا»، بالإضافة إلى خفراء يراقبون الطرق لحفظ مسار البريد.
وإن كان المقريزي يخبرنا في كتاب «الخطط والآثار» عن ولع سلاطين المماليك بالخيول وبذلهم الأموال للحصول على أجود أنواعها، فإننا نعرف من «شافع بن علي» في كتاب «الفضل المأثور في سيرة الملك المنصور»، كيف كان على كل والٍ أن يُحضر خيل البريد إلى محطاته في الشام والصعيد، على أن تكون خيلًا جيدة، «فلا يحضروا فرسًا عجفاء أو عاجزة»، وأن ترتب النوبات فلا يفارق صاحب النوبة مكان نوبته إلا أن يحصل على بديل.
الحمام الزاجل
إذا كنا نعرف من ابن منظور في «لسان العرب» أن الزجل هو الرمي بالشيء تأخذه بيدك فترمي به، وزَجل الحمام إرسالها من مزجل بعيد، فإن المصادر التاريخية التي تؤكد استخدم المسلمين الحمام الزاجل لنقل بريدهم منذ أن اتسع سلطانهم على عموم العراق والشام ومصر، تظل تمدنا بمعلومات طفيفة عن طبيعة هذا الاستخدام، ويبدو أن استخدمهم الحمام ظل حالة استثنائية خاصة بالأماكن المنقطعة عن العمران مقارنة باستخدام الخيول والجمال بشكل أساسي في نقل المراسلات الرسمية وغيرها، ولم يجد الحمام الزاجل العناية الكاملة، ولم تخصص له الإدارات تنظمه والدواوين تثبت فيها أنسابه إلا على يد سلاطين المماليك.
ولما كان تاريخ الدولة المملوكية فصلًا عن تاريخ مصر والشام ساد فيه حالة متقلبة بين السلم والحرب، حيث لم تنقطع هجمات الفرنج الغربيين ولا التتار الشرقيين على مدى ما يزيد عن قرنين متواصلين، فقد لعب الحمام الزاجل دورًا فاصلًا في تاريخ الدولة المملوكية، إذ كان الحمام وسيلة نموذجية سريعة التبليغ والرد في حالة الهجوم العسكري المفاجئ أو حصار المدن، وبالتالي الإفلات من يد الأعداء على عكس الخيول التي كان من السهل اعتراض طريقها.
وعليه فقد اعتنى سلاطين المماليك بتربية الحمام الزاجل حتى تزايدت أعدادها ووصلت عام 1289م إلى 1900 طائر في أبراج قلعة الجبل وحدها، إلى جانب ما اجتمع منها في أبراج الحمام في جميع أنحاء البلاد، «فلا يحصى عدة ما كان منها في الثغور المصرية والشامية»، كما يشير المقريزي في كتاب الخطط، «وتبلغ النفقة عليها من الأموال ما لا يحصى»، من رواتب مخصصة لموظفي الأبراج ومسئولي التَعليف، وتخصيص البغال من الإسطبلات لحمل الأعلاف وتوفيرها بشكل دائم، حيث يصرف يوميًّا لكل 100 طائر ربع ويبة (مكيال مصري).
كما وضعت الإدارة المملوكية نظامًا دقيقًا متعارفًا عليه في تسيير الحمام الزاجل، وجرت العادة ألا تحمل البطاقة إلا في جناح الطائر، لحفظها من الأمطار، ويراعى أن تكون الرسائل خفيفة من ورق يسمى بطايق أو ورق الطير، وهو من الورق الرقيق حتى لا تعيق عن الطيران السريع، «ولا يعمل للبطايق هامش ولا تجمل، ولا يكثر في حشو الألفاظ، ولا يكتب إلا لب الكلام، وتؤرخ بالساعة وباليوم لا بالسنين»، وكل من تصله الرسالة من الولاة يكتب في ظهرها أنها وصلت إليه ونقلها، حتى تصل مختومة.
وبالنظر إلى كتاب نظم دولة سلاطين المماليك لـ «عبد المنعم ماجد»، كان الحمام يُصبغ بلون أزرق يقارب لون السماء، أو يطلى بالأسود إذا أطلق ليلًا، كي لا يكون صيدًا سهلًا للعدو، وإن كان الحمام السلطاني له علامات تميزه عن غيره من الطيور، «وهي دغات في أرجلها أو على مناقيرها»، كما نعرف من المقريزي، ويضيف «شافع بن علي» صاحب كتاب «الفضل المأثور»، «في تيسير الحمام الرسايلي»، ألا ترسل إلا الطيور الجيدة، وأنها تكون مدرجة أي تستبدل من برج إلى آخر، حتى أن الخبر يصل في يومه من غزة بل من الشام إلى القلعة في القاهرة.
وإذا وصلت الرسائل على أجنحة الحمام الزاجل إلى القلعة، فلا يقطعها سوى السلطان بيده، حتى إن كان السلطان مشغولًا لا ينتظر أن يفرغ من أمره، وإن كان نائمًا ينبه لوصول الطائر، كما يخبرنا المقريزي في الخطط، «وهذا الذي رأينا عليه ملوكنا، لأنه لا يستدرج المهام العظيمة، إما من واصل أو هارب، وإما من متجدد في الثغور»، ويشير القلقشندي إلى كون نزع الرسالة والاطلاع على محتواها هو دور مختص به أمير مملوكي «الدوادار»، «فإذا كان الأمر الذي حضر خفيفًا استقل الدوادار به، وإذا كان مهمًّا أعلم السلطان به».
المطارات الجوية
شهد تنظيم البريد الجوي في مصر المملوكية حالة منقطعة النظير في الدقة والإحكام، إذ وصل التراسل بالحمام الزاجل إلى مرتبة البريد الاعتيادي القائم على الخيول، وأصبح البريد الرسمي يعتمد عليه بشكل أساسي، حيث أعدت له مطارات ذات أبراج كل ثلاثة عشر ميل، وأقام نظارًا مدربين يستطيعون تمييز نوع الحمام وحالته، وخفراء يراقبون وصول الحمام في النهار والليل، فإذا ما وصلت الحمامة إلى البرج اعتنوا بأمرها، وتسلموا منها الرسالة ثم يبعثون بها مع حمامة أخرى إلى البرج التالي، ولا يكاد الحمام أن ينقطع عن أبراج القلعة.
يحفظ لنا ابن شاهين في كتابه «كشف الممالك» 10 خطوط جوية رئيسية للحمام الزاجل، إلى جانب خطوط أخرى فرعية، وتشتمل على خطٍّ من مطار قلعة الجبل بالقاهرة إلى الوجه القبلي في مدينة قوص وأسوان وعيذاب، وخط قلعة الجبل إلى الإسكندرية مرورًا بمطارين في منوف العليا ودمنهور الوحش، ومن القلعة إلى مطار دمياط عبر مطارين أحدهما في بني عبيد والآخر في أشمون الرمان، ومنها يصل الحمام إلى دمشق بعد أن يمر بمطارات غزة ومدينة القدس، ومنها يتشعب الحمام بين مجموعة واسعة من المطارات إلى قيصرية وصيدا وبيروت وطرابلس وحلب، ومن حلب غربًا إلى الرحبة على الفرات وهي آخر الممالك الخاضعة لسلطان مصر.
وإن كان انتشار المطارات قد قلل من مخاطر أن تفقد الطيور طريقها إلى محطاتها، إلا أن ذلك لا يعني عدم وجود خطوط مباشرة ربطت دمشق بالقاهرة خاصة في حالات الحرب، إلا أنه لم يكن يستخدم في مثل هذه السفرات الطويلة سوى أجود أنواع الحمام الزاجلة وأكثرها ندرة، وفقًا لعبد الوهاب شاكر في كتاب «تاريخ البريد»، وفي هذه الحالة تكتب الرسالة مرتين، كما يخبرنا القلقشندي، «ويعلق كل منهما في جناح طائر من الحمام الرسائلي»، بحيث تطلق إحداهما بعد ما يقترب من ساعتين من إطلاق الأولى، حتى إن قتلت إحداهما في طريقها أو ضلت عن مطارها، يمكن الاعتماد في توصيل الرسالة على الثانية.
ويبدو أن المطارات الجوية وأبراج الحمام الزاجل هي ذاتها المحطات وإسطبلات بريد الخيل، إلا أن الحمام كان يقطع المسافة في ثلث الوقت الذي يقطعها فيه الخيول، وفقًا لكتاب نظير حسن، «نظام البريد في الدولة الإسلامية»، وبالنظر إلى كتاب ف.هايد، «تاريخ تجارة الشرق الأدنى في العصور الوسطى»، فكلما تصل سفينة إلى أي ميناء من موانئ الدولة يصعد إلى سطحها بعض موظفي الميناء، يستفسرون عن جنسيتها، ويحصون الركاب، ثم يدونون مذكرة دقيقة بأسمائهم، وطبيعة شحنتهم، ويقدم هذا التقرير إلى والي المدينة التابع لها الميناء، ومن ثم ترسل التفاصيل إلى السلطان باستخدام بطايق حمام الثغور.
ولم يزل البريد مستقرًّا بالديار المصرية والممالك الشامية إلى أن غزا تيمورلنك دمشق ودمرها سنة 1402م، فكان ذلك سببًا لانهيار منظومة البريد، ويخبرنا القلقشندي صاحب «صبح الأعشى»، كيف كان ذلك سببًا لدمار البريد في بلاد الشام، ثم سرى الإهمال إلى الديار المصرية وتعطلت إدارة البريد، «وصار إذا عرض أمر من الأمور السلطانية في بعض نواحي الديار المصرية أو الممالك المصرية، ركب البريدي على فرس له يسير به الهوينى سير المسافر إلى المكان الذي يريده، ثم يعود على هذه الصورة، فيحصل الإبطاء في الذهاب والإياب».