بين الطهطاوي والأفغاني: من نموذج المُصلح إلى المثقف الثوري
هذا الرجل أعجوبة زمانه، والأزمان التي تلته، وأثره ما زال يسري حتى اليوم. الألقاب التي يحملها تشي بذلك، فهو «موقظ الشرق»، و«حكيم الإسلام»، و«مجدد شباب الإسلام في القرن التاسع عشر».
يتحدث «جمال الدين الأفغاني» عن نفسه ورسالته فيقول:
الطهطاوي: نموج المُصلح في إطار الدولة
سبق جمال الدين الأفغاني (1838-1897) في الظهور مُصلحون كالشيخ حسن العطار (1776-1835) وتلميذه رفاعة الطهطاوي (1801-1873)، لكن الفئة التي حملت لواء الثقافة قبل الأفغاني ظلت في إطار الالتزام بدولة محمد علي وسلطانها، هدفها محصور في تخريج كوادر تعمل لخدمة الباشا، فعاشوا في طبقة موظفي الدولة.
فالنهضة التي شادها محمد علي لم تكن إلا «عسكرية»، وفي حدود الخبرات التي تتصل بالجيش والزراعة والصناعة والتجارة، ولهذا خضع المبعوثون إلى أوروبا لرقابة الباشا، وحينما طلبوا السماح لهم بجولة للتعرف على الحياة الفرنسية رفض. [1]
وعلى هذا كان الطهطاوي، وغيره من العناصر المصرية التي دخلت الخدمة المدنية خلال عهد محمد علي نموذجاً لـ «المثقف/ رجل الدولة»، يكتب عن دولة الباشا ولي النعم، ولا يكتب عن الشعب [2]. أشاد الطهطاوي بتعمير الباشا للقطر المصري، لكنه لم يكتب حرفًا واحدًا عن السخرة ولا عن الكرباج الذي ألهب ظهور الفلاحين.
الطهطاوي مثال لطبقة الموظفين المصريين، الذين هيأت لهم ثقافتهم وإجادتهم للغة التركية فرصة تولي الوظائف الكبرى، وهؤلاء كان عددهم محدودًا. حرص محمد علي على صبغهم بالصبغة التركية، فكانوا يتزوجون من الجواري المعتقات التركيات والشركسيات حتى يألفوا العادات التركية.
حظي الطهطاوي برضا حكام الأسرة العلوية، فأنعم عليه محمد علي بـ 150 فدانًا عام 1837، وأنعم عليه سعيد بـ 150 فدانًا بمديرية جرجا وأسيوط عام 1856، ومنحه 200 فدان أخرى عام 1860 بمديرية المنيا. وفي عهد إسماعيل بلغت ملكية الطهطاوي وأبنائه 1738 فدانًا من الأراضي العشرية وحدها بمديريات بني سويف وأسيوط وجرجا. ويقول «جابرييل باير» إن الطهطاوي اشترى في حياته 900 فدان، وإن ملكيته بلغت عند وفاته 2500 فدان. [3]
صحيح أن الطهطاوي كتب في الإسلاميات، وعن سيرة النبي الكريم، وساهم في طبع كتب من عيون التراث الإسلامي، لكن الغرب ترك بصماته على بعض كلماته.
عاصر الطهطاوي – حينما كان في فرنسا – احتلال الجزائر عام 1830. وحينما علَّق على الأمر نراه يستبعد العامل الديني بقوله:
لو كان الجبرتي حيًّا عام 1830 لوصف الغزو الفرنسي للجزائر بأنه حملة صليبية، ونادى بأن مقاومته فرض عين على كل الأمة الإسلامية. فقد نسي الطهطاوي أن بلاده مصر كانت في موقف أهل الجزائر قبل سنوات، وأنها ثارت على الوجه البغيض لفرنسا.
وتأثر الطهطاوي بالفكرة الوطنية خلال دراسته في أوروبا. ولأول مرة في البيئة الإسلامية نجد كتابات عن الوطن والوطنية وحب الوطن، بالمعني القومي الحديث في أوروبا، الوطن ذو الرقعة المحدودة على الخريطة، الوطن صاحب الشخصية المستقلة عن غيرها من بلاد المسلمين [5]. لم يحاول الطهطاوي دمج الوطن بالفكرة الإسلامية، لكن يُحمد له عدم الدخول في عراك مع الجامعة الإسلامية.
الأفغاني: نموذج المثقف الثوري
على الشاطئ المقابل لفئة (المثقف/ ابن الدولة) وقف الأفغاني يؤكد الهوية الإسلامية، ناشدًا الوحدة الإسلامية. حيث كتب في مقال له بأنه «لا جنسية للمسلمين إلا في دينهم» [6]. تبنَّى الأفغاني «الجامعة الإسلامية» لكي يستطيع المسلمون تحدي الأطماع الأوروبية، والتصدي لها في بلاد المسلمين.
لم يقصد الأفغاني بـ «الجامعة الإسلامية» أن يكون للمسلمين كلهم دولة واحدة، أو أن تكون مقاليد الحكم في يد شخص واحد، حيث ذكر في مقال له بمجلة «العروة الوثقى»، بعنوان «الوحدة الإسلامية»:
والأفغاني من الداعين إلى الحفاظ على السلطنة العثمانية، لا إيمانًا بأنها هي الخلافة الإسلامية الحقة وإمارة المؤمنين، وإنما باعتبار الحفاظ عليها من الضرورات، وباعتبارها خط دفاع قوي ضد الموجة الاستعمارية الزاحفة على ديار الإسلام.
ولأنه من الشخصيات التي تدعو إلى التجمع والوحدة لا الفرقة والتشتت، يدعو الأفغاني إلى نبذ الخصومة بين الشيعة والسنة، حتى يمكن تأليف السلطتين الإسلاميتين الكبيرتين آنذاك: العثمانية والإيرانية، وذلك بعد أن ذهبت الدولة الإسلامية في الهند وسقطت في قبضة بريطانيا كلية بعد إخماد ثورة المسلمين فيها عام 1857. وحدة المسلمين تعني وحدة النضال ضد القوى الغربية.
عاش الأفغاني حياته «ثوريًّا» يرى الثورة هي «الاستراتيجية» والوسيلة الأجدى والأنفع لكي ينهض الشرق من الجمود والتخلف، فكان داعية للانخراط في العمل الثوري، مُحرِّضًا الجماهير على دخول ميادين الثورة في كل مجال، واضعًا ثقته في «الجماهير» وقدرتها على الفعل. [8]
سنوات عمره، كلها، تجوال وترحال، ينثر بذور الثورة في كل أرض يحل بها. طوَّف في فارس والهند والحجاز وإسطنبول. لم يؤلف من الكتب إلا القليل، بيد أن «أبقى ما كتبه الأفغاني هو حياته نفسها» على حد تعبير أستاذنا «طارق البشري» [9]، وأخصب أيام حياته وأصلحها غرسًا ما كان في مصر مدة إقامته بها، من مارس/أذار 1871 إلى أغسطس/آب 1879، فكان الصوت الذي ارتفع في مصر بعد طول سكون ران على البلاد.
جاء إلى أرض النيل فغيَّر مجرى نهر حياتها.
في المبتدأ، لم يخطط للإقامة بأرض النيل، لكن رياض باشا (1834-1911)، وزير الخديوي إسماعيل (1830-1895)، رغَّبه في الإقامة بها، وأجرى عليه راتبًا شهريًّا 10 جنيهات [10]. توهَّم رياض أنه سيُزيِّن عرش سيده بمُثقف في مقام الأفغاني، ولم يدرِ أنه استقدم إلى مصر «عاصفة» تكنس الهواء الراكد، و«إعصارًا» يتصدى لمشروع تمدين مصر على النمط الغربي.
- محمد حسين، الإسلام والحضارة الغربية، مؤسسة الرسالة، الطبعة الخامسة، بيروت، 1982، ص 17.
- وينطبق نفس الحال على مثقفين مثل عليّ مبارك، إذ بلغ به الولاء للدولة التي يخدمها أنه لم يلومها على ما أصابت به عائلته من ذلة، بفرض الضرائب الباهظة عليها، حتى لم تجد ملجأ من الظلم إلا بالتشتت والتفرق في البلاد. وبقي علي مبارك طوال حياته لا يعرض للأسرة العلوية بسوء. (انظر: حسين فوزري النجار، على مبارك أبو التعليم، أعلام العرب، العدد 71، ص 16، 17).
- عليّ بركات، تطور الملكية الزراعية مصر، ص 180. رؤوف عباس، الملكيات الزراعية ودورها في المجتمع المصري 1837-1914، المجلس الأعلى للثقافة، 2011، ص 88. وما ذكرناه عن الطهطاوي لا يبخسه حقه كواحد من المصلحين البارزين في مدرسة الاستنارة واليقظة والإحياء والتجديد، بل يعد من روادها الأوائل. وقد استطاع الرجل أن يميز بين المشترك الإنساني العام في العلوم التطبيقية وبين الخصوصية الثقافية لكل حضارة والمتمثلة في الدين والفلسفة والثقافة.
- تخليص الإبريز في تلخيص باريز، ص 253، الأعمال الكاملة للطهطاوي، ج 2، الدكتور محمد عمارة.
- محمد حسين، الإسلام والحضارة الغربية، ص 19. زكريا سليمان بيومي، العرب بين القومية والإسلام، ص 123. وانظر كتابات الطهطاوي عن الوطن والوطنية في الأعمال الكاملة، ج 2، ص 451 وما بعدها.
- رشيد رضا، تاريخ الأستاذ الإمام، ج 2، ص 276: 282.
- رشيد رضا، تاريخ الأستاذ الإمام، ج 1، ص 306، نقلا عن مقال للأفغاني بعنون “الوحدة الإسلامية”، العدد التاسع، العروة الوثقي.
- محمد عمارة، الأعمال الكاملة للإمام محمد عبده، الكتابات السياسية، دار الشروق، 2009، ص 43.
- طارق البشري، الملامح العامة للفكر الإسلامي المعاصر، دار الشروق، الطبعة الأولي، 1996، ص 14.
- رشيد رضا، تاريخ الأستاذ الإمام، ج 1، ص 31، 32.