واحد من أفضل رجال الاقتصاد في العالم، وأبرز المُلامين على انهيار بلاده، من أطول حكام المصارف المركزية عهدًا في التاريخ، وأكثرهم ملاحقة حاليًا بالدعوات القضائية والاتهامات الشعبية بأنه الرجل الذي سرق ثروة لبنان كلها، بين كل جملة والأخرى مسافة زمنية طويلة، قدرها 30 عامًا كاملة، حكم فيهم رياض سلامة مصرف لبنان المركزي، فقيادة المصرف المركزي في لبنان تمنح صاحبها لقب الحاكم، وليس محافظًا كما جرت العادة في العديد من الدول.

كلمة الحاكم لا تأتي من فراغ، فالمنصب في لبنان حساس للغاية، ورفيع لدرجة عالية. فيُعتبر أعلى سلطة نقدية في لبنان، وهو المسؤول الأهم، إن لم يكن الأوحد، عن الاستقرار النقدي في لبنان، وبجانب أهمية المنصب في ذاته، فإن رياض سلامة تحديدًا له أهمية أكبر، فقد شغله منذ عام 1993.

بذلك يصبح الرجل هو مهندس السياسة المالية في لبنان في مرحلة ما بعد الحرب الأهلية اللبنانية، مرحلة التعافي من آثار تلك الحرب، على مدار السنوات الماضية، الـ 27 عامًا الأولى من حكمه، اُعتبر سلامة عرّاب استقرار الليرة اللبنانية، لهذا انهالت عليه الجوائز الدولية والتكريمات العالمية، فتم التجديد له 4 ولايات متاليية في حكم مصرف لبنان.

ونال عام 2006 جائزة أفضل حاكم مصرف مركزي في العالم من مجلة يورو موني. ونال نفس الجائزة من مجلة بانكر عام 2009، وكرّمته فرنسا بالعديد من أوسمة الشرف، وحصل على رُتبة أ في ترتيب مجلة جلوبال فاينانس لحكام البنوك المركزية في العالم، آخرها كان قبل شهرين فقط من انهيار الليرة عام 2019.

لكن الجوائز التي حصل عليها سلامة تطرح سؤالًا مرًا حول مصداقية المنظمات المالية العالمية، التي ساهمت في ترسيخ الاقتناع العام بجدوى ما يقوم به، عبر تلك التكريمات المتتابعة، والشهادات الدورية عن كفاءته، قبل أن تُغير موقفها عليه لاحقًا في ما يشبه الانقلاب.

مخطط بونزي ليس حلًا

منذ توليه ثبّت سعر صرف الليرة على 1507 ليرة مقابل الدولار الأمريكي، مؤكدًا وجود احتياطات كبيرة من الدولار في الخزائن اللبنانية، لكن مع بداية رفض الحكومة دفع ديونها، شحّت السيولة النقدية وأخذت أوراق الدومينو في التساقط، لذا في السنوات الثلاثة الأخيرة، منذ عام 2019، والليرة اللبنانية تسقط سقوطًا حرًا، فبات سلامة بجانب الطبقة الحاكمة اللبنانية متهمين بالتسبب في وصول البلد إلى القاع السحيق الذي وصله حاليًا، جراء الإخفاقات الاقتصادية المتتابعة.

سياسات سلامة راكمت الديون، وسرّعت من معدل انهيار لبنان، فالرجل منذ عام 2016 عمل تحت غطاء سياسي لتنفيذ هندسة مالية تهدف إلى رسملة المصارف. كان هدفه هو رفع احتياطي البنوك والحفاظ على قيمة الليرة، وطريقته في ذلك هي الاقتراض والمزيد من الاقتراض، في ما يشبه مخطط بونزي، ويعني الدفع لأقدم مستثمر بأموال أحدث مستثمر، دون إيجاد حل حقيقي، أو إصلاح الخلل في المنظومة.

 لهذا يؤكد الخبراء أن تلك السياسات كانت السبب وراء تعميق الأزمة اللبنانية، خصوصًا أن الروايات تتواتر أنه بات يطمح إلى رئاسة لبنان كلها، لهذا بدأ في الاندماج مع الطبقة السياسية والانصياع لطلباتها دون مراعاة لقواعد الاقتصاد أو لمصلحة الشعب.

لكنه يدافع عن نفسه بأن سياساته هي من خففت من وطأة الأزمة. وأنّه موّل الدولة ولم يصرف الأموال لشخصه، لكنه في النهاية أعلن استجابته للضغط الشعبي والسياسي، وأنه سيطوي صفحة حكمه لمصرف لبنان، ويترك المنصب لغيره، لكن مغادرته المنصب لم تطو الصفحة كما أراد، بل منحت قبلة الحياة لتحقيقات تمضي بهدوء منذ عامين.

فثروة الرجل تواجه تحقيقات في لبنان وأوروبا، يقول إنه جمع ثروته من خلال فترة عمله السابق في مؤسسة ميريل لينش العالمية، وعبر العديد من الاستثمارات الشرعية، دون استغلال لأموال أو منصب المصرف اللبناني، فقد عمل في مؤسسة لينش من عام 1973 إلى 1985، ذهابًا وإيابًا بين مكاتب باريس وبيروت، وفي عام 1985 عُين نائبًا للرئيس والمستشار المالي للشركة. ظل في ذلك المنصب حتى تعيينه حاكمًا للمصرف المركزي اللبناني.

آل سلامة يُحكمون قبضتهم

لكن التحقيقات تربط بين قيام الرجل بتضليل المودعين على مدى السنوات الماضية، وتراكم الملايين من الدولارات في حساباته البنكية، فقد بلغت ثروته في بداية عام 2022، طبقًا لإعلانه الشخصي والرسمي، 150 مليون دولار.

فرغم وضع الدولة قيودًا صارمة على مسألة السحب بالدولار، فإن الرجل كان يُصر على طمأنة الجميع أن الليرة بخير، تلك الليرة انهارت حاليًا بنسبة 98% عن قيمتها قبل 3 سنوات فقط، هذا الانهيار صنّفه البنك الدولي باعتباره أسوأ انهيار لعملة منذ عام 1850، وأنه في مقابل ذلك كان يستغل المال اللبناني لصالحه الشخصي وراكم العديد من العقارات في حيازته.

خصوصًا مع وجود العديد من العمولات التي جرى تحويلها لشركة الوساطة، فُوري Forry، العمولات يُشتبه أنها من مصرف لبنان، لكن يؤكد سلامة أنها من أطراف أخرى، وبلغ إجماليها قرابة 330 مليون دولار. لهذا أصدرت قاضية فرنسية، والمدعية العامة في ميونخ، مذكرتي توقيف في حق رياض سلامة. جرى توزيعهما دوليًا، وأصدر الإنتربول مذكرة حمراء بحقه للبنان ومختلف الدول.

يجدر التوضيح أن الملاحقات التي يتعرض لها سلامة تنقسم إلى نوعين، نوع مرتبط بفترة حكمه كحاكم لمصرف لبنان ومسؤوليته المباشرة عن الانهيار المالي وضياع أموال المودعين، والنوع الثاني يدور في خارج لبنان ويتربط بالثراء غير المشروع، وسوء استغلال النفوذ لشراء عقارات فخمة، واختلاس أموال عبر شركة الوساطة، فُوري أسوشيتيس، وهي المملوكة لرجا سلامة، شقيق رياض، ثم قيام الشركة بتحويل الأموال التي كسبتها عبر التعامل مع مصرف لبنان إلى بنوك سويسرية.

كذلك فإن عددًا من الأبناء المسؤولين اللبنانيين قد حصلوا على وظائف في المصرف المركزي دون مؤهلات قوية، سوى كونهم من أبناء العاملين الكبار، عبر تلك الشبكة من المنتفعين جعل سلامة وجوده ضرورة في المصرف، وأصبح لا غنى عنه للأثرياء المستفيدين وذوي النفوذ من مختلف الأطياف اللبنانية.

فاسد واحد يكفي لإغراق دولة

https://www.youtube.com/watch?v=mKQ00h2TSbs&vl=en

تلك الاتهامات كان لابد لها من رد فعل لبناني، لهذا قامت رئيسة هيئة القضايا في وزارة العدل هيلانة إسكندر، بطلب توقيف رياض ورجا، ومساعدة الحاكم ماريان الحويك، وطالبت بالحجز على أملاكهما، وحسابات زوجاتهما وأولادهما القُصر حفاظًا على أموال اللبنانيين.

لكن من الواجب القول إن الانهيار اللبناني لا يتحمله سلامة وحده، فالقانون اللبناني ليس واضحًا في تحديد مدى استقلالية المصرف المركزي، أو حق المصرف في تثبيت أو تحريك سعر الصرف، بل كانت الحكومات اللبنانية المتعاقبة تتعهد أمام الجميع بأنها ستحافظ على سعر صرف ثابت لليرة، وفي نفس الوقت كانت تسن التشريعات التي تُلزم المصرف المركزي بضرورة إقراض الدولة، ما أدى بالطبع لاستنزاف احتياطي دولاري ضخم من الخزائن اللبنانية، ولم يكن من حق سلامة الاعتراض بصورة كاملة، لكن بالطبع كان بإمكانه الاعتراض أو الاستقالة، أو حتى توضيح الأمر للشعب.

وخطأ سلامة كان أنه يحاول شراء وقت دون أن يبدو في الأفق أي برنامج إصلاحي، أو حتى تُظهر الطبقة السياسة استعدادًا لتنفيذ أي برامج إصلاحية، فبينما كان يحاول سلامة تأجيل الانفجار، فقد حدث الانفجار وبكلفة أعلى من كل الاحتمالات الأخرى، لكن سلامة خدع نفسه بالتصور أنه أقوى من السوق، ومن مبدأ العرض والطلب، فتثبيت العملة رغم أنه استمر لأكثر من عشرين عامًا، فإنه كان تثبيتًا وهميًا وليس حقيقيًا، أو مبنيًا على أرض صلبة.

لبنان بلد غارق في الفساد حتى عظامه، وحتى لو ثبتت الاتهامات بحق رياض سلامة فلن يتوقف الفساد المستشري في المنظومة اللبنانية، بل سيظهر في هيئة رجل آخر يصل إلى منصبه بحكم المحاصصة الطائفية، كما وصل سلامة كونه مسيحيًا مارونيًا، دون الالتفات إلى سجله المهني، أو القدرة على منعه من التعمق في فساده، لأن ذلك سيوقظ فتنًا طائفية يخشاها الجميع بعد أن اكتوى لبنان بنارها سنوات طويلة، فأصبح فساد رجل واحد في منصب حرج بمثابة ورقة الدومينو الصغرى التي أدت لانهيار هيكل ضخم من الأوراق الأكبر، هيكل بحجم دولة.