عودة «البشتون»: تحدي الانقسام العرقي في أفغانستان
يمثل فهم الخريطة العرقية لأفغانستان مدخلاً مهماً لإدراك تعقيدات وتشابكات المشهد السياسي في البلاد، فسكان هذه الدولة الحبيسة البالغ عددهم 39 مليون نسمة تقريباً تربطهم أواصر إثنية ومذهبية مع دول الجوار.
ففي الشرق باكستان التي تضم ملايين من مجموعة البشتون كبرى المجموعات العرقية الأفغانية، ومن الشمال الجمهوريات السوفيتية الثلاث تركمانستان وأوزبكستان وطاجيكستان ولكل منها روابط مع قبائل الولايات الشمالية، ومن الغرب إيران التي تتبنى قضايا الأقليات الشيعية في أفغانستان.
مملكة البشتون
يرجع تاريخ الدولة الأفغانية إلى عام 1747 حين أسسها أحمد شاه الدراني، والذي يطلق عليه الأفغان اسم «أحمد شاه بابا» باعتباره مؤسس كيانهم السياسي بعد ما استطاع أن يجمع قبائل البشتون ويجعل منهم القوة الضاربة في المنطقة في الوقت الذي كانت تمر فيه الدول من حوله شرقاً وغرباً بفترات ضعف وانحدار.
اتخذ أحمد شاه قندهار عاصمة له، وكان يحكم بمساعدة مجلس من زعماء القبائل. وظل الحكم تاريخياً في أيدي البشتون حتى آخر ملك أفغاني وهو محمد ظاهر شاه، الذي انقلب عليه قريبه محمد داود خان مؤسس النظام الجمهوري عام 1973.
يتحدث البشتون لغة خاصة بهم، وينتمون جميعهم إلى الإسلام السني ويتركزون في جنوب وشرق البلاد، وبحكم كونهم أكبر العرقيات في البلاد- على خلاف في تقدير نسبتهم بشكل دقيق- فقد ظلت السلطة بأيديهم باستثناء فترة الغزو السوفيتي، وقد كانوا العمود الفقري للمقاومة ضد هذا الغزو طيلة عقد كامل حتى عام 1989.
أزمة البشتون
لكن بعد الحرب، لم تعد الأمور كما كانت، فقد تم تنصيب ما عُرف بـ«حكومة المجاهدين»، وكان هذا أحد أسباب عدم استقرار الأوضاع. تولي برهان الدين رباني، رئيس «الجمعية الإسلامية»، منصب الرئاسة، وأصبح أحمد شاه مسعود، قائد الجناح العسكري للجمعية، وزيراً للدفاع ثم نائباً للرئيس وكلاهما من الطاجيك (ثاني أكبر العرقيات في البلاد ويتحدثون اللغة الدرية وهي قريبة الشبه بالفارسية).
كما تلقت الحكومة وقتذاك دعم الجنرال عبد الرشيد دوستم، زعيم أقلية الأوزبك الذين يعيشون في شمال البلاد ويتحدثون الأوزبكية (إحدى اللغات التركية).
ورغم كون غالبية الطاجيك والأوزبك من السنة فإن هيمنتهم على مقاليد الحكم في مطلع التسعينيات أزعجت البشتون الذين كان أبرز زعمائهم آنذاك قلب الدين حكمتيار. وانخرط حكمتيار في سلسلة من النزاعات والحروب التي تغيرت فيها التحالفات مراراً وتدهورت الأوضاع في عموم البلاد بشكل يفوق الوصف، وعجز أي طرف عن حسم الموقف لصالحه بعد سنوات من القتال الدامي.
وهنا ظهرت حركة طالبان التي أنشأها طلبة المدارس الدينية في عام 1994 من قلب قبائل البشتون فسيطروا سريعاً على قندهار، عاصمة المملكة البشتونية السابقة، وانضم معظم أتباع حكمتيار إليها وواصلت التقدم حتى دخلت كابول في 27 أيلول/سبتمبر 1996.
فتحالف كل الفرقاء المتصارعين في وجه طالبان لكنها واصلت اكتساحها للبلاد ووحدت خلفها قبائل الجنوب واستطاعت ضم العديد من الأعراق الأخرى إليها بعد نجاحها فى ضبط الأمن في أغلب الولايات.
وقاد أحمد شاه مسعود قوات تحالف الشمال وظل يقاتل طالبان إلى أن تم اغتياله في التاسع من أيلول/سبتمبر 2001.
وخلال فترة سيطرة طالبان اصطدمت بالأقليات الشيعية التي كانت جزءاً من تحالف الشمال كعرقية الهزارة (يمثلون نحو 9% من السكان، ويتحدثون إحدى اللغات الفارسية) الذين يسكنون ولاية باميان غرب العاصمة، وكذلك الشيعة الإسماعيلية في وادي كيان بولاية بغلان، وقُتل الآلاف من الجانبين خلال تلك المصادمات .
وفي الحادي عشر من سبتمبر 2001 هاجم تنظيم القاعدة برجي مركز التجارة العالمي في الولايات المتحدة الأمريكية لتبدأ بعدها عملية عسكرية موسعة شملت عشرات الدول تحت قيادة واشنطن لإسقاط حكم طالبان التي كانت تؤوي قيادات القاعدة.
وانضم تحالف الشمال للحملة الأمريكية واكتسح المدن الأفغانية الواحدة تلو الأخرى، وأعدم الجنرال دوستم الآلاف من عناصر طالبان الذين استسلموا له، وانتهى حكم الحركة سريعاً ولجأ قادتها إلى المخابئ ليقودوا مقاومة استمرت عشرين عاماً.
ورغم أن حامد كرزاي وأشرف غني، اللذين تعاقبا على منصب الرئاسة خلال فترة حكم القوات الأمريكية، كلاهما من البشتون، فإن أبناء هذه العرقية شعروا بالتهميش بسبب تولى النخب من الأقليات الأخرى المناصب المهمة واتساع نفوذهم بشكل ملحوظ.
وكانت مناطق البشتون، لا سيما في جنوب وشرق البلاد، معاقل آمنة لقادة طالبان، ومُنطلقاً لهجماتهم ضد قوات التحالف الدولي التي يقودها حلف الناتو في أفغانستان، المعروفة باسم «إيساف». ورغم استخدام القوات الأجنبية أحدث الأسلحة والتقنيات العسكرية لتصفية وجود طالبان، لم تنجح لأسباب منها كون الحركة مغروسة في عمق المجتمع القبلي الأفغاني، مما وفر لها ظهيراً شعبياً لم يقتصر على مناطق البشتون وحدها، بل ضمت بين صفوفها أبناء العرقيات الأخرى بعدما عرّفت نفسها كحركة مقاومة إسلامية عابرة للحدود العرقية ووصل نطاق عملياتها إلى جميع أنحاء البلاد.
عودة الطالبان
ومع فشل القوات الأجنبية في السيطرة على الأوضاع بعد عشرين عاماً من القتال قررت الانسحاب بعد اتفاق عقدته الولايات المتحدة الأمريكية مع طالبان العام الماضي، ومع اقتراب موعد الانسحاب النهائي وإخلاء القواعد العسكرية المهمة سيطرت طالبان على البلاد وانهارت أمام تقدمها القوات النظامية التابعة للحكومة في كابول بعد ما فقدت الدعم العسكري الأمريكي، وفر كبار قادة البلاد إلى أوزبكستان وطاجكيستان ومن ضمنهم أمراء الحرب الكبار من الأوزبك والطاجيك كدوستم وعطا نور، تاركين معاقلهم غنيمة لمسلحي الحركة، فيما حصل القائد الطاجيكي إسماعيل خان على الأمان وأُطلق سراحه.
وبعد سيطرة الحركة على العاصمة كابول منتصف أغسطس/آب الجاري عادت إلى الواجهة معضلة التعامل مع تلك الأعراق والطوائف تحت حكم الطالبان في ظل التناقضات الكثيرة بينهم والتدخلات من دول الجوار والقوى الإقليمية والدولية.
وقد أعلن قادة طالبان أنهم يهدفون إلى إقامة حكومة تشاركية ولكن يبقى هذا التعهد موضع اختبار خلال الفترة المقبلة من حيث جدية تنفيذه أولاً وكيفية تطبيقه على أرض الواقع ومدى نجاحه في توفير دعم الأقليات والجماعات المختلفة في البلاد لنظام الحكم المرتقب.