وخانتني فيك الدقايق..

هكذا ودَّع الشاعر «عبد الرحمن الأبنودي» صديقه الكاتب «يحيى الطاهر عبد الله». تبدو مسيرة الأخير محاولة لاستيعاب مدى قدرة الزمان على خيانة مسيرة البشر، أو من ناحية أخرى، مدى قدرة الزمان على إعطائنا ميتات استثنائية، تتناسب بصورة ما، رغم الحزن الشديد، مع تجاربنا.

يشبه الكاتب يحيى الطاهر عبد الله صعود نجم في السماء فجأة، ثم غيابه فجأة. ابن بار لجيل الستينيات، لا يقحمه برُّه في التبعية لشيء، طوال قصصه ورواياته القصيرة ظل يبحث عن أدوات مغايرة للحكاية، محاولات جادة للموازاة بين الأصالة والمعاصرة، انفتاح على أشكال مختلفة وبناء جديد على القصة القصيرة العربية، دون أن يتم سلخها عنوة من أصولها الحكائية، على يد يحيى عُرفت قصة حديثة، معاصرة، تخرج من قلب البساطة لتعبِّر عن القرية وناسها ومفردات عالمها.

ما بين ميلاده عام 1938 في محافظة الأقصر، قرية الكرنك، مكانه القصصي والروائي المفضَّل في معظم أعماله، وبين وفاته مبكراً في سن الـ 42 في حادث على طريق الواحات، كتب يحيى الطاهر عدة مجموعات قصصية وروايات قصيرة. تعتبر نوفيلا الطوق والإسورة أشهر أعماله، ما زالت حتى ذلك الوقت محل اهتمام المسرح، يتم عرضها من آن لآخر، تم تحويلها إلى فيلم من إخراج خيري بشارة 1986.

الأديب المصري يحيى الطاهر عبد الله

العالم يبدأ من الكرنك وينتهي عندها 

رغم مغادرة يحيى لقرية الكرنك أول سن الشباب، ظلت مكاناً رئيسياً يشغل معظم قصصه ورواياته، شخصيات القصص والروايات محصورة دائماً في محدودية القرية، يبتدئ عالمهم الصغير وينتهي عندها. من ذلك المحدود الصغير، المسكون بناس تشتكي هموماً بسيطة، أقل تعقيداً وثراءً من أزمات أهل المدينة، يستمد يحيى أبعاداً غير مرئية للحكي، تكفي لتكوين نصوص فارقة، تسلط الضوء على أزمات وإن كانت بسيطة، متصلة ببديهيات العيش الآمن والآدمي، لكنها جديرة بالتناول والمعالجة الفنية.

في رواية الطوق والإسورة يغادر مصطفى للعمل بالخارج، بينما الأب بخيت، رجل عجوز قليل الحيلة، أمنيته في الدنيا أن يرى ابنه مرة أخرى، وأن يحصل على سيجارة يشربها. الأم حزينة تدبِّر أمور البيت، ابنتهما فهيمة، التي لم تعرف سوى المتاح داخل حدود البيت، والقليل المسموح به داخل القرية، تنتظر عودة أخيها وقدوم الزوج المناسب.

يبتدئ يحيى روايته بخطوط أولية، شخصيات لا تحمل هماً مركباً يمكن تناوله، الجميع يعيش في قرية تكتفي بأبسط مقومات الحياة، إلا أن يحيى ينطلق من إعادة تأمل مفردات ذلك المجتمع الصغير، تأمل ينطوي على طموح فنِّي يجعل ذلك العالم، جديراً بالتأمل، جديراً بالتناول، لديه ما يخصه من كيفيات للاشتباك مع الحياة، لديه أيضاً ما يخصه من كيفيات تفصله عن طبيعة العالم الكبير بالخارج.

البلد متهيأ لها إن البلد بتنتهي هناك، عند المطرح إللي بتطبق فيه السما على الجبل. ميعرفوش إن فيه دنيا تانية.
على لسان شخصية في فيلم الطوق والإسورة-إخراج خيري بشارة 1986

تتجاوز قرية الكرنك عند يحيى الطاهر عبد الله المركزية الدائمة في قصصه ورواياته، بل تعتبر ميراثاً مرجعياً لسردياته المختلفة، مادة خام يستقطب منها يحيى أحوال مختلفة، لا يستعيد في القصص طفولته أو مراهقته هناك، بل يستعيد حكايات مختلفة، يتماهى مع طبيعة المكان كأنه ظل طوال عمره القصير يعيش فيه، لذلك في رواية الطوق والإسورة تحتفظ الشخصيات بطبيعتها القروية البسيطة، تعيش على أمل عودة الابن الأكبر للبيت، بينما الأخير يجوب مختلف البلاد حسبما تدفعه فرص العمل المتوفرة، يعاصر مصطفى عالماً كبيراً، بينما الأهل داخل القرية تنحصر آمالهم في عودة القادم من بعيد، كل خارج عن قرية الكرنك بالنسبة لناسها هو بعيد.

من خلال تشبعه الكامل بالثقافة الشعبية للمكان، ينطلق يحيى الطاهر من مساحة شديدة الخصوصية ليقدم رواية الطوق والإسورة. يقوم البناء الفني للراوية على ثيمة الحكي الشعبي، تبدأ الحكاية من حدث ما، ثم تحدث مجموعة من التغيرات التي تنعكس على الشخصيات ومصائرهم وعلى طبيعة المكان، ثم يعود النص إلى نقطة البدء، لكن العودة إلى نقطة البدء في الرواية كانت من جانباً شعورياً وليس مجرد إعادة إنتاج تقليدي لمفردات الحدث الأولية.

يتحول الزمن في الرواية إلى شيء مختلف عن طبيعة تناول المدينة، نشاط يتجاوز حدود الدقائق والساعات، بل يستمد حركته من دواخل الأشخاص، يطول الزمن مع طول انتظار الأم حزينة لعودة الابن، بينما يثقل ويتحول إلى تهديد حينما تفكر فهيمة في احتمال أن يمنعها الفقر من الزواج، والأب بخيت يتماهى الزمن مع عجزه الحزين، يبدو الوقت لديه أشبه بمرثية.

كتلة زمنية واحدة، تتحرك بخصوصية مع كل شخص من العائلة حسب شعوره وعلاقته الذاتية بالمكان. يتعاقب الزمن في الطوق والإسورة من خلال مصادر أولية للحياة، شروق الشمس أول النهار، تزايد الحركة والحياة في القرية خلال منتصف اليوم، غروب الشمس وسكون المكان آخر النهار، الليل وتجليات القمر، جميعها مفردات تشتبك مع المكان وشخصياته، يقدمها يحيى كأدوات تتفاعل مع خيبات بخيت الأب وآمال الابنة فهيمة وبؤس الأم حزينة، تستمد منها انطباعات شعورية مركبة، أكبر من قدرة الشخصيات على محاولة توصيفها، ومن ثم تتطبع هذه الأدوات بانطباعات كل شخصية، ويستدل  من خلالها كل واحد منهم على شعور شخصي يعنيه.

أرى أن ما يقع على الوطن يقع عليها، وهي قرية منسية ومنفية، كما أنا منسي ومنفي، كما أنها أيضاً قرية في مواجهة عالم عصري، إذن عندما أبتعد عن قريتي أسعى إليها في المدينة، وأبحث عن أهلي وأقربائي، وناسي الذين يعيشون معي، وأنا لا أحيا إلا في عالمها السفلي، وحين ألتقي بهم نلتقي كصعايدة وكأبناء الكرنك ونحيا معاً .
يحيى الطاهر عبد الله- من مقال للناقد مصطفى درويش مجلة الهلال- 9 أبريل 1981

وحدة النص الأدبي

رغم قصر المسيرة الأدبية ليحيى الطاهر، تتجلى من إرثه الأدبي المعقول من ناحية الكم، بوادر مشروع قصصي متفرد ترتبط أعمال الكاتب بعدة روابط تتجاوز المكان المشترك، أو حتى تشابه الشخصيات القائمة على عالم واحد في مختلف القصص والروايات. في رواية الطوق والإسورة، يقيم يحيى نصه على بذور أولية من مجموعة قصصية سابقة  “الدف والصندوق”.

 صدرت هذه المجموعة قبل رواية الطوق والإسورة بعام واحد. في المجموعة القصصية ثلاثة قصص مأخوذة من ثلاثة تطورات تعبر عن تداعيات هموم الحياة على شخصيات الطوق والإسورة. في قصة “الشهر السادس من العام الثالث” يضع يحيى طاهر مدخل رواية الطوق والإسورة، تطابق تام بين طبيعة التقديم وتوظيف اللغة، هنالك اختلاف صغير في تنسيق القصة عن تنسيق مفتتح الرواية.

 كذلك في قصة  “ثلاث لوحات للموت”  ثلاثة مشاهد عابرة في رواية الطوق والإسورة، يستقطعها من سياقها الروائي مثلما هي، يضعها في إطار سردي، يتطابق مع طبيعة الحكي في الرواية. حتى في مجموعة الدف والصندوق يبدأ الكاتب قصة تعتمد بشكل كبير على القصة السابقة لها.

 تشغل شخصية العم حسن حضوراً أساسياً في قصة بنفس اسم الشخصية، يتتبع فيها الكاتب حالة البيت في يوم رمضاني، كيف يهيب الجميع حضور عم حسن، وكيف يستقبل الأخير ضيوفه ويحسن ضيافتهم.

القصة التابعة لقصة العم حسن تقوم على نفس الأساس السردي، العالم والشخصيات ثابتين على حالهما، لكن بانتقاله بسيطة، يضع يحى أساس القصة الأولى بداية لقصته الثانية “العالية”. يرسل العم حسن إلى البسطاوي ليصعد الأخير على النخلة العالية لإسقاط البلح، بينما زوجة الأخير تخاف عليه من الفأل السيئ لتسلق هذه الشجرة.  

ذلك التشابك الحاصل بين مختلف نصوص يحيى الطاهر عبد الله، يعبر بصورة كبيرة عن مركزية همه الإنساني بالتعبير عن طبيعة المكان ومحاولة تقليب أوجه التجارب الإنسانية  وما تنطوي عليها من أشكال حكائية مختلفة، وجهات عديدة تضع الحدث المركزي جانباً وتعيد الحضور الجانبي إلى مركز الأحداث فتنتج قصة جديدة  تكشف أشكال مختلفة لنفس الحكاية. ينتقل يحيى بين حكاياته بخفة، ملتزماً بأصوله الثقافية القائمة على الحكي الشعبي، لذلك تقوم بنية النص اللغوية عنده على مفردات من قلب المكان، كلمات تطمح لتجاوز الدقة اللغوية، أو التعبير الأقرب عن الحالة التي يتم تناولها، بل تحاول أن تحظى بأبعاد سمعية، عند قراءة الطوق والإسورة، تتميز الكلمات  وتركيبات الجمل بإيقاع موسيقى، تتكون التشبيهات من مفردات قائمة على السمع، لذلك يشبه إيقاع النص إلقاء حكاء شعبي حكاية تراثية قديمة.

فيلم الطوق والإسورة، يحيى ما زال حاضراً

عقب عودة المخرج خيري بشارة من فترة دراسته القصيرة في بولندا عام 1972، ظل مشغولاً بتصوير مجموعة من الأفلام التسجيلية حتى عام 1986، ثم بدأ مشواره في السينما الروائية الطويلة بفيلم الطوق والإسورة، تجربة واقعية تختلف في طبيعتها وطريقة تقديمها عن بقية أفلامه، خاصة أفلامه الصادرة خلال التسعينيات.

في فيلم الطوق والإسورة، يجيد خيري بشارة تتبع الإمكانيات والمزايا في الأبعاد المرئية للطوق والإسورة، ويقدر خصوصية قرى الصعيد وضرورة تقديمها بعيون أصحابها، لضمان تقديم صورة تشتبك مع الحياة الواقعة هناك، لذلك طلب خيري بشارة من الشاعر الراحل عبد الرحمن الأبنودي أن يشاركه كتابة سيناريو وحوار وكلمات أغنيات الفيلم، لأن الأبنودي كان صديقاً مقرباً ليحيى الطاهر، صديقاً ومشاركاً في طبيعة النشأة والمناخ الاجتماعي وتمرد الشباب على قيود القرية، ثم السفر والانخراط في المركزية الأدبية للقاهرة. استطاع خيري بشارة بمشاركة الأبنودي أن ينتج نصاً سينمائياً يطابق النص الأدبي بصورة كبيرة، الاختلافات القليلة الحاصلة تعتبر اختلافات جوهرية، محاولات لتعزيز المشاهد المرئية، التي تشابهت بشكل كبير مع صورتها الأدبية في الرواية.

الملصق الدعائي لفيلم الطوق والإسورة

يبدأ الفيلم من حيث بدأت الرواية، غياب مصطفى وانتظار الأهل له، ثم تبدأ التطورات الدرامية بصورة مطابقة للنص الأدبي، كذلك ينقل الأبنودي الحوارات والمونولوجات الشخصية في الرواية مثلما هي في النص.

يبدو تطابق النص الأدبي مع سردية الفيلم نقطة اختبار لأدوات يحيى الطاهر الإبداعية، تتجلى شخصيات الفيلم بحضور يتكون كلياً من حضورها الروائي، تحكي فتبدو الكلمات تلقائية ودارجة، ابنة اللحظة وتداعيات أفكار الشخصية التي تتحدث، هنالك بعض المفردات المنثورة في حوار الشخصيات، حينما يتم تداولها في الفيلم، تبدو كأنها التعبير الوحيد المناسب لهذه الحالة التي نشاهدها، كل هذه المزايا الحاضرة في النص السينمائي، وكذلك في طبيعة تقديم المكان والتركيز في خصوصية البيئة وإبراز تفاصيلها، تضع يحيى الطاهر كأنه رجل عليم، يشبه شيخ القرية الذي يتبرك به الناس ويطلبون منه مدد الأولياء الصالحين، كأن يحيى يعلم القرية وناسها، أفكارهم الداخلية وهمومهم الكتيمة، المحاصرة بحيطان البيوت البسيطة.

المعرفة المسبقة بتفصيلات القرية عند الأبنودي وكذلك بطبيعة أعمال يحيى الطاهر عبد الله وعلاقتها الوثيقة بالقرية، دفعته بالشراكة مع خيري بشارة إلى إضافة قصة قصيرة ليحيى الطاهر إلى النص السينمائي، قصة “طاحونة الشيخ موسى” التي تجسد الخوف المتوارث من رسوخ أسطورة أن الطاحونة كي تعمل لا بد أن يقدم لها طفل صغير قرباناً، إن لم يتم تقديم القربان تظل تعوي أثناء عملها طلباً للدماء. تنساب حكاية الطاحونة داخل فيلم الطوق والإسورة بسهولة، كأن هذه القصة –وكل قصص الكاتب- محفوظ لها مساحة حضور تعنيها، تشتبك القصة مع مسار الشخصيات وتصبح جزءاً جوهرياً في الفيلم، يعكس ثقافة التخلف والتمسك الأعمى بالأسطورة وتوارثها في القرية.

حضور أنثوي هادئ

تتغير الأشياء في الطوق والإسورة، في الفيلم أو الرواية، تتداعى الأحداث، يسافر شباب ويعاصر الجميع تغيراتهم الشخصية وإن كانت بسيطة بما يتناسب مع تغيرات المكان.

وحدها تبقى حزينة الأم، هي التي تنطلق كل الأحداث الفارقة من خلالها، يبدأ من عندها شعور الفقد تجاه ابنها الغائب، تقوم متطلبات المنزل وضرورات الحياة على عاتقها، تمارس كل شيء بهدوء، تحاول مثل الشطار أن تغزل بقدم حمار، تحمل هم زوجها القعيد، وبعد ذلك تتحمل هم فراقه. بنتها  تكبر وتتزوج ثم تحمل ويفشل زواجها فتعود للبيت مرة أخرى، تموت الابنة ويبقى لحزينة حفيدة صغيرة، تهتم بها حتى يعود مصطفى ذات يوم. تبدو حزينة كجندي مجهول، يتحرك من خلف الخط المرئي من الحدث، تتقبل كل التداعيات بهم كتيم، تعول الأسرة وتتكفل بدفن الزوج والابنة من بعده، لكنها تظل حاضرة، تمارس مسؤوليتها غير العادلة بهدوء.

توفيت أم يحيى الطاهر عبد الله وهو في سن صغيرة، تكفلت بتربيته خالته وأصبحت فيما بعد زوجة لأبيه. من خلال ذلك الغياب المبكر، يستعيد يحيى الحضور الأنثوي في القرية، بطولات مجهولة تقيم حيوات عديدة لذكور ونساء في مختلف الأعمار، يظن الأهل أن البيت في الكرنك هو البناء، لكنه في الحقيقة، كما يعبر يحيى في الرواية، وكما اقتبسها خيري بشارة في الفيلم، البيت هو حزينة، الأم، لذلك ظل قائماً بوجودها فيه.