«كل دا كان ليه»: حوار ومراجعة عن الأغنية والصدارة والسلطة
في عام 1953 غنى «محمد عبد الوهاب/ 1902-1991» من كلمات «مأمون الشناوي/ 1914-1994» أغنية (كل دا كان ليه؟)، وكانت إجابة مأمون وعبد الوهاب (لما شفت عينيه)، وفي كتابها الصادر نهاية العام الماضي «كل دا كان ليه، سردية نقدية عن الأغنية والصدارة»، تحيلنا (فيروز كراوية/1980) إلى إجابة متزنة الطرح والتحليل عن تحورات الأغنية المصرية خلال أكثر من قرن، وعن أسباب حيازة الصدارة الغنائية عبر حقب زمنية متعاقبة، لكنها لا تكتفي بالإجابة فقط، بل أيضًا تدعو القارئ إلى التفكير في الأمر برمته بداية من نهايات القرن التاسع عشر وحتى لحظتنا الحالية، وفي هذا الحوار تسرد فيروز كراوية الفنانة والباحثة بمجال الدراسات الثقافية، من منزلها بمصر الجديدة، وتحت إضاءة خافتة بغرفة مكتبتها، عما يعنيه عنوان كتابها، وتركيزها على أن يكون الفصل الأول عبارة عن تحليل جنسنة اللغة في الأغنية، وحول علاقة السلطة بالفن، وحول أثر هزيمة 67 على تغيير الشكل الفني للأغنية.
تنويه: تمتزج اللغة أثناء الحوار بين العامية المصرية والفصحى.
كل دا كان ليه، حول معنى العنوان
للكتاب عنوان جانبي هو «سردية نقدية عن الأغنية والصدارة» وحول ما يعنيه العنوان ومتى تحولت الفكرة إلى كتاب، تقول فيروز:
«بدأت فكرة الكتاب عام 2017، ولم تكن فكرة كتاب بقدر ما هو سؤال يلح عليَّ عن لماذا تتصدر أغانٍ بعينها دون غيرها؟ أعني الأغاني المشهورة والمتصدرة، وجود أغانٍ منتشرة من جيل إلى جيل، ليه بنتوارثها من جيل للتاني، وليه إللي نجح نجح؟ وعشان كده كان عنوان الكتاب بالشكل ده، ليه العشرينيات انتخبت سيد درويش؟ ليه الثلاثينيات انتخبت عبد الوهاب وأم كلثوم؟ ليه الخمسينيات انتخبت عبد الحليم حافظ؟ وهكذا، ده أكيد مالهوش بس علاقة بأن المزيكا بتطلع والناس بتتفاعل معاها، أو تنبسط بها، أكيد في سبب للصدارة دي، تهت في عوامل الصدارة، أسبابها، منها حاجات ترجع للفنان نفسه والجوانب الشخصية بتاعته، واشمعنى فلان تصدر وفلان تاني لأ، خصوصًا مع تشابه الظروف من حيث الإنتاج والفترة الزمنية نفسها.
والإجابة اللي حسيتها أقرب للواقع وفيها فعلًا رصد للواقع كانت هي لأنهم كانوا نتاج عوامل متعددة أحاطت بالمشهد، مثلًا كانت ذروة نجاحات سيد درويش بالتزامن مع ثورة 1919 اللي أثرت مشهد المسرح الغنائي وسمحت وتطلعاته الموسيقية بإدخال التوزيع الموسيقي والغناء الجماعي والدرامي بالتحقق.
في الثلاثينيات، كان عبد الوهاب ومحمد القصبجي الأقدر على صياغة أشكال تناسب الميديا الصاعدة، الإذاعة والسينما والحفلات الغنائية الطويلة، بعد انحسار المسرح الغنائي.
خلال الخمسينيات، تعامل عبد الحليم حافظ مع سطوة الميكروفون ونجح في تمثل جيل من الشباب بالتزامن مع حركة يوليو وآثارها الاجتماعية.
وتصرف السلطة نفسها مع لحظة ظهور فلان، لكن مكانش في بالي خالص إني هرجع كل ده بالزمن لورا، نهايات الـ19، مرورًا بالقرن العشرين ثم العقود الأولى من القرن الواحد والعشرين، الفكرة يمكن تطورت أما بدأت أدور أكتر، واكتشفت أن عشان أكتب لازم أرجع أكتر وأكتر، واكتشفت مثلًا مطلعش أول حد تحاول النقابة تمنعه من العمل بالتوزيع الموسيقى والغناء مش حميد الشاعري، ده طلع الموضوع قديم من أيام الطقطوقة، وأشوف الجوانب الشخصية للمطرب وكمان ذكاءه، واللي عايزاه السلطة في اللحظة دي، وإزاي المطربات بتغني غالبًا بصيغة المذكر دائمًا».
جنسنة اللغة
أتاحت الخلفية الأكاديمية لفيروز أن تتوسع في رصدها للتفاعلات الاجتماعية التي ترتبط موضوعيًّا بتحولات الأغنية وصدارة فنانيها.
إلى جانب الممارسة الموسيقية منذ عام 2006، حصلت فيروز على ماجستير في الاجتماع الثقافي من الجامعة الأمريكية بالقاهرة عام 2009، وبدأت بعد حصولها، في الكتابة دوريًّا عن الحقل الفني من زاوية التحليل الثقافي الذي يعتمد مقاربات متعددة في النظر لعملية الإنتاج الفني (الاجتماع، التكنولوجيا، الجندر، الاقتصاد، التحليل النفسي … إلخ).
وربما ظهر أثر هذا بقوة في الفصل الأول «عوالم أم مطربات» التي حللت فيروز فيه أثر خروج المغنيات من الحرملك الأرستقراطي المغلق على نساء الطبقات العليا، إلى الفضاء العام، وكيف تأثرت السيدات بهذا الخروج في طريقة الغناء وشكله، وكيفية تأثير هذا على اللغة المتداولة.
تُعطى فيروز خيوطًا كثيرة متصلة ببعضها على مدار الكتاب، كل هذه الخيوط هي دعوة للتفكير حول ما تطرحه، وما يطرحه الكتاب، لكنها تقف على مسافة مما تطرحه، أي إنها لا تمعن في استخدام سلطة القلم الذي تكتب به لفرض وجهة أحادية للنظر، فتبدأ في الفصل الأول لكتابها.
بتحليل الضمير الذي تتغنى به أغلب الأغنيات وتحديدًا أنها كانت في مجتمع محافظ، وتجد أن الأمر لا يتوقف على كون أن الطقاطيق تخاطب بصيغة المذكر فقط، بل الغرق في الأمر قد يلفت الانتباه إلى أن المجتمع يتبنى ويتمنى أن تظل النساء على هذه الحالة، التي تظهر النساء فيها بشكل تسترضي به الرجل مهما حدث، وخاضعة لسلطته، وهذا ظهر في الكتاب، في التحليل الذي رصد الذات النسائية في الغناء، حول ذلك الأمر تقدم فيروز تحليلًا ظاهره فني بثناياه تحليل لشكل المجتمع في ذلك الوقت.
تقول فيروز: «عملية جنسنة اللغة بالنسبة لي بدأت من سؤال أيضًا، كان هو «لماذا مع اختلاف جنس من يغني، يظل المخاطب ذكرًا؟ وأيضًا كيف يتلقى المستمع هذا الأمر، أعني: أنت ولد وفي بنت في حياتك، وكل الأغاني إللي أنت بتسمعها بتخاطب ولد»، تضحك فيروز، ثم تكمل حديثها: أنا دائمًا كنت بسأل مهندس الصوت معايا إزاي بيحس بالأغاني إللي بتخاطب الذكر دائمًا، وأعتقد إنه مفكرش في ده، وده خلاني أفكر في بداية التوتر ده كان أمتى؟ واكتشفت أن التوتر ده بدأ من وقت خروج الستات من الحرملك، زي منيرة المهدية ورتيبة أحمد، أقصد أن هي بتغني لجمهور أغلبيتهم من الرجال، ودا يدفعها لمواءمة مع طلباته وميوله، ويجعلها خاضعة لسلطة حضوره، وأيضًا سلطة فكر المجتمع في ذلك المجتمع كونه محافظًا.
في الفصل الثاني من الكتاب يظهر الشاعر أحمد رامي كرجل يعدل دفة اللغة فتصبح اللغة أكثر تجريدًا لا تخاطب ذكرًا أو أنثى، مجردة أكثر من كونها محددة التوجه، بل اقترب رامي من صناعة ذاتية للست منفصلة عن الرجل، تقربها من الرجل والست حد السواء، وفي هذا تقول فيروز: «ظهور رامي في المشهد كان مهم عشان كده فعلًا، هو خلى أم كلثوم كست تحب بعزة نفس وشموخ، أو بنوع من الكبرياء، لكن برضه عشان يعمل كده خلاها تستخدم الضمير المذكر للمحب أو المتكلم، وده كان ملائم مع شخصية أم كلثوم المحافظة بعض الشيء، ومتوائم مع كلمات رامي إللي هي أكثر محافظة من كلمات الطقاطيق، وده ظهر في تصوير العلاقات في كلمات رامي، وأنها شيء أقرب للعذرية، والتجرد والتواصل عن بعد».
ترى فيروز في كتابها أن رامي من ساعد في تحول أم كلثوم من الطقطوقة إلى الأغنية الطويلة، وهذا تم عبر خلق مفردات أكثر محافظة من مفردات الطقطوقة، ساهمت في تميزها عن معاصراتها، بعالم غنائي خاص، والأغنية الطويلة تميزها، وتبتعد عن قالب المونولج الذي يتشكى من الهجر والألم والأسية، أي إن رامي أدرك تحولات المشهد مع دخول النساء للمسارح كمستمعات، وتزايد إقبالهن على حضور الحفلات العامة، واحتياجهن لمحتوى غنائي مختلف عما كان يقدم لجمهور من الرجال حصريًّا مثله مثل عبد الوهاب، أي لاحظوا اختلاف السلطة واختلاف طرق التلقي من المستمعين.
أثر السلطة على الفن
في كتابها لا تكتفي فيروز بتحليل كلمات الأغاني وألحانها فقط، بل تحاول عبر خلفية دراستها وكونها باحثة في الشأن الثقافي، وربما ساعدها في تعزيز فهم وإدراك أهمية الفن، كونها مطربة أيضًا، وهذا ساعدها في لضم فصول الكتاب عبر خيوط كثيرة متناغمة ببعضها البعض، لتحلل أثر تغير السلطة على الفن، ما قبل 52 وما بعد 52، ما قبل هزيمة 67 وما بعدها، تحلل ذلك وذاك بلا وصم، بلا رغبة في وصم المتعامل مع السلطة على إنه منتفع، تُحلل كي تدعو القارئ إلى التفكير معها في الأمر بعيدًا عن الوصم، توسع مساحة الرؤية للتفكير في الأمر بشكل مغاير للمنظور الضيق الذي لا يتسع إلا لنظرة كونت أحكامها مسبقًا، وفي هذا تُصرح فيروز:
«كما كتبت في الكتاب أثر هزيمة 67 كان كبيرًا للغاية، أو بمعنًى أدق نقطة تحول في تعامل السلطة مع الفن، بدل وغير كثيرًا في تعامل السلطة مع الفن فعلًا، أعني مثلًا حديث عبد الناصر مع الإذاعة، أقصد: «شيلوا الأغاني إللي بتجيب اسمي، وركزوا على الأغاني إللي بتركز على مصر بشكل عام، كما كتب المؤرخ (صلاح عيسى)، وكمان فقدت الدولة وأجهزتها الرسمية التحكم المركزي الكامل في عملية الإنتاج الموسيقي بداية من 1967، ثم بدأ الخروج الحقيقي عن تلك المركزية مع ظهور شريط الكاسيت الذي سجلت عليه الأغنيات السياسية الاحتجاجية في مشروع الشيخ إمام ونجم، وظهر من خلاله أحمد عدوية ولمع بعيدًا عن صياغات الأغنية الشعبية التي كانت تقدم عبر الإذاعة، وتوسع المشهد لاحقًا بظهور الفرق الجماعية مثل المصريين وطيبة والأصدقاء في المرحلة التي تلت وفاة عبد الحليم حافظ وأم كلثوم، والتي اتجه فيها جيل شاب لمصادر متعددة للاستلهام الموسيقي، منها فرق الروك العالمية وموسيقى البلوز، التي صعد من خلالها فيما بعد مشروع محمد منير مثلًا، بعد تجارب كثيرة سبقته»». تتبع فيروز انتقال السلطة من (عبد الناصر ) إلى (السادات) ثم (مبارك)، وتحلل أيضًا دخول التيار الإسلامي وتحالفه مع السلطة في نهاية فترة (عبد الناصر) وطبعًا تضخمه في عصر (السادات).
على مدار ستة فصول تحلل فيروز بلا ممارسة أي سلطة على القارئ، سواء تبعًا لأيديولوجية بعينها، أو حتى تبعًا لأنها من تكتب، الكتاب ربما هو من الممكن اختزاله في كلمة من الإهداء الذي أهدته فيروز في البداية إلى «سارة حجازي»: (أغنية قصيرة عن مقاومة الخوف)، وربما الكتاب هو أغنية طويلة عن مقاومة الخوف من إعلان النقد لمن تصدروا مجالات الفن والغناء، لا لأن النقد أتى من منطقة الاختلاف عما هو سائد من تأليه وتمجيد، بل لأن النقد وحده هو القادر على محاولة فهم العمليات المعقدة التي تتم خلال عملية صناعة الفن.