روجر ديكنز: كيف تلخص الحرب والفضاء والخلاص في صورة؟
أن تصبح جزءًا من رحلة خلاص بريء من سجنه، أن ترى بعينه مرة وبأعين سجانيه مرة أخرى، أن تكون جزءًا من مطاردة عبثية في بلدة مغطاة بالثلوج، ترى تفاصيل بياضها الذي يجعلك تشعر ببرودتها في كل مشهد، أن تنتقل وأنت في أوائل الألفية بشكل كامل إلى سينما الأربعينيات، ترى الأبيض والأسود والظلال المنعكسة وكأنك تشهد عصر هوليوود الذهبي، أو أن تذهب في رحلة داخل كرة بولينج، أن تشترك في عملية سطو على قطار في القرن التاسع عشر، تراه يعبر القضيب آتيًا باتجاهك، تشم الدخان المتطاير وتعميك إضاءته المفاجئة، أن تنتقل للمستقبل، تصبح جزءًا من عالم ربما لن تعيشه أبدًا، تغرق في ألوانه وأضوائه، أن تكون جنديًا في مهمة مستحيلة لا تحتمل التأخير تتابع طريقك في وقت محكم تشهد بزوغ الشمس وغروبها، تعبر إطلاق النيران ركضًا لكي تصل أخيرًا لمبتغاك، هذا ما يمكنك اختباره عند مشاهدة فيلم من تصوير روجر ديكنز.
يتأمل المصور السينمائي الشهير روجر ديكنز مسيرته الحافلة بالتحف السينمائية، ويعلق على رحلة عمله في كل منها ويؤكد على أن وظيفة المصور ليست إعادة خلق الواقع كما يوجد، بل خلق عالم متكامل يمكن أن يصدقه ويعيش فيه من يشاهده ويختبره، يفسر ذلك طرائق ديكنز في معاملة كل مشروع وكيف أن جمالياته وأسلوبيته تتغير بمرونة مع كل مخرج يعمل معه ولكنه يحتفظ برؤيته الخاصة للعالم التي يمكن تفكيكها وتحليلها.
عمل ديكنز منذ بدابة التسعينيات على مشاريع متنوعة وترشح على إثرها لثلاث عشرة جائزة أوسكار لم يفز بأي منها، ثم بداية من عام 2017 حاز أخيرًا على التقدير المنتظر نتيجة عمله في فيلم blade runner 2049 من إخراج ديني فيلينوف، ثم ألحق فوزه بفوز آخر هذا العام عن فيلم 1917 من إخراج سام منديز وهو ما يمكن رؤيته على أنه تكليل لمسيرة حافلة بالإبداع وصلت لذروة يصعب تخيل تخطيها.
المخرج المؤلف ومدير التصوير
تنص إحدى أشهر النظريات السينمائية، والمسماة بنظرية سينما المؤلف والتي أقرها الناقد أندرو ساريس وتسببت في شهرتها الموجة الفرنسية الجديدة على يد أندري بازان والمخرج فرانسوا تروفو، على أن الكاميرا هي القلم والمخرج هو المؤلف في يده رؤية الفيلم وهو المسئول عن شكله وأفكاره وخياراته الأسلوبية، لكن عند تقييم الفيلم بشكل بصري هل نعزي النتيجة النهائية لمدير التصوير أم للمخرج؟
يبدو ذلك سؤالاً بديهيًا يمكن الرد عليه دون تفكير بالخيار الأول، إلا أن الموضوع أعقد من ذلك، إذا كان من يعمل على الفيلم هو مخرج مؤلف يملك أسلوبية ثابتة ويمكن تفكيك أسلوبه وطرق عمله بشكل ثابت فإنه على الأغلب يختار رؤيته الشخصية في جماليات فيلمه البصرية، ويعين لذلك مدير تصوير من اختياره يعلم أن باستطاعته إتمام المهمة، لكن في بعض الحالات تنشأ شراكات إبداعية ثنائية تجمع مخرجًا ومدير تصوير وتستمر لفترات بسبب التفاهم والتوافق الفكري والفني، يمكن تحليل عدة شراكات بين روجر ديكنز وعدة مخرجين من بينهم سام مينديز الذي حاز عن فيلمه بأوسكاره الأخير والشراكة الأطول والأكثر ثباتا مع الأخوين كوين.
تعتبر شراكة الأخوين كوين مع روجر ديكنز واحدة من أكثر الثنائيات الفنية إنتاجًا وإبداعًا، يكتب الأخوان أفلامهما معًا ويخرجها عادة جويل كوين، وعلى مدار سنوات كان ديكنز هو اختيارهم الأثير، وعلى اختلاف أنواع وتيمات أفلامهما إلا أن الصورة دائمًا ما تكون وسيلة أساسية للحكي، على الرغم من اشتهار أفلامهما بالحوارات المطولة والسجالات التمثيلية المميزة إلا أن الصورة في الغالب هي ما يعلق بذهنك حتى مع المواضيع الفلسفية أو العبثية أحيانًا.
يملك الأخوان منهجًا أصيلاً في خياراتهما الحكائية، يستخدمان تراث السينما النوعي لكي يصلا إلى أهدافهما الحداثية، فنرى الكوميديا الحركية والويستيرن والفيلم نوار، ولكل نوع مرجعية بصرية وهنا يأتي دور روجر ديكنز في التلون والتشكل حسب ذلك العالم الذي يخلقانه من المرجعيات السينمائية المتنوعة، المناظر الطبيعية الشاسعة للويستيرن في لا بلاد للعجائز no country for old men وحماسة حقيقية true grit، وجماليات الفيلم نوار في الرجل الذي لم يعد هناك the man who wasn’t there والاتجاه لتصوير أكثر اختزالية ونقاءً في فارجو fargo، ولأن ثنائي الكتابة والإخراج كوين هم أكثر التعاونات تكرارًا مع ديكنز فيمكن تحليل أسلوبه بشكل أساسي من خلال أفلامهما.
يأتي بعد الأخوين شراكة ديكنز مع المخرج سام مينديز، وهي شراكة فنية تختلف بعض الشيء عن الأخوين، لأن مينديز وعلى الرغم من اعتباره مخرجًا مؤلفًا فهو مخرج متنوع للغاية، يعمل حسب ما يتطلبه منه مشروعه، ويأخذ العديد من المشاريع التجارية ويطوعها ناحية تفضيلاته الشخصية، ومعه يتلون ديكنز ويأخذ مساحة أكبر في إظهار أسلوبه، نراه مثلاً يتناول فيلمًا في فترة الخمسينيات، يلتقط الألوان التي تميز الفترة على خلفية حكاية أبعد ما تكون عن بهجة تلك الألوان في الطريق الثوري revolutionary road، ثم يتغير شكل المشاريع كليًا مع ارتباط اسم مينديز بأفلام جيمس بوند، وهو ما يدفع ديكنز لكسر حدوده الشخصية حتى يصل إلى الذروة مع 1917.
الفيلم هو الوسيط الفني الأكثر ارتباطًا بالزمن، فهو بشكل شبه حرفي يلتقط الزمن ويحفظه للأبد، يشبه المخرج الروسي الشهير أندري تاركوفسكي عملية صنع الفيلم بالنحت في الزمن، لكن أحيانًا يمكن للفيلم أن يأخذ منحى معاكسًا لنظرية تاركوفسكي، ويحاول أن يضع الزمن داخل كبسولة في حالته العضوية الأولى دون الحاجة إلى النحت، حين يرغب صانعو الأفلام في صنع تجربة معاشة أشبه بالحقيقة فيلجؤون لوضع الزمن على الشاشة كما هو، ما يحدث للشخصيات في خمس دقائق نراه في خمس دقائق دون قطع أو تلاعب، تلك الطريقة تعزز من قيمة الحقيقة والصدق لكنها لا تخلو من الخداع.
القصد هنا هو الأفلام المصممة لكي تبدو كلقطة واحدة متصلة لتعزز الإحساس بالزمن، في ذلك الاختيار عادة ما يكون مدير التصوير هو البطل، وكثيرًا ما يتم اتهام الفيلم بالميل للاستعراض على حساب الحكاية، لكن ذلك الاستعراض يصبح ضرورة في كثير من الأحيان مثل آخر أفلام سام مينديز 1917، بتعاونه مع ديكنز نفذا إنجازًا تقنيًا مبهرة في فيلم حرب لا يترك لك فرصة للتنفس أحيانًا، لكنه بترك فسحة للتأمل أحيانًا أخرى، يتكون الفيلم من عدة لقطات بالغة الطول غزلت سويًا لكي تبدو وكأنها مشهد واحد طويل، يمكن رؤية أن الفيلم هو ذروة تفوق ديكنز، ويملك بصماته المميزة وظلاله القاتمة وتركيبات إطاراته المفضلة لكن في قالب لم يجربه من قبل، يمكن فقط الرجوع بالزمن لفيلم آخر لمينديز وهو فيلم جيمس بوند Skyfall والذي صوره ديكنز وبدأه بلقطة طويلة متصلة متميزة أو ما يطلق عليه الماستر شوت.
بعيدًا عن الشراكات الفنية التي استمرت على مدار عقود مثل مينديز والأخوين كوين، عمل ديكنز على مشاريع منفردة كتبت لها الحياة الطويلة وصمدت في اختبار الزمن أبرزها الخلاص من شاوشانك the shawshank redemption واغتيال جيسي جيمس على يد الجبان روبرت فورد the assassination of jesse james by the coward Robert ford، في الخلاص من شاوشانك لم يكن على ديكنز أن يكون استعراضيًا، هي قصة ملهمة عن إيجاد الحرية والأمل في قلب الظلام، وهو ما يعتمد عليه ديكنز في أسلوبه، في التباين بين المشاهد الخارجية مضاءة بضوء الشمس الطبيعي ينعكس على الوجوه ويذكر الأبطال والمشاهدين بمعنى أن يكون الإنسان حيًا، والتصوير الداخلي في السجون حيث ظلال القضبان تنعكس على كل تفاصيل حياة ساكنيها.
في اغتيال جيسي جيمس يختار مخرجه بالاشتراك مع ديكنز صنع ملحمة هادئة أشبه بقصيدة، على الرغم من طبيعة الفيلم لقريبة من الويستيرن والتي يمكن أن تحمل مشاهد قتال طويلة، يعيش في ذهن أي من شاهده مشهد محدد، عملية سطو على قطار، يستخدم فيها ديكنز رجل الظل الشهير الذي يفضله، وسط الأدخنة والأضواء البازغة من ممر مظلم لا نهائي، تلقي الأضواء بظلالها على الأشجار والوجوه المجرمة الملثمة، تلك الحساسية المفرطة تجعل من المشهد ذكرى بصرية خالدة، في لقاء معه يتذكر ديكنز أن بعض المخرجين يطلبون منه تصوير لقطات قاتمة لكن عند رؤية النتيجة لا يرون ملامح الممثل فلا تعجبهم رؤيته، لكن في اغتيال جيسي جيمس تركت له الحرية، فسيطرت الحالة التي يريد إيصالها على فكرة إضاءة أوجه الممثلين، وأصبحوا جزءًا من صورة كاملة، تكون فيها المعلومة حسب كلام ديكنز أيضًا مرسلة عبر أدوات السينما من صورة وإضاءة وصوت عوضًا عن الحوار.
جماليات روجر ديكنز
يمكن تعريف الفيلم نوار ببساطة باعتباره أسلوبًا فيلميًا تتساوى فيه قيمة البصريات وأساليب الحكي، ظهر بشكل مكثف في أمريكا الأربعينيات بعد الحرب العالمية الثانية، ليدحض سردية البطل المثالي ويستبدلها ببطل مشوش يتنازع داخله الخير والشر، لكن إذا كان هذا ما يميز الفيلم فلن يفرقه عن الروايات البوليسية مثلاً، فأصبحت من سماته أسلوب بصري مميز وثاقب لا تخطئه العين، متأثرًا بالتعبيرية الألمانية يتبنى الفيلم نوار بصريات قاتمة تعتمد على تباين واضح بين الظلال والأنوار لكي تعكس نفسية أبطاله، ذلك الأسلوب البصري استمر وتطور ولا زال يتطور حتى يومنا هذا، في البداية اقتصر على التصوير بالأبيض والأسود ثم صنعت بعض الأفلام الملونة على نفس الأسلوب سميت بالنيو نوار أو النوار الجديد، ومع تأثر السينما بالحداثة وما بعدها ظهر أسلوب آخر يسمى بالنيون نوار، نظرًا لتوظيف أضواء النيون التي تتميز بها المدن الحديثة، ما علاقة تلك المقدمة الطويلة عن تاريخ الفيلم نوار بروجر ديكنز؟
يعتمد روجر ديكنز جماليات الفيلم نوار داخل الحمض النووي لتقنيات تصويره، سواء كانت عن طريق تكرار تلك الجماليات بشكل كامل وكأنه محاكاة لفترة زمنية بالإضافة لكونها تحية لحقبة مهمة في تاريخ السينما كما فعل في فيلم الأخوين كوين (الرجل الذي لم يكن هناك the man who wasn’t there )، صوره بالأبيض والأسود وعند مشاهدته يصعب تصديق أنه فيلم من الألفية.
نقل ديكنز قطعة من سينما الأربعينيات بأساليب الإضاءة واختيار التكوينات، وأحيانًا يفعل ذلك عن طريق تداخلها بشكل هادئ وخفي في أسلوبه الشخصي الذي يطوعه حسب كل مخرج وفيلم يعمل معه، تكثر في أفلام النوار الظلال البشرية، تضفي الغموض والهشاشة على الشخوص وتصنع تكوينات بصرية مثيرة للاهتمام وحادة التأثير، نجد هوس ديكنز بذلك الظل تقريبًا في معظم الأفلام التي عمل عليها باختلاف أنواعها، نرى لقطة لظل رجل تتوسط الإطار وحوله يشع العالم بالأدخنة والألوان المكتومة، إنها لقطة وحيدة تتكرر وفي كل مرة تصعق المشاهد بإحساس أن هناك رجلاً على استعداد لمواجهة مصير مجهول، مثل هائم فريديرش فوق بحر الغيوم، لقطات مثل تلك تميز ديكنز بشكل خاص، نجدها في فيلم اغتيال جيسي جيمس وفي فيلميه الحائزين على الأوسكار، بليد رانر وفي 1917.
الفن والتقنية
في فيلميه الحائزين على الأوسكار تلعب التكنولوجيا دورًا محوريًا في النتيجة النهائية للفيلم، ورغم تفضيله للأساليب التقليدية إلا أن ديكنز يجاري التطورات بسلاسة، في 1917 ولكي تنفذ اللقطات الطويلة الصعبة تم صنع كاميرات خفيفة خصيصًا بناء على طلبه، وتم تصوير مشاهد الليل ثم التلاعب بها لكي تبدو وكما يتخيلها ديكنز، مشهد الظلال على الأطلال على سبيل المثال.
بليد رانر 2049 ليس فيلمًا فريدًا بل هو تابع لسابقه من إخراج ريدلي سكوت عام 1982، وبسبب تطور بليد رانر الأصلي على مستوى المؤثرات البصرية بالإضافة للجماليات التي جعلت منه فيلم خيال علمي/ نوار، فكان يجب على النسخة الجديدة أن تحاول الوصول لذلك المستوى من الإبداع والتطور والجمال البصري أيضًا، وبما أن ديكنز يملك بداخله ذلك النزوع لجماليات النوار بالإضافة للانفتاح على التطورات التقنية فلم يكن ذلك صعبًا، فصنع واحد من أكثر الأفلام تميزًا على المستوى البصري في الأعوام الأخيرة، في أشهر مشاهده وهو مشهد معدل رقميًا لا يسعى ديكنز للتقنية دون الفن فقرر أن يصور مشهد كل ممثلة على حدة ثم يتم دمجهم فيما بعد بذلك يضمن عدم فقد المشاعر والقدرة التمثيلية الإنسانية أثناء عملية صناعة المشهد.
يصعب أن نجد اسم مخرج تصوير معروف حتى لجمهور السينما غير المتخصص كروجر ديكنز، ربما المكسيكي إيمانويل لوبيزكي يملك مكانة مشابهة لكنه ذاع صيته في أواخر العقد الماضي وفاز بثلاث جوائز أوسكار متتالية بشكل مفاجئ، أما ديكنز فلطالما عمل على مشاريع مبهرة وأخرج نتائج ساحرة، ليست بنفس استعراضية لوبيزكي لكنه يملك بصمته التي لا تخطئها العين والتي تجعل منه واحدًا من أفضل المصورين العاملين اليوم.