ثورة 1919 وتطور الوطنية المصرية
هذه المقالة هي المقالة الثانية ضمن ملف «مائة عام على ثورة 19» الذي تصدره «إضاءات» في الذكرى المئوية لثورة المصريين ضد الاستعمار عام 1919.
في الحادية عشرة من صباح يوم الأربعاء 13 نوفمبر/تشرين الثاني 1918، يدلف ثلاثة أشخاص إلى دار الحماية البريطانية بمنطقة قصر النيل بالقاهرة، بناء على موعد مسبق يصعد الحضور إلى مكتب المندوب السامي البريطاني السير رنجلد ونجت، ويسمح لهم بالدخول للقاء الأخير حسب الموعد. بعد التحية والترحيب، دار الحديث الآتي [1]:
كان هذا الحوار إيذانًا، ليس فقط بميلاد مرحلة جديدة من النضال الوطني المصري لنيل الاستقلال، وإنما أيضًا بنضج الوطنية المصرية في طورها الجديد الذي تشكلت فيه الأمة المصرية كأمة متمايزة عن محيطها العربي والإسلامي. كيف ولدت تلك الوطنية، وكيف تشكلت ملامحها، وكيف انبثقت عنها جماعة وطنية مصرية عرفت نفسها على هذا النحو [جماعة مصرية قبل أي شيء آخر] من الوضوح أول مرة في تلك اللحظة التاريخية. هذا هو ما علينا أن نفكّر فيه.
ميلاد الفكرة
بحسب أطروحة تميم البرغوثي عن حزب الوفد الذي خرج من رحم ثورة 1919، كان الإطار الذي حاولت النخبة السياسية المصرية تحريره من التبعية للاحتلال البريطاني، هو نفسه أداة من أدوات التبعية، كما هو الحال في جميع الدول التي رسمت حدودها القوى الاستعمارية في القرنين التاسع عشر والعشرين، حيث صممت تلك الدول لتكون في ذاتها أداة للحكم الأجنبي، فاقتصادها تابع، وأراضيها منكشفة عسكريًا، كما صممت لكل دولة من تلك الدول عقيدة سياسية تجعل منها وطنًا، ومن شعبها أمة [2].
يقوم طرح البرغوثي على عدة فرضيات، أهمها أن مصر التي نعرفها اليوم ليست مصر الألفيات الخمس أو السبع القديمة، بل هي مصر عمرها حوالي قرن ونصف من الزمان، ولدت في اتفاقية لندن عام 1840، واكتشفت مع الوقت عمود نسبها من خلال الاكتشافات الأثرية التي بدأت بالأساس بعد قدوم الحملة الفرنسية، ثم شبّت عن الطوق في عهد الاحتلال البريطاني الذي بنى مؤسساتها ورسم حدودها [3]. وبالإجمال، تنتمي أطروحة البرغوثي بوجه عام للإطار النظري لدراسات ما بعد الكولونيالية التي تتناول العلاقة بين المستعمر والشعوب المستعمرة من جانب الثقافية والهوية، وتأثير القوة والسلطة على المعرفة.
التحول الذي جرى بالفعل في العمل الوطني المصري بعد الحزب الوطني القديم الذي تبنى موقفًا مقاومًا وجذريًا من الاستعمار، في مقابل تجربة حزب الوفد السياسية التفاوضية، لا يبتعد كثيرًا في الحقيقة عن المنظور الذي يمدنا به فرانز فانون، أحد رواد الأدبيات ما بعد الكولونيالية، حيث يعتقد فانون أن العنف في مواجهة المستعمر مصدر أساسي لإعادة اكتشاف الهوية الحقيقة المطموسة جراء الهوية المتخيلة التي صنعها وفرضها عليه المستعمر، إذ يقول على سبيل المثال في كتابه «معذبو الأرض»:
تختلف بالفعل في هذا الإطار الوطنية المصرية التي عبر عنها حزب الوفد عن الوطنية المصرية المبكرة التي تشكلت مع الحزب الوطني القديم الذي أسسه الزعيم المصري الراحل مصطفي كامل؛ الحزب الذي ناصره الخديو عباس حلمي الثاني، وكانت فكرة الوطنية لديه ترتبط ارتباطًا لا ينفصل عما عرف وقتها بـ«الجامعة الإسلامية»، أي فكرة الوحدة السياسية العالم الإسلامي من خلال الدولة العثمانية، وكان أميل إلى المقاومة العنيفة في التعامل مع الاحتلال.
بعد سلسلة من تطور الأحداث التي أدت إلى عزل الخديو عباس حلمي الثاني في 19 ديسمبر/كانون الأول من عام 1914، وإحكام البريطانيين سيطرتهم الكاملة علي البلاد من خلال الأحكام العرفية الاستثنائية، ضعف الحزب الوطني القديم كثيرًا في الشارع المصري، وفتح بمرور الوقت الباب أمام طليعة سياسية جديدة تتبنى موقفًا أكثر تفاوضية ومرونة مع الاحتلال، وهو الدور الذي لعبته المجموعة الإصلاحية من تلاميذ الشيخ محمد عبده الذي كان مقربًا في المرحلة الثانية من حياته، بعد خلافه مع جمال الدين الأفغاني، من اللورد كرومر القنصل البريطاني العام في مصر، وهي المجموعة التي كان أحد أبرز أفرادها سعد زغلول.
تشير إلى تلك الحقيقة كثير من الوثائق والكتابات التاريخية، ومنها ما ذكره كرومر نفسه في أحد تقاريره الدبلوماسية، حيث أشار إلى أن في مصر جماعة صغيرة آخذة في التشكل، أطلق عليها كرومر على سبيل الاختصار «أتباع المفتي محمد عبده»، وصفهم بأنهم غير متأثرين بدعوة «الجامعة الإسلامية»، وأنه قد اختار أحدهم على سيل التشجيع والتجربة لوزارة المعارف ألا وهو سعد زغلول [6].
لا يجادل البرغوثي في كتابه «الوطنية الأليفة» أن الحزب الديمقراطي الليبرالي الأهم في التاريخ المصري قاطبة الذي خرج من رحم ثورة 1919، هو حركة تحرر وطني هي الأعظم في شعبيتها بين الجماهير المصرية بلا شك، إلا أن تجربة الوفد بحسبه كانت تمثل حالة نموذجية للحلول الوسط ومحاولات التوفيق ومن ثم التمثيل المزدوج للمصالح بين سكان البلاد والاستعمار.
ميلاد التنظيم
في مقابل هذا التصور النقدي لتجربة حزب الوفد المصري، ينظر المؤرخ والمستشار طارق البشري لتجربة الوفد وثورة 1919 نظرة مختلفة، حيث يرى أن ثورة 1919 قد هزت كلًا من قوائم الاستبداد والاستعمار في مصر في نفس الوقت، وأدت بنهاية المطاف إلى «تصريح 28 فبراير» الذي أعلنت فيه بريطانيا رفع الحماية عن مصر، وإلى إصدار دستور 1923 [7].
يعتقد البشري أنه مهما قيل بحق عما يقيّد الاستقلال المصري والحكم الديموقراطي في تلك الفترة من تحفظات، فقد كان من المدهش أن تكسب مصر استقلالها في ذلك الوقت؛ وهو الأمر الذي لم يتسنَّ لغيرها من الأمم والشعوب في تلك الفترة [8].
ينظر البشري بكثير من الإيجابية لموقف جهاز الدولة المصري خلال تلك الثورة، من حيث قدرته على الانعزال نسبيًا عن نفوذ السلطان فؤاد والاحتلال البريطاني، حيث كان من أهم مكامن القوة في الحركة الشعبية المصرية وقتها انحياز جانب من جهاز الدولة لها، حيث انبثقت من هذا الكيان نفسه الثورة العرابية، ومن أحشائه خرجت كذلك حركة ضباط 23 يوليو 1952 [9].
بحسب البشري كان النظام السياسي الذي أسفرت عنه ثورة 1919 قد بني على ثلاث قوائم ترابطت وتساندت لتشكل الإطار العام للحركة السياسية في البلاد على مدى السنوات الثلاثين التالية لها: أولها، نشأة حزب الوفد كتنظيم سياسي شعبي جامع، ثانيها، قرار رفع الحماية البريطانية عن البلاد الذي جاء مع تحفظات عدة بقي معها وجود قوات الاحتلال في البلاد، ثالثًا، دستور 1923 الذي رسم للحكم المصري نظامه ومؤسساته في إطار حركة الصراع بين الوفد والقصر والاحتلال [10].
ولذلك تماهى التنظيم المعبر عن الحركة الوطنية مع الأمة الوطنية، بأصل نشأته ووقائع قيامه منذ جمع التوكيلات من عموم المصريين لسعد زغلول ورفقائه، وأصبح لدى ذلك التنظيم القدرة على تعبئة الجماهير على نحو يصعب معه على أي حكومة أخرى مشكّلة من حزب غيره كالأحزاب التي عرفت باسم أحزاب القصر كحزب الأمة وحزب الأحرار الدستوريين، أن تجري اتفاقًا أو تتفاوض مع المحتل [11].
ميلاد الأمة
يقول البشري، إنه لم يرد في خيال الإنجليز عندما قاموا بنفي سعد زغلول وثلاثة من أصحابه، أنه سيعقبه خلال عدة أيام ما حدث هذا كله على هذه الرقعة من الاتساع التي تمتد من أقصى البلاد شمالاً إلى أقصاها جنوبًا؛ شعب بأسره ينتفض ويقوم قومة رجل واحد، فقد فاجأت الثورة الثوريين كما فاجأت أعداءها [12].
كان «لا بد من قارعة»، كما قال سعد زغلول لزملائه، لتحريك الأمة المصرية حركة موحدة ضد الاحتلال، ولكن لم يعلم سعد أن تلك القارعة سترتبط بشخصه وبزملائه من أعضاء وفد التفاوض المصري إلى هذا الحد [13].
هذا النمط من الأعمال الشعبية التي حدثت خلال ثورة 1919 من حيث السعة والتوقيت، والتلقائية غير المنظمة لشعب بلغ درجة متقدمة من التوحد والتجانس في الشعور والفعل ورد الفعل [14]، كان لحظة تبلور كبرى للوطنية المصرية بمفهومها المعاصر، ولحظة ميلاد سياسي للأمة المصرية، والجماعة الوطنية أو القومية ذات المتخيل الجمعي الواحد.
وهنا تختلف ثورة عام 1919 عن الثورة العرابية التي قامت على أكتاف الجيش، وبقوة سلاحه وضباطه وجنوده، فثورة 1919 ثورة أمة عزلاء من السلاح، قامت في وجه دولة من أقوى دول الأرض [15].
كانت ثورة 1919، بحسب أحمد عبدالفتاح، هي الثورة الوحيدة في تاريخ مصر الحديث التي نشأت عن تنظيم سياسي شعبي، ونشأ عنها تنظيم سياسي يمثل «الأمة السياسية» التي تخلقت في خضم الثورة، وأصبح فاعلاً في مواجهة قامعيها في الداخل «سلطة الاستبداد»، والخارج «سلطة الاحتلال». وبذلك نجحت الثورة في وضع لاعب جديد يمثل «الأمة السياسية» حديثة النشأة، على طاولة السلطة إلى جوار الاستبدادين الداخلي والخارجي.
- عبد الرحمن الرافعي، تاريخ مصر القومي من 1914 إلى 1921، دار المعارف، القاهرة، الطبعة الرابعة، ص 111
- تميم البرغوثي، الوطنية الأليفة: الوفد وبناء الدولة الوطنية في ظل الاستعمار، دار الكتب والوثائق القومية، القاهرة ، 2007
- المصدر السابق
- المصدر السابق
- محمد محمد حسين، الإسلام والحضارة الغربية، دار الفرقان، ص 75
- طارق البشري، دراسات في الديموقراطية المصرية، دار الشروق، القاهرة، الطبعة الأولى، 1987، ص 28
- المصدر السابق
- المصدر السابق
- طارق البشري، الديموقراطية ونظام 23 يوليو 1952- 1970، مؤسسة الأبحاث العربية، بيروت، الطبعة الأولى، 1987، ص 9
- المصدر السابق
- طارق البشري، دراسات في الديموقراطية المصرية، مصدر سابق ص 27
- المصدر السابق
- المصدر السابق
- الرافعي، تاريخ مصر القومي من 1914 إلى 1921، مصدر سابق ،ص 86