ريو 2016: هل يمكن لقطر شراء المجد؟
يقف العملاق الكرواتي «ماركو باجاريتش» مع زملائه في انتظار بدء مباراتهم الافتتاحية في الأوليمبياد، ورغم حماس زملائه أثناء عزف النشيد الوطني إلا أن باجاريتش التزم الصمت حتى النهاية متجنبًا نظرات الجميع، على الأغلب لأنه لم يعد يرتدي نفس الزي، بجانبه يقف سوريّان، بوسنيّان، كوبي، أسباني، فرنسي، مصري وآخر من الجبل الأسود وقد وضعوا أيديهم اليسرى على أكتاف بعضهم البعض واليمنى على قلوبهم في تأثر مفتعل منتظرين انتهاء النشيد الكرواتي ليُعزف نشيدهم الموحد، لا ليست نهاية العالم بل منتخب قطر لكرة اليد.
«نعم، ولكن ماذا علي أن أفعل؟ قطر منحتني الفرصة للعب في الأوليمبياد وهذا هو حلم أي رياضي في العالم».. لم تبدو حجة باجاريتش مقنعة للمراسل؛ ففي رياضة لا يكفي دخلها للتعيُّش في أغلب دول العالم من الصعب أن تقنع أحدا أنك قبلت مئات الآلاف من الدولارات رغمًا عنك في سبيل تحقيق طموحك الرياضي، بل الأرجح أن العكس هو ما حدث؛ أنت أتيت لريو رغمًا عنك لتحقق مئات الآلاف من الدولارات.
ميركاتو
قوانين الاتحاد الدولي للعبة بسيطة؛ لا يمكن لأي لاعب المشاركة مع منتخب ما قبل أن تمر ثلاث سنوات على آخر مشاركة له مع آخر، وبما أن الأولمبياد تقام كل 4 سنوات فيمكننا اعتبار القانون وكأنه لم يكن، في الواقع تتحول الأولمبياد إلى سوق دولي كبير للدول الراغبة في التجنيس، في البداية يجلبون الخبراء ثم يقوم هؤلاء بتصفية أبرز مواهب البطولة في كل الرياضات فتقوم الجهات الإدارية باستطلاع إمكانية التوقيع معهم؛ الأمر أشبه بما يحدث في بطولات كرة القدم الدولية ككأس العالم واليورو والفارق الوحيد هو أن هؤلاء يتمكنون من الاحتفاظ بجنسياتهم الأصلية عندما ينتقلون بين الأندية، تفصيلة أخرى غير مهمة يرى القطريون أنه من الأفضل تجاوزها.
وكما هو معتاد، لا يمر أي طرح لقضية مشابهة دون محاولات متكررة للتحذلق والتذاكي؛ ماذا عن السُمر في فرنسا وهولندا وبلجيكا؟ كيف وصل هذا الكم من العيون الضيقة لأرض أمريكا الشقراء الطاهرة؟
عليك أن تساوي بين مهاجري الجيل الثاني والثالث الذين ولدوا في فرنسا وهولندا وأمريكا وتعلموا في مدارسها الحكومية واستفادوا من تأمينها الصحي وتكسّبوا من سوق عملها المفتوح بأبطال أوليمبيين لم يسمعوا عن قطر قبل أن تقرر لصق علمها على صدورهم وإلا فأنت حاقد ورجعي وربما متآمر كذلك، المدهش والمثير أن فرنسا والولايات المتحدة هم من أكثر الدول تعرضًا لظاهرة التجنيس المعاكس، إذ أن عددا لا بأس به من هؤلاء يقررون العودة لتمثيل جنسيات آبائهم وأمهاتهم، بالطبع لن يحدثك المتحذلقين عن البولنديين في ألمانيا أو مسلمي الألبان في سويسرا لأن من الصعب تمييزهم ولأن الأمر لم يخلو أبدًا من لمحة عنصرية.
أرقام قياسية
بعد لقاء كرواتيا انهزم القطريون – إن جاز التعبير – أمام فرنسا بطل العالم في العام الماضي بنتيجة ثقيلة 35-20 بفريق تم تجنيس 11 من عناصره الـ14، بعض اللحظات شهدت فريقًا مجنسًا بالكامل في ملعب المباراة كحدث قياسي في تاريخ الأوليمبياد لم يتكرر من قبل، لذا بدا «فالنتين بورت» لاعب فرنسا أكثر إقناعًا من باجاريتش عندما تحدث عن فرحة مشجعي اللعبة العارمة كلما تلقت قطر هزيمة قاسية واستمتاعه الشخصي بالمباراة لأنهم يلعبون من أجل المال بينما يلعب هو ورفاقه لحب اللعبة على حد تعبيره، الأمر الذي قد لا يستمر طويلًا إذ أن خمسة من منتخب فرنسا بما فيهم الرائع «لوك أبالو» يلعبون لباريس سان جيرمان المملوك بالفعل لمجموعة قطر الرياضية الاستثمارية لصاحبها ناصر الخليفي.
«أنا لا أتفق معه، أجلس مع كل لاعبينا ويمكنني أن أخبرك بشكل واضح أنهم لا يلعبون من أجل المال، المال رائع بالطبع وكلنا نريد المزيد من المال دائمًا؛ أنا وأنت والجميع لكن لاعبينا يلعبون من أجل الانتماء والوفاء».. مفهوم طبعًا، باجاريتش ورفاقه سيلعبون لقطر سواء تلقوا ملايين الدولارات أم لا؛ الملحق الإعلامي لبعثة قطر الأوليمبية «حمد العبيدلي» لم يجد ردًاعلى ادعاءات بورت سوى الإقرار بإهدار المال العام على الهواء مباشرة.
بالطبع لم تكن قطر الأولى ولن تكون الأخيرة، ولكن ازدياد رقعة التجنيس بهذا الشكل المزعج دفع «أوين جيبسون» من «الجارديان» للسؤال عن رد فعل الاتحاد الدولي للعبة تجاه هذه المهزلة، ليتراجع سريعًا بعد أن تذكر مهزلة أخرى لم تكن لتتم إلا بمساعدة نفس الاتحاد عندما مرت قطر لنهائي بطولة العالم في العام الماضي بعد سلسلة مفزعة من القرارات التحكيمية حولت المباراة إلى مسرحية هزلية لم يصدقها العالم، بالطبع لم يحسن الوضع استئجار عدد من جماهير أسبانيا والأرجنتين للهتاف للعنابي من المدرجات، إذ عادة ما يدفع الجمهور ثمن تذكرته لأنه يريد مشاهدة المباراة لا العكس، لهذا لم يكن تصريح الحكم الدولي «كريستر آل» آنذاك عن «الفريق المزيف» مستغربًا.
الميداليات تكمن في التفاصيل
ورغم نجاح القطريين في إقناع «برتراند روان» بطل العالم مع فرنسا 2011 بالانضمام لفريقهم إلا أن الأمر لم يتوقف عند كرة اليد فقط، فمشروع التجنيس بدأ منذ 16 عام عندما أشرك القطريون فريق كامل لرفع الأثقال من بلغاريا في أوليمبياد سيدني أملًا في الحصول على ميدالية جديدة، رئيس الاتحاد القطري للعبة أضاف بعض التفاصيل المثيرة في حديثه للـ«أورلاندو سنتينال» وقتها عن اضطرارهم لتغيير أسماء البلغاريين لأخرى عربية لصعوبة نطقها، قبل أن يكمل حديثه بأريحية شديدة عن صفقة إنجاز أوليمبي = جنسية+مال التي أبرمها مع لاعبيه، والتي أثمرت عن تتويج «سعيد سيف أسعد» – أنخل بوبوف سابقًا – ببرونزية في تلك البطولة، هذا لم يمنع سحب الجنسيات من الآخرين الذين لم يوفوا بجانبهم من الصفقة لأن منح الجنسيات بلا حساب مضر بالبيزنس كما تعلم.
ولأن لكل قصة جانب آخر مؤلم، فالتجنيس القطري لم يكن دائمًا هدفًا للجشعين فاقدي الانتماء بل كان ملاذًا لنماذج أخرى كالسوري «أمين زكّار» لاعب كرة اليد الذي لم يكن ليكفيه اجتهاد العالم ومثابرته لتمثيل بلاده فعليًا في الأوليمبياد، رواية أخرى كان صاحبها العداء النيجيري «فيمي أوجونود» الذي لم يُستدعى لتمثيل بلاده في أوليمبياد بكين 2008 ليتلقي رسالة إلكترونية من القطريين تدعوه لفريقهم الأوليمبي، وفي بلد يعامل أبطاله الأوليمبيين بقسوة تصل لتسول المتقاعدين منهم لم يكن من الصعب قبول العرض، أوجونود أخبر القطريين أنه لا يملك حتى ثمن التذكرة والباقي للتاريخ كما يقول في حديثه للـ«بريميام تايمز» النيجيرية مؤخرًا، العروض قد تصل لمليون دولار طبقًا لحجم الإنجاز المتوقع، وفي تقارير أخرى غير رسمية ذُكر أن بعض الرياضيين تم التعاقد معهم على راتب أبدي قد يبلغ 1000 دولار شهريًا؛ أرقام يسيل لها لعاب أوجونود أو أي أوجونود آخر يعاني في أفريقيا لكن يبدو أنها لم تقنع الجميع، ولا حتى شقيق أوجونود الذي رفض تهنئته بعد فوزه بإحدى السباقات التمهيدية شارك فيها كل منهما بألوان مختلفة.
تفاصيل محزنة ومقززة لملحمة مجد تبدو عبثية لأقصى حد؛ فأن يفخر القطريون بكسر عداءهم إبراهيما بكايوكو للرقم القياسي أشبه بأن يفخروا بوصول الصينيين للمريخ، لا إنجاز هنالك؛ مجرد إثبات آخر أن اللجنة الأوليمبية القطرية تمتلك الكثير من الأموال وهذا أمر يمكن التعبير عنه بطرق أقل كوميدية وأكثر واقعية، إذ أننا لا نتحدث عن تطوير مواهب ورعايتها بل عن ترك ذلك لآخرين والاكتفاء بوضع ملصق قطر قبل الصعود للمنصة مباشرة ثم ادعاء الفضل في الإنجاز برمته، ما يقودك للتساؤل إن كان الهدف هو الفخر والإنجاز فعلًا.
بالطبع لا، الأمر ليس أكثر من محاولة أخرى لمناطحة الكبار وكسب المزيد من الاعتراف الدولي عبر عزف النشيد على منصة الأوليمبياد وهو الأمر الذي لم يحدث حتى الآن، مجرد رغبة محمومة لتعبئة المزيد من السجلات بأرقام لا معنى لها اعتمادًا على المقولة البائسة عن التاريخ الذي لا يتذكر إلا الفائزين وانتظارًا للحظة التي سينسى فيها الجميع كل شيء عن التجنيس ليتبقى اسم قطر وأسفله عدد لا بأس به من الميداليات لن يتذكر أحد من أحرزها وكيف أحرزها وعندها ستبدو الاتهامات بالحقد والغيرة منطقية إلى حد كبير.
خطة في منتهى الذكاء، مشكلتها الوحيدة أن 16 عامًا من التجنيس شملت خمس بطولات أوليمبية ومئات الملايين من الدولارات وعشرات الجنسيات للخبراء والمحللين والمفاوضين لم تمنح قطر سوى 4 ميداليات برونزية فقط لا غير .. ثلاث منها أحرزها مواطنون قطريون الأصل بالفعل.