روبرت دي نيرو: الخروج من الذات إلى الدور
في سن العاشرة، وعلى مسرح المدرسة، أدى الطفل روبرت دي نيرو، أو بوبي كما يحلو لأصدقائه أن ينادوه، دور الأسد الجبان في نسخة ممسرحة من ساحر أوز. ربما في هذه اللحظة، حين ذاق للمرة الأولى ذلك الطفل الشاحب والخجول، الذي كان أقرانه يتندرون من شحوبه فدعوْه «bobby milk»، لذه التعبير عن الذات، أدرك أن التمثيل هو قدره الخاص.
وهو ما سيدفعه بعدها بستة أعوام أن يترك دراسته تمامًا من أجل أن يكرس حياته لفن التمثيل. درس «التمثيل المنهجي» (method acting) على يد ستيلا أدلر، ثم تابع دراسته فيما بعد مع لي ستراسبرج في أستوديو الممثل، الرجل الذي أسهم منهجه المستوحى من مبادئ العلامة الروسي ستانسلافسكي في تثوير التمثيل في أمريكا، ليصير دي نيرو فيما بعد أحد رواد هذا المنهج.
يسعى التمثيل المنهجي إلى الواقعية والصدق في الأداء، الارتجال في الحوار والحركة، وبناء الشخصية من الداخل عبر الذاكرة العاطفية للممثل والمخيلة. كان التمثيل المنهجي ضربًا من التحرر من أسر الأساليب التقليدية والكليشيهات المألوفة التي حكمت التمثيل السينمائي ما قبل الخمسينيات، أي قبل ظهور الثالوث المقدس: مارلون براندو، مونتجمري كليفت، وجيمس دين؛ الوجوه الثلاثة المعبرة عن هذا المنهج، الذين غيروا وجه التمثيل في أمريكا إلى الأبد، وهم الذين لولاهم لما صار ممثلون يخالفون الوسامة الكلاسيكية مثل دي نيرو ودستين هوفمان نجوم الزمن القادم.
المسيرة المدهشة لفنان استثنائي
ما يميز المسيرة الفنية لهذا الممثل الاستثنائي، والتي تمتد لأكثر من خمسة عقود، هو ذلك المدى الواسع من الشخصيات التي أداها دي نيرو، شخصيات باتت أيقونية الآن ومحفورة بعمق في ذاكرة مشاهدي الفن السابع بفضل تجسيده الفذ، جوني بوي، فيتو كورليوني، ترافيس بيكل، جاك لاموتا، روبرت بابكين، آل كابوني، ماكس كادي، شخصيات في غالبها مضطربة وذات أعماق جريحة، ومهما كانت قسوة هذه الشخصيات التي يؤديها دي نيرو أو عنفها، فإنه يجلب إليها حساسية خاصة ومزيدًا من الظلال تجعلها أكثر ثراءً وعمقًا.
عمل دي نيرو خلال مسيرته تحت إدارة أغلب المخرجين الكبار، دي بالما، سكورسيزي، كوبولا، برتولوتشي، إليا كازان، مايكل تشيمينو، سرجيو ليوني، تارنتينو … القائمة تطول، لكن تظل تلك التوأمة الإبداعية التي جمعت دي نيرو كممثل بالمخرج مارتن سكورسيزي واحدة من أندر الشراكات الفنية، وأعظمها أثرًا، وأكثرها استمرارًا في تاريخ السينما، تكاد تكون هي العمود الفقري لمسيرته الهائلة.
يتحدث شون ليفي في كتابه عن دي نيرو «De niro: Alife»، عن هذه الرابطة التي جمعته مع سكورسيزي، عن نشأتهما معًا في نفس الحي، حي ليتل إيتالي، نيويورك، فقد عاشا تقريبًا نفس الخبرة الحياتية خلال سنوات التكوين، مع فارق وحيد وجوهري، فقد كان سكورسيزي فتى الشارع يرغب في نشأة أخرى، تمنى لو انغمس مبكرًا في حياة الثقافة والفن والموسيقى، بينما كان دي نيرو ابنًا لفنانيْن بارزيْن من نخبة نيويورك، نشأ كما تمنى سكورسيزي، يحنُّ إلى حياة الشارع. ربما هذا ما يفسر متانة الرابطة بينهما وعمقها، إنهما أشبه بوجهين لعملة واحدة.
لاحظ العديد من الصحفيين والمحاورين افتقار دي نيرو للفصاحة والحضور في المقابلات والمؤتمرات الصحفية في مقابل حضوره الطاغي وألقه الاستثنائي على شاشة السينما، ربما الأمر بالنسبة لدي نيرو هو أقرب لما يصفه به الكاتب والمخرج الأمريكي بول شريدر، والذي كتب له تحفتي «سائق التاكسي» و«الثور الهائج»:
جزء أصيل من عبقرية دي نيرو يكمن في قدرته الفائقة على التحول التام للشخصية التي يؤديها، محققًا ما أسماه الناقد جاك كرول صدمة التحول. ينسلخ دي نيرو عن ذاته، إلى الدرجة التي يصير فيها الممثل نفسه خفيًا ولا مرئيًا. يبلغ التحول مداه مع دنيرو خارجيًا وداخليًا، فربما لا يوجد ممثل آخر قادر على تحويل نفسه إلى الشخصية التي يؤديها على هذا النحو الصادم مثل دي نيرو.
يحكي المخرج برايان دي بالما أنه أثناء عمله مع دي نيرو في فيلم «Greatings» حضر دي نيرو إلى التصوير، ولم يستطع التعرف عليه، لم يكن ذلك بسبب المكياج أو الملابس، لقد كان داخل الشخصية تمامًا، لقد تغيرت حتى ملامحه الجسدية.
تقودنا تلك السمة في شخصية دي نيرو إلى خصيصة أخرى لديه كممثل، هي جمالية التعبير الجسدي وفصاحته. إنه قادر فقط عبر لغة الجسد أن يوحي أكبر ما تتيحه الكلمات، إنه يذهب مباشرة إلى أبعد من طبقات الوعي الظاهر عبر صوته، نبرته، إيقاعه، وحركاته وإيماءاته الجسدية، تغيرات وجهه ولذلك فهو يعول كثيرًا على التحول الجسدي، في فيلمه الثور الهائج الذي يجسد فيه حياة الملاكم جاك لاموتا، يصر دي نيرو على اكتساب وزن حقيقي، ستين رطلًا تقريبًا، فلا شيء قادر على نقل الحضيض النفسي والروحي الذي يعيشه لاموتا أكثر من انحلال جسده وتشوهه.
مقابل هذا الزخم الذي يمنحه دي نيرو للتعبير الجسدي هناك اختزال للتعبير العاطفي يغذي غموض شخصياته، حيث تظل شخصياته دومًا عصية على الفهم الكامل لدوافعها.
يرتجل دي نيرو ببراعة خلال أدواره، والارتجال في ذاته ليس ممدوحًا، بل ينبغي لتحقيق أثر فعال أن يكون نابعًا من فهم عميق للشخصية وطبيعتها النفسية، في ارتجاله الأشهر في سائق التاكسي، حين يتطلع إلى انعكاسه داخل المرآة محدثًا نفسه: هل تتحدث إليَّ؟
هنا وفي هذه اللحظة تحديدًا ينم هذا الارتجال عن فهم عميق لطبيعة الشخصية والتحول الطارئ عليها، إنه في قاعة وحدته وبلا خلاص، , وحيد تمامًا، حيث لا أحد سوى انعكاسه في المرآة. ويمكن قراءة هذا الارتجال كتجسيد لبارانويا ترافيس وبداية تفككه النفسي.
دي نيرو كرائد للتمثيل المنهجي
إذا كان جوهر التمثيل المنهجي هو الواقعية، فإن دي نيرو يذهب بهذه الواقعية إلى حدودها القصوى للدرجة التي تبدو فيها كلمة التمثيل باهته وعاجزة أمام حقيقة ما يفعله دي نيرو لخلق الشخصية ومعايشتها. بحث شاق وتحضير دءوب من أجل أقصى مصداقية ممكنه لشخصيته. من أجل دوره في الجزء الثاني من عراب كوبولا، يسافر دي نيرو إلى صقلية قبل التصوير بتسعة أشهر لملاحظة الناس، ورصد سلوكهم وحركاتهم الجسدية وتعابير وجوههم، كان يسجل المحادثات الاعتيادية بين الناس، ليدرسها ليلًا في غرفته بالفندق من أجل إتقان لهجة ونبرة الشخصية.
كان الجهد مضاعفًا هنا، فهو لم يكن فقط يريد تقمص شخصبة فيتو كورليوني، بل عليه أن يجد روابط بينه وبين أداء براندو لنفس الشخصية في الجزء الأول، لكي لا يخل بهارمونية الشخصية بين الجزأين، وعليه فقد قام أيضًا بدراسة وتأمل أداء براندو في الجزء الأول، قام بتغيير إيقاع كلامه، ونبرات صوته والعمل عبر لغة الجسد على خلق تواصل بين الأداءين.
رُشِّح دي نيرو للأوسكار كأفضل ممثل مساعد. وللمفاجأة، كان في قائمة المرشحين لي ستراسبرج، المعلم الكبير نفسه، عن دوره في نفس الفيلم. وحين سئل وقتها عن الأحق الجائزة قال: «دي نيرو الأجدر، وسيفوز بها». وهو ما كان فعلًا.
في بداية السينما كان الممثلون أشبه بالدمى، للدرجة التي كان يتحرج فيها ممثلو المسرح من العمل في السينما. هذا قبل أن تهبط هالات النجومية على رءوس نجوم ونجمات السينما، وقبل أن تصير السينما فنًا مقدرًا. حين نطالع الآن مسيرة ممثل سينمائي مثل دي نيرو ندرك جيدًا كيف يرفع مثله مهنة التمثيل إلى مقام الخلق والفن الأصيل.