إحياء المجزرة: حينما تحدثت نساء البوسنة
بدا الأمر مؤلمًا أكثر من اللازم. انتهت المجزرة في منتصف تسعينيات القرن الماضي، لكن عمليات البحث والتنقيب عن المقابر الجماعية التي كانت تتكشف عاماً بعد الآخر لم تتوقف عن الظهور، في كل بقعة من الأراضي البوسنية يجدر بك أن تتحسس موضع قدمك، فلربما كنت تقف فوق قبر أحدهم.
ذات يوم قررت المؤرخة الهولندية «سيلما ليدسدورف» أن تستكمل مسيرتها التوثيقية المتعلقة بقصص الضحايا منذ أن بدأتها في 1994 بكتابها «We lived with Dignity»، واستكملتها في 2004 بكتابها «Trauma: Life stories of survivors»، لكنها هذه المرة قررت أن تدخل إلى قلب الدائرة التي يتعمد الكثيرون في أوروبا جعلها منسية، اقتربت سيلما من الدائرة التي شاركت بلادها فيها، وسمعت القصص من أفواه الناجين، فقدمت صورة يصعب المرور عليها مرور الكرام، في كتابها «Surviving the Bosnian Genocide: The Women of Srebrenica Speak»، والذي كُتب بالهولندية وترجم للإنجليزية لتتوقف رحلته هنا، لذا ربما سيكون من الجيد أن نقترب من تلك الرحلة لأول مرة عبر الطريق الهولندي.
ما قبل البداية.. باتجاه الهاوية!
كانت المقدمات أشد فزعاً مما قد يتخيل الكثيرون.. روت سيلما ما قبل اندلاع الحرب.. عن كارثة شرق البوسنة حيث بدأت الشرارة في ربيع 1992.
تعايش المسلمون في ذلك النطاق مع الصرب بصورة طبيعية لسنوات طوال، تحطمت فيها الحواجز أكثر مما يعتقد البعض، فالصداقة والجيرة ما بين المسلمين والصرب كانت وطيدة لدرجة أن الزواج كان مسموحاً به بين كلتا الفئتين بالنسبة للبعض، ليستيقظ المسلمون ذات يوم وقد وجدوا أصدقاءهم وجيرانهم قد قرروا الدخول معهم في معركة حربية غير مفهومة الأسباب.
بدت المفاجأة قوية للكثيرين بمن فيهم الجيل الجديد، والذي كما ذكرت سيلما كان أكثر تقبلاً للاختلاف مع الصرب، وأكثر قرباً وصداقة من الجيل الأكبر سناً، وفجأة ودون مقدمات ها هم الأصدقاء قد تحولوا أعداءً بين عشية وضحاها، وتحولت منازل الجيران المفتوحة إلى نقاط إطلاق نيران عشوائي.
كل من قابلتهم سيلما من النساء الناجيات قدمن شهادات متشابهة بشكل غريب، يوحي بأن العمليات العسكرية التي قامت بها القوات الصربية بدعم من السكان الصرب، كان ممنهجاً ومتفقاً عليه، بدأ باقتحام منازل المسلمين واقتياد الرجال والشباب والصغار إلى أماكن مجهولة، ثم القبض على النساء ووضعهم في مكان واحد مجمع، خرجت منه الحكايا والشهادات مثلما خرجت منه الجثث إلى القبور والمحطمون نفسياً إلى حياة قاتمة.
تحركت الصورة قليلاً بين الصفحات الممتلئة بالشهادات باتجاه نقطة أخرى على الخريطة.
«بوتوكاري» تلك النقطة الواقعة في أقصى الشمال من سربرنيتشا، والتي يمكن الوصول إليها عبر الغابة هناك، كان مخيم اللاجئين الذي أعلنت عنه السلطات لمن أراد الخروج إلى مكان أمن بعد أن اجتاحت القوات الصربية المقاطعات البوسنية المسلمة، وزيادة في الأمان كان الإعلان عن أن المخيم تحت إشراف قوات دولية من هولندا، باعتبارها طرفاً محايداً في الحرب.
صبيحة الحادي عشر من يوليو/ تموز 1995 وحينما اقتحمت مجموعات الشتينك -مجموعات الجيش اليوغسلافي المسلحة- مدينة سربرنيتشا خرجت السيدة «صباحيتا» رفقة ابنها الوحيد «ريجاد» من المنزل متجهين مع مجموعة كبيرة من السكان نحو المنطقة الآمنة في بوتوكاري، وقد سبق ذلك اختفاء زوج «صباحيتا» في الغابة حينما خرج من المدينة بعد أن كانت القوات اليوغسلافية تستهدف القبض على كل رجال المقاطعات.
وصلت صباحيتا وابنها إلى المنطقة الآمنة، ولم يدم ذلك الهدوء المخيف سوى يومين وحسب.
روت «صباحيتا» لسيلما التفاصيل كاملة دون أن تغفل أي منها.. هاجمت مجموعات الشيتنك المعسكر في حضور القوات الهولندية التي اتخذت موقفاً صامتاً وقررت مجموعات الشيتنك هدفها منذ البداية وهو الشباب المتواجدون في المعسكر وقد كان.
وصل جنديان إلى صباحيتا وطلبا اصطحاب ابنها «لفترة وجيزة» مطمئنين إياها بأنه سيعود سريعاً وأن الأمر لن يستغرق الكثير من الوقت، لكنها رفضت وبكل شدة وأخبرتهم بأنه يمكنهم معرفة ما يريدونه منه هنا، وبعد اشتداد نبرة الحديث تراجع الجنود لبرهة قصيرة، وذلك بعد ما تكرر تكاتف الأمهات المتواجدين في المعسكر، لكن الأمر لم يدم سوى ساعات قليلة حتى قرر الشيتنك انتهاج العنف وانتزاع الأبناء من بين أيدي أمهاتهم.
ارتفع صراخ صباحيتا ومواجهتها مع الجنود وانتهى الأمر بضربة قاسية على رأسها بظهر السلاح فقدت الوعي على إثرها، وقد سجلت عيناها اللحظات الأخيرة لابنها وهو بين قبضة الجنود اليوغوسلاف.
مرت السنوات تباعاً.. ظلت صباحيتا على قيد الحياة لكن ابنها وزوجها اختفيا من الوجود.
الأغنياء والنساء: أهداف محددة
انطلقت سيلما إلى نقاطٍ أكثر بعداً في فصولها التالية، مع مزيد من الضحايا والشهادات لكنها هذه المرة من خارج معسكر بوتوكاري، بل من الضواحي المحيطة بسربرنيتشا.
ميرسادا باكالوفيتش، والتي كانت تنتمي لعائلة ثرية كانت تعيش في حالة من الرفاهية ورغد العيش خلال سنوات ما قبل الحرب، حتى حلت قوات الشيتنك على المدينة لتبدأ الأوضاع في التغير بصورة جذرية.
روت ميرسادا عن ذلك اليوم الذي اقُتيدت فيه كل النساء المتواجدات في مقاطعتها إلى الإستاد بعد أن تم القبض على كل الرجال المتواجدين هناك، وإخفاؤهم في أماكن مجهولة، كانت الصورة لو حاولنا التخيل كما جاءت التفاصيل تحمل الكثير من النساء الجالسات أرضاً ومن بينهن يمر الجنود وأسلحتهم على أكتافهم يمرون من بين الصفوف آخذين من كل الجالسين ما يملكنه من أموال أو حلي ذهبية أو أي قطعة قد تساوي مالاً.
روت ميرسادا شعور الصدمة الذي انتابها وانتاب الكثيرات حينما شاهدون جيرانهن الصرب من النساء يساعدن جنود الشيتنك في مهام سرقة الحلي والأموال، وكيف كان الجنود يستخدمون كل الطرق الممكنة للخروج بأكبر حصيلة ممكنة، حتى أنهم كانوا يقطعون أصابع النساء التي يتعذر خروج الحلي منها!
بعدها بيومين تفاجأت ميرسادا بمجموعة من الجنود يجبرونها على التوقيع على وثيقة تنازل عن منزلها، لتجد نفسها وابنتها في نقطة لا تحسد عليها، فلا مال ولا سكن ولا أقارب.
لنتحرك بالخريطة قليلاً نحو مدينة بروتاناك. تحديداً بلدة فوتشا والتي وصفتها الشهادات ببلدة الاغتصاب الجماعي حيث المنزل المعزول الذي سقط فيه الكثير من الضحايا، هنا حيث بدأت إيدينا حكايتها وهي في الخامسة عشرة من العمر.
ليلة الخامس عشر من مايو/آيار حيث بدأ صوت إطلاق النار والقذائف يرتفع بشدة في محيط المدينة، لتهرع إيدينا وإخوتها إلى غرفة الوالدين محاولين الاختباء بين أذرعهما مما يحدث، مرت ساعات الليل طويلة ممتلئة بأصوات الرصاص والقذائف، لتحل ساعات الصباح الأولى وتهرع الأسرة هاربة إلى المنطقة الآمنة القريبة حتى وجدوا مجموعة من الأسر المسلمة ليستقر بهم الحال ليومين هناك.
في اليوم الثالث، خرجت إيدينا مع والدها لتدبر أمر الطعام لكن الجنود كانوا قد وقعوا في طريقهم فقبضوا عليهما واقتادوهما إلى منزل معزول، وبدأ التحقيق معهم عن مكان تواجد العائلات المسلمة الهاربة لكنهما رفضا الحديث حتى تلقى والد إيدينا تهديداً بابنته ليوافق على الخروج مع الجنود ليدل على مكان التخييم، مع احتمالية قتل ابنته في حال فشله كما أخبره القائد.
مر يومان كاملان ولم يعد والد إيدينا فاصطحبها الجنود هي وبضع فتيات أخريات كن قد اقتدن إلى المنزل المعزول، حيث أُخذن إلى منزل مهجور في ضاحية قريبة، وهناك تعرضت إيدينا للاغتصاب 3 مرات في يوم واحد من الجنود، ثم مرتين في اليوم التالي على يد أحد جيرانها القدامى وبعده جندي يوغوسلافي.
بدا الأمر وكأنه كابوس لا ينتهي لأولئك الفتيات فمنهن من كان مصيرها الموت وأخريات كان مصيرهن الهروب في جنح الليل كما كان الحال مع إيدينا التي كان من نصيبها أن تروي قصتها لتبقى.
منهجية الجُرم
كانت شهادة صادق سليموفيتش عما قاله سفاح القوات الصربية ملاديتش مدخلاً لفهم ما جرى في تلك السنوات القاتمة، فقد اعتمد ملاديتش منهجية مُوحدة على كافة النطاقات التي دخلتها قواته، تقوم في البداية على التخلص من الرجال بصورة ممنهجة، لكسر حائط المواجهة المحتملة بصورة كاملة، فكانت النتيجة أكثر من 100 ألف رجل اختفوا من الوجود ما بين الموت قتلاً بالرصاص أو بالتعذيب داخل معسكرات الاحتجاز الصربية.
وباستكمال شهادة صادق، فالنساء هن الطرف الذي يجب أن يبقى حتى تناله المعاناة، وقد حملت الجملة للوهلة الأولى أكثر من معنى، ربما جزء من هذه المعاناة هو معايشة فقدان الزوج والأب والابن وكل من يمكن الاحتماء بهم، وثانيها، هو الاغتصاب وهتك العرض بصورة جماعية، وقد كانت النتيجة في الحقيقة هي أن النساء قد نلن نصيبهن من كل أنواع المعاناة التي حملتها الكلمة.
فقد أشارت بعض التقديرات إلى أن مجموع النساء اللواتي تعرضن للاغتصاب لأكثر من مرة، قد بلغ 50 ألف ضحية في مختلف المدن البوسنية، شمل ذلك الفتيات الصغيرات، وحتى النساء الحوامل اللواتي ظنن أن ظروفهن الصحية قد تحميهن من ذلك الانتهاك.
الكثير من القصص المؤلمة استمر الكتاب في روايتها حتى صفحاته الأخيرة، قصص النساء اللواتي تعرضن للاعتداء والاغتصاب من جنود هولنديين كانت مهمتهم دولية محايدة، وأخريات وقعن ضحية عمليات اغتصاب جماعي أمام نساء أخريات بعد قتل أطفالهن، ومنهن من قتلوا وهن حوامل في أطفالهن بعد الاعتداء عليهن بصورة وحشية.
وعلى الرغم من كل السطور والقصص التي يرويها الناجون في التحقيقات والأعمال الوثائقية على مدار سنوات كانت رغبات التعتيم هي الغالبة إلا أن تاريخاً في البوسنة بكل بلدانها ومقاطعتها ما زال جديراً بالرواية.