كتاب «طوق الحمامة»: الحب في الأندلس على مذهب ابن حزم
الفقيه «أبو محمد بن علي بن حزم الأندلسي»، أهم فقهاء عصره والذي حارب الأفكار المتصوفة المتطرفة ودحض كل المذاهب والمعتقدات التي لا تستند للكتاب والسنة يُحدثنا عن الحب! لم يخجل الفقيه المُحافظ أن يناقش موضوعًا شائكًا كهذا في كتاب مُفرد وعلى طول ثلاثين فصلًا يفصّل بلا حرج الحب بدءًا من ماهيته وعلاماته، ويسهب في فصوله ويفصل كل فصول الحب من الهجر والوصل، والسلو والوفاء؛ ليس هذا فقط بل ويستشهد بقصص واقعية ومنها قصص له شخصيًا، ويعلق على كل قصة بأبيات من الشعر من نظمه.
كل هذا يثير حول الفقيه ألف علامة استفهام، لكنه يجيب عن هذا في أول فصول كتابه بالحديث عن ماهية الحب فيقول:
جوانب الحب المُشرقة
للحب مراحل فصّلها ابن حزم، ولكن لكل مراحل الحب جانبان لا ثالث لهما: جانب مُشرق تبتهج به الروح ويسر به القلب، وجانب مُظلم تظلم به الحياة وتضيق روح المُحب به وتصل للحلقوم.
علامات الحب
للحب علامات لا يُخطئها مُبصر، عدَّدَ ابن حزم وفصّلَ تلك العلامات ما بين: السهر، واستطياب الجلوس بقرب المحبوب، ومطاولة النظر، والفزع عند رؤيته أو رؤية شبيه له أو سماع اسمه فجأة، وأن يقبل من محبوبه ما لا يقبله من سواه، وأن تصبح كل نوائب الدهر هينة طالما كان محبوبه بقربه، وأن يغفر لمحبوبه كل خطأ على الدوام ويعود الود كما كان.
ويحكي قصة عن ذلك فيقول: أنه كان يومًا جالسًا في دكان إسماعيل بن يونس الطبيب، وكان رجلًا ذا فراسة، فقال له أحد جُلسائه وكان مجاهد بن الحصين القيسي: ما تقول في هذا؟ فنظر إليه وقال: هو رجل عاشق، فقال له: صدقت، فمن أين قُلت هذا؟ قال لبُهت مُفرط ظاهر على وجهه فقط دون سائر حركاته؛ فعلمت أنه عاشق وليس بمريب.
وللمحبة أنواع فمن الناس من يحب في النوم، ومنهم من أحب من الوصف، ومنهم من يحب صفة بعينها فيحب كل من وجدت فيه هذه الصفة، ومنهم من أحب من نظرة واحدة، ومنهم من لا يحب إلا مع المطاولة كما ابن حزم فيقول:
ويعلق على ذلك بأبيات من الشعر:
وللمحبة دروب من بينها المُراسلة:
الرسائل كانت وما زالت من أبرز الطرق التي يستخدمها المحبون للتواصل، هيئة الرسائل الغرامية لا تكون كغيرها من الرسائل فيجب أن يكون الخطاب ألطف الأشكال وجنسه أملح الأجناس، ويجتهد المحبون في إبراز حدة مشاعرهم والتهاب عواطفهم، وفي ذلك قصة يرويها ابن حزم: أنه رأى خطابًا من محُب لمحبوبه كتبه بدم يده!
صحيح أن المُحب تفضحه عيونه، لكن يبقى طي سر المحبة أمرًا يحرص عليه كل المحبين. يُحكى أن:
أما أسعد لحظة قد ينعم بها مُحب فهي لحظة الوصل
الوصل هو لذة المحبين وجنة المحبة، لكن الكثير من الوصل قد يسبب الزهد، أما عن ابن حزم فيقول:
جوانب الحب المُظلمة
الحب كما الدنيا: يومٌ لك، ويومٌ عليك. كما ارتبطت المحبة بأكثر المشاعر سعادة وحبورًا، ارتبطت كذلك بأشد المشاعر ألمًا ولوعة. فصول الحب القاحلة تبدأ بالهجر، والذي قد يكون هجر ملل وهجر القلى (النسيان)، ولابن حزم في هذا الشأن أبيات تقول:
ومن أروع المعاني وأقساها في نفس الوقت على المحبين الوفاء من بعد الهجر والبعاد، فيجد المُحب نفسه متصلًا بكل كيانه بحبيبه الذي كان، ولا ينفك يذكره ويتذكره حتى يموت. وفي الوفاء يحكي ابن حزم قصة جارية مات عنها سيدها فبيعت لغيره، وكانت فيما مضى تُحسن الغناء وكانت حسنة الخَلقة، فأبت بعد سيدها أن يمسها أحد وامتنعت عن الغناء وارتضت بالخدمة وعنائها والتي هي مرتبة أقل من مرتبة الجواري المُتخذات للمُتعة.
أشد ما يُبلى به المحبون بعد الهجر البين (الفراق):
كان ابن حزم محبًا صادقًا مُخلصًا، وفي ذلك قصة حبه لجاريته: نُعم.
الضنى
الضنى قد يذهب بلب صاحبه، حتى وإن كان فيما سبق أتم الناس عقلًا، وفي ذلك يروي ابن حزم قصة شاب ابتلي بهذه الفاجعة:
السلو
السلو يكون مذمومًا في حالات وممدوحًا في حالات أخرى ومنه: «السلو الطبيعي وهو المسمى بالنسيان، يخلو به القلب ويفرغ به البال، ويكون الإنسان كأنه لم يُحب قط. وثانيها: السلو التطبعي وهو قهر النفس، وهو المُسمى بالتصبر، فترى المرء يُظهر التجلد وفي قلبه أشد لدغًا من الإشفى- إبرة الإسكافي».
وفي ذلك يقول:
الموت
وفي ذلك قصة الجارية التي باعها سيدها لشيء بلغه منها فلم تطق العيش بعده وماتت بعد ذلك بأشهر قليلة.
الجانب الفقهي في الكتاب
لم يكن حديث ابن حزم بهذا الشأن من باب السفه ولا الترف، ولا مُناقضًا لكونه فقيهًا مُعتدلًا. الحب كما قال ابن جزم في مطلع كتابه شعور ليس بمحظور في الشريعة، ولكن ما حظرته الشريعة هو ترجمة هذا الشعور إلى أشياء تُغضب الله عز وجل، لذا أفرد الفقيه فصلين كاملين من كتابه ليؤكد على قبح المعصية، وفضل التعفف.
أمّا قُبح المعصية
ويقول في النهي عن اتباع الهوى على سبيل الوعظ: