استعادة الخلافة الإسلامية: ألا يزال الحلم ممكنًا؟
طوال نصف قرن مضى، أصبح الحديث عن عودة «الخلافة» كنظام سياسي بائد ومنتهٍ منذ الإعلان عن إلغاء الخلافة العثمانية 1924م شيئًا من الهذيان أو على الأقل استدعاء لصورة من «اليوتوبيا الخيالية»، أو شكلاً آخر من أشكال الشعارات السياسية غير ذات المدلول الواقعي مثل شعار «الإسلام هو الحل». بل ذهب بعض المفكرين المتأخرين خلال القرن الماضي وبداية هذا القرن، أن نظام الخلافة بتشكلاته عبر التاريخ الطويل للمسلمين، أي طوال 14 قرنًا من الزمان، لم يكن إلا شكلاً هجينًا من «تموضع نظام الإنتاج مع أيديولوجية الدولة» كما ادعى نزيه الأيوبي في كتابه الضخم «تضخيم الدولة العربية».
ولم يكن الأيوبي وحده هو من اعتمد على أدوات تنتمي لحقل الدراسات الاجتماعية والسياسية الغربي في تحليل تطور تشكلات نظام الخلافة خلال التاريخ الإسلامي، فهناك آخرون اعتمدوا على (الإنتاج– الطبقة – القبيلة – النظام القرابي – الخطاب الأيديولوجي – الصراع حول الموارد) لتفسير سيرورة نظام الخلافة.
صدر الكتاب عبر دار الشبكة العربية للأبحاث والنشر ببيروت عام 2018، في حوالي 287 صفحة، وأحد عشر فصلاً بترجمة محمد السيد بشري. تجاوز المؤلف خلالهم كل القوالب التي وضعها المستشرقون والإسلاميون التقليديون وغير التقليديين عن الخلافة، كما تجاوز كل النقاشات «المتحجرة» حول الأسئلة التي طرحها فرع السياسة الشرعية مثل: من يجب أن يكون الخليفة؟ ما صفات ومؤهلات هذا الخليفة؟ وغيرها.
جعل بشري كتابه مُنصبًّا حول ما تعنيه مؤسسة الخلافة سياسيًا للمسلمين، فبدلاً من تقديم دراسة تاريخية عن الخلفاء أو الأمراء أو النظام السياسي في حقبة زمنية محددة، يقدم سلمان سيد كتابه كأطروحة في فرع النظرية السياسية، لا يتتبع دراسة ترتيب بعينها للمؤسسات تاريخيًا، ولا يقدم خطة يمكن تنفيذها بالمستقبل القريب لاستعادة الخلافة، بل يهتم بالخلافة كفكرة سياسية وحدودها وإمكاناتها
إلا أن سلمان سيد أستاذ النظرية الاجتماعية وفكر ما بعد الاستعمار في جامعة ليدز في بريطانيا، يفند في كتابه «استعادة الخلافة: تفكيك الاستعمار والنظام العالمي» كل تلك الدعاوى والأطروحات، عبر تقويض وتفكيك المفاهيم الأساسية التي سادت الجدال حول «الخلافة» منذ إلغائها.
وينطلق الكتاب من حقيقة تاريخية أقرها المؤلف في كتابه السابق «الخوف الأصولي» تخالف كل ما ذهب إليه المستشرقون خلال قرن من الزمان، وهي أن إلغاء الخلافة كان حدثًا سياسيًا كارثيًا بالنسبة للمسلمين، جعلتهم في حالة من التشرذم والشتات والهوان ولا يمكن بناء أفق سياسي للمسلمين إلا عبر استعادة مؤسسة الخلافة.
المعركة ضد الغبار: هل يمكن أن يكون الشتات جسرًا لاستقلالية مسلمة؟
يقسم سلمان سيد كتابه إلى قسمين، يحاول في القسم الأول أن يلتزم خطًا نقديًا لإعادة التفكير في المفاهيم التي سادت ساحة النقاش والجدل السياسي طوال قرن من الزمان وسيطر منطقها على أي خطاب حول الهوية والسياسة والخلافة، إذ مثلت التزامات ثقافية وفلسفية يجب الأخذ بها للتواجد على الساحة السياسية العالمية. في هذا القسم يتناول المؤلف: الليبرالية والديموقراطية والعلمانية والنسبية بشكل تفكيكي بحثًا عن مساحة لوجود مستقل لـ«الكينونة المسلمة» على حد تعبيره.
أما في القسم الثاني، فيقدم سلمان سلسلة من التأملات لخلق خيال سياسي جديد حول الوجود السياسي لمؤسسة الخلافة، ترتبط هذه التأملات ببعضها بعضًاا حيث تشكل خيطًا واحدًا في نقاشات أكثر سعة حول مشاريع الاستقلالية المسلمة. وتقوم هذه التأملات بتدبر الاستحالة التي يفرضها النظام العالمي الحالي و«ببغاواته» حول عودة مؤسسة الخلافة، كما يغوص في العلاقة المتوترة بين الإسلام والإسلام الثقافي أي ما هو الإسلام؟ وما هو مستوحى منه. ليخلص إلى أن استعادة الخلافة ليست استعادة للذكرى أو استرجاعًا للماضي بل هي عملية إعادة صياغة المفاهيم التي تفتح أفقًا مفككًا للأوضاع الثقافية والسياسية التي صنعها الاستعمار.
لكن بين القسمين، هناك قسم ثالث يمكن أن نبدأ به، وهو يمثل مدخلًا مناسبًا للكتاب، يحاول المؤلف في هذا القسم الذي عنونه بـ”الشتات» أن يعيد تفكيك وتركيب مفهوم «الشتات» هذا الوضع الذي يصف حال المسلمين في العالم اليوم، سواء خارج أوطانهم أو داخله؛ إذ إنه ليس هناك أي دولة مسلمة في عالمنا الحالي لديها نظام تعليمي وتشريعي وقانوني ينتج ذوات مسلمة قادرة على الإفصاح عن نفسها بوضوح، بل تعيد أغلب الدول ذات الأغلبية المسلمة حاليًا إنتاج ذوات متناقضة مع «الهوية المسلمة» وتابعة للنسق الثقافي الغربي، تفتقد لأي استقلالية هوياتية أو تمثيل سياسي على الساحة السياسية العالمية.
بجانب أن أغلب النظم السياسية بالدول ذات الأغلبية المسلمة، نظم «كمالية» أي علمانية على النمط الذي ابتدعه كمال أتاتورك بتركيا بعد إلغاء الخلافة، وفي الحقيقة هي نظم «بورقيبية» نسبة إلى بورقيبة الذي اتبع سياسات معادية للإسلام والهوية الإسلامية، لكنه على عكس أتاتورك، اعتمد على أنساق ومؤسسات من صنع الاحتلال الأوروبي، بينما لم تتعرض تركيا لحالة الاحتلال الشامل والعميق الذي مرت به أغلب البلاد العربية والإسلامية.
هذه النظم «الكمالية/البورقيبية» والتي سببت خرابًا وفسادًا دام أكثر من نصف قرن، دفعت أعدادًا كبيرة من المسلمين للهجرة نحو أوروبا وأمريكا الشمالية والجنوبية، ما شكل حالة من الشتات والتشرذم؛ يصف المؤلف هذه الحالة من الشتات بأنها «حالة تجريبية يتم فيها نقل المجتمعات من أوطانها المعتادة..مثل حالة الشتات الأفريقي أو اليهودي».
ويعتمد الشتات على ثلاثة إحداثيات: الوطن، الانزياح المكاني، الاستيطان. إذ يتشكل الشتات عندما تقوم مجتمعات من المستوطنين بالتعبير عن نفسها من زاوية الانزياح المكاني إلى الوطن، أي يظهر الشتات عندما ينزاح شعب مكانيًا لكنه يستمر في سرد هويته من منظور ذلك الانزياح المكاني. وهو ما يجعل الحاجة إلى إيجاد مفردات لوصف تلك المجتمعات سياسيًا وثقافيًا، تتجاوز حدود نموذج «الدولة»، لأن داخل هذه المجتمعات ينفك الارتباط بين الأرض والشعب، حيث تصبح المخيلة حول «الوطن» مخيلة مشتركة لحد كبير، تشارك فيها تجمعات من جنسيات مختلفة، يتفوق ترابطهم الثقافي على أي ارتباط قومي سابق، وبالتالي ينفك الارتباط بين ما هو سياسي وما هو قومي.
يربط سلمان بين هذه الحالة من التجاور وبين الظروف اللازمة للإعراب عن «أمة»، إذ يشير مفهوم «الأمة» إلى المجموع الكلي لمعتنقي الإسلام، بغض النظر عما إذا وجدوا في البلاد الإسلامية «مسلمستان» أو في غيرها، وحسب سلمان، هناك ثلاثة عوامل تشير إلى تشكل أمة معولمة.
أولًا: ظاهرة إثبات الذاتية المسلمة. وهي الظاهرة التي تشير إلى عمليات تشكل وظهور المظاهر الثقافية الإسلامية أو محاولة البحث عن هوية مسلمة.
ثانيًا: المسلمون ممثلون بكثرة في كثير من المجتمعات المهاجرة في جميع أنحاء البلاد.
ثالثًا: مثل أغلب المهاجرين المتأخرين، قد مال المسلمون إلى التجمع في المناطق الحضرية وهذه المناطق تقع في نقاط التقاء الشبكات العالمية النامية الجديدة.
غير أن هذه «الأمة المعولمة» تتحدى الدولة بشكلها الوستفالي (أي التي تأسست منذ صلح وستفاليا 1649) فهي أمة متعددة القوميات ومترامية الأطراف ومتحدة الثقافة. فهل يمكن تمثيل هذه الأمة في شكل دولة قومية بصورة متضخمة؟
يجيب سلمان بأن إحدى الصفات الرئيسية التي تميز الدولة القومية عن غيرها من صور التجمعات السياسية هي طبيعتها المحدودة والمحصورة، فهي إقصائية. عبارة كيان منغلق ومحدود، وليس متاحًا للجميع، مع أن حدوده قد تكون مرسومة بشكل ضيق أو واسع. ومن ثم فإن مشكلة الاندماج ذات أثر حاد في الدولة القومية، غير أن الإسلام يقوض المنطق الداخلي للدولة القومية ويسمح بالتعددية الدينية والإثنية ويعيد تحدي النظم والأعراف القائمة ويعيد تشكيل النطاق الاجتماعي والثقافي والسياسي.
وهذا ما يجعل «الأمة» أكبر من مجرد سوق مشتركة وأكبر من منهج مشترك للحياة، فهي قد تسمح بتواجد تقاليد شعبية مختلفة طالما لا تتعارض مع الإسلام، وأكبر حتى من حضارة، فهي كيان يمتد مكانيًا غير أنه غير مرتبط بإقليم معين يمكن الرجوع إليه بشكل خلاصي (أرض موعودة)، ويمتد زمانيًا، فهو كيان لديه تاريخه الثقافي والسياسي الخاص، يستلزم وجود بيئة سياسية شاملة قادرة على ربط المسلمين باعتبارهم مسلمين إلى العالم والمسرح الدولي، هذا التمثيل السياسي لا يمكن تحقيقه إلا عن طريق استعادة مؤسسة الخلافة كمؤسسة سياسية تحافظ على تمثيل المسلمين وتحقق استقلاليتهم في عالم يحاصر وجودهم بمنتهى العنف و يبقيهم تحت الإخضاع والمراقبة.
لكن يعود سلمان ليقول إن النقاش حول الاستقلالية المسلمة سيواجه الكثير من الإشكاليات، والنصيحة التي يقدمها كتابه هي أن عملية تنقية البيئة لتوسعة النقاش حول استعادة الخلافة أشبه بالمعركة مع الغبار، ولا يجب أن تنتظر عملية البحث عن الاستقلالية المسلمة أي معجزة أو انفراجة سياسية بل عليها أن تبدأ هنا والآن، وألا تقتصر على المواعظ لتحقيق مزيد من التقوى، بل تمتد لإثراء الشعور بالهوية الثقافية للإسلام عبر تعريف المسلمين ليس فقط بدينهم بل بتاريخهم، مما يعني تحدي كل سرديات التأريخ المتمركز أوروبيًا، والعودة لتاريخ المسلمين، فلا يمكن تحقيق الاستقلالية المسلمة إلا بعودة المسلمين مرة أخرى للفاعلية السياسية وصناعة التاريخ.
إعادة صياغة مفاهيم الخلافة عبر تفكيك الإسلاموفوبيا
يطرح سلمان سيد القسم الأول من كتابه والذي يتكون من حوالي 6 فصول، تحت ما يسميه «تنقية الأرضية»، ويعني بهذه العملية: فتح المجال الذي يتيح النقاش الدائم حول الاستقلالية المسلمة، لكن في نظر سلمان، هناك تحديات تحوّل أو تحرّف أي بحث عن تلك الاستقلالية بل وتوصم أي محاولة للنقاش حول استعادة الخلافة بوصم الاستحالة، لتحوله إلى نقاش حول العلمانية أو الليبرالية أو النسبية.
وبالتالي يكون على المسلم أو المسلمة الإجابة عن سلسلة من الأسئلة التي تحاول تضليله، ثم توجيهه نحو فخ الدفاع عن الإسلام بأنه غير معاد للمرأة، ومتوافق مع الديموقراطية والليبرالية وحتى العلمانية. لذلك «تنقية الأرضية» هي إظهار ونبذ لكل تلك الحجج التي تمنع ظهور الاستقلالية المسلمة وتصر على تبعية المسلمين للغرب.
في هذا السياق، يتناول المؤلف مفاهيم أساسية شكلت الثقافة الغربية السائدة اليوم، حيث يرى سلمان أن الليبرالية هي عبارة عن اختزال ثنائي، فهي تنظر للدين كما نظرت له أوروبا المسيحية، الدين الذي لاحق وقضى على الأقليات الدينية غير المسيحية بمنتهى العنف والقسوة، ورغم ذلك، اقترنت الحملات الدينية التبشيرية وساندت الحملات العسكرية التي انطلقت من أوروبا في القرن الثامن والتاسع عشر، وأبادت كثيرًا من سكان أفريقيا وآسيا والأمريكتين في مجازر جماعية، وقبل خروج تلك الجيوش من مستعمراتها في القرن العشرين، استخدمت تلك الإدارات العلمانية الليبرالية الأقليات الدينية في إفريقيا وآسيا لخلق حالة من الصراع الطائفي ممتد حتى الآن.
يذهب سلمان إلى ما كرره المفكر الفلسطيني الأصل وائل حلاق في لقائه الأخير مع الإعلامي علي الظفيري، بأن أي شخص ينتمي لأقلية دينية كانت حياته لتكون أفضل تحت ظل حكم إسلامي، فما من تلازم -بالضرورة- بين دولة بمرجعية دينية وبين ملاحقة الأقليات الدينية، وليست مرجعية الدولة سواء دينية أو علمانية هي القضية، بل كيف نتصور الدين وعلاقته بالدولة والمجتمع. فالليبرالية تنزع إلى فرض تصور عن الدين «تنويري- غربي»، وتفرض تعميمه على العالم كله، حيث يصبح كل ما هو غربي فهو عالمي وصالح لكل زمان ومكان، ورفضه نوع من التخلف والإلحاد والعدمية والرجعية.
ويتكرر نفس الأمر في النقاش حول الديمقراطية، فالديمقراطية ليست هي الترجمة الحرفية لمعناها «حكم الشعب»، بل تحتوي على مضامين دلالية أكبر من ذلك، وهي ليست مجرد «نظام حكم رشيد» فالإمبراطوريات الاستعمارية الأوروبية مثل هولندا وفرنسا وبريطانيا التي تُقدم على أنها دول ديموقراطية كانت شعوبها حتى القرن العشرين تفتقد لأي حقوق سياسية ملحوظة؛ بل هي بالأساس نظم «تلاعبية» تسمح للأموال والبروباجندا أن تتلاعب بالمصير السياسي لشعوبها.
وهذا ما يجعل الديموقراطية في نظر المؤلف، لا تشير عادة إلى نوع نظام الحكم بل إلى تصنيف ما إذا كانت الدولة مؤيدة للغرب أم لا، إذ يصعب أن تجد دولة يصنفها الغرب على أنها ديمقراطية ومعادية لمصالح الغرب في آن واحد، وهذا يفسر لماذا عندما انتخب الفلسطينيون حماس في انتخابات حرة نزيهة، قطعت الولايات المتحدة وأوروبا كل المساعدات عن فلسطين المحتلة وعملوا على إزاحتها من السلطة.
والأغرب، أن الحكومات الديمقراطية في الولايات المتحدة، هي أكثر الحكومات التي دبرت انقلابات في العالم ضد نظم ديمقراطية.
فالصورة التي بناها الغرب عن نفسه، بكونه ديموقراطيًا وليبراليًا وعلمانيًا ومناصرًا للحريات ومحاربًا للإرهاب والرجعية، مبنية على أن يظل عالم المسلمين ودولهم في صورة معاكسة تمامًا، فالصورة التي صنعها الاستشراق عن العالم الإسلامي هي مقلوب الصورة التي يريد أن يقدمها الغرب عن نفسه، وتقديم التقاليد الغربية على أنها المرجع النهائي للبشرية. فكلما كان الإنسان قريبًا من أفكار الغرب وممارساته الثقافية والسياسية كلما كان واقفًا على أرض الصواب، وكلما ابتعد عن تلك الأرض كلما تم وصفه بالتخلف وعدم التحضر، أز لو كان يحمل أفكارًا مسلمة فيُعامل بحذر وريبة.
لذلك يرى سلمان أن الإسلاموفوبيا ظاهرة مرتبطة ليس فقط بتمثيل الإسلام والمسلمين سلبيًا، بل هي أيضًا محاولة لضبط الكينونة المسلمة ومراقبتها ومنعها من الاستقلال والتحرر من الثقافة الغربية التي تحتل عقلها.
الطريق إلى استعادة الخلافة
تنطلق فكرة استعادة الخلافة عند سلمان سيد، من وجود هرمية عنيفة بين الغرب وبين اللا غرب تبتلع الأمة المسلمة (كجزء من اللا غرب المقهور)، واستعادة الخلافة هو الطريق نحو الطموحات المسلمة بإصلاح العالم، وتحريره من السيطرة الغربية العنيفة؛ لكن الخلافة التي يتحدث عنها سيد ليست مجرد كيان جيوسياسي، بل إن أهميتها الدلالية تتسامى فوق أي برنامج سياسي، فهي تشير إلى احتمالية وجود أفق مفكك للاستعمارية، وتشكل مفردات مفاهيمية جديدة لا تقوم بإعادة تكريس المركزية الأوروبية، عبر استرجاع الأمل بتحول سياسي وثقافي قادر على مساعدة المسلمين في التحرر من المأزق العالمي الحالي.
ولا يحدث هذا بنظره إلا بالعودة إلى الفاعلية السياسية للإسلام، إذ يجادل المؤلف أن الإسلام بطبيعته سياسي، ويجب أن يتجلى في كل ما هو اجتماعي وثقافي، فوحده الإسلام، هو القادر على تحدي الوضع القائم وتأسيس عالم جديد يقوم على الأخلاق، وزعزعة الممارسات والعادات والأعراف المترسبة عبر إقامة أفعال وبُنى ومؤسسات وطرق مختلفة للتفكير والسلوك.
لكن لا يتحقق ذلك إلا بوقوع العداء بين أولئك الذين يفضلون التغيير وأولئك الذين يريدون المحافظة على ما هو موجود حاليًا، ما يعني تأسيس علاقات عدائية بين الداعمين والمعارضين وهي «الخاصية التعريفية الأساسية للسياسي» كما ذهب كارل شميت في كتابه «ما هو السياسي».
غير أن هذا العداء يجب أن تدعمه -بحسب سلمان- قوة ثقافية إسلامية، هذه القوة الثقافية الكبرى هي ما يمكن أن تمتلكه قوة عظمى، تبحث عن التحقق جغرافيًا واقتصاديًا وسياسيًا، إلا أن سلمان لا يبحث عن صورة أخرى مثالية لدولة إسلامية أخلاقية، لا يمكن تحقيقها بالواقع، فهو يستعرض الأطروحة التي قدمها المفكر عبد الوهاب الأفندي في كتابه «من يحتاج إلى دولة إسلامية»، ويصف أطروحته بالنزوع نحو المثالية الأخلاقية وبالتالي الاستحالة.
على الجانب الآخر يطرح سلمان خمسة معانٍ يمكن من خلالها التفكير في الخلافة كتفكير سياسي، تأتي الصورة الأولى بكون الخلافة تعني دولة تتطابق فيها حدود الأمة تمامًا مع جبهاتها أي ستكون الخلافة متساوية في الامتداد مع مجموع مسلمي العالم، لكن هذا مفهوم ليس له نظير تاريخي، فحتى في العهد الأول للإسلام، أمكن تواجد مجتمع للمسلمين في الحبشة.
لذا، فهناك مفهوم أكثر استساغة للخلافة، سيقدمها باعتبارها دولة مسلمة وحيدة، هذا سيجعلها مقاربة للحالة التي سادت منذ النهاية الناجحة لحروب الردة وحتى النظام العباسي، بمعنى أن تعود مؤسسة الخلافة كدولة لها قيادة روحية على المسلمين، وهو أقرب لما اقترحه عبد الرحمن الكواكبي وجمال الدين الأفغاني من بعده.
وطريقة أخرى للتفكير في الخلافة ستكون برؤيتها دولة تمارس القيادة على المسلمين، أي دولة لديها أدوات سياسية تحاول من خلالها مراعاة مصالح المسلمين في العالم، دون أن تدعي كونها الدولة الإسلامية الوحيدة.
أما المعنى الرابع للخلافة، فيمكن أن يكون بإبراز تماسكها الداخلي بدلاً من علاقتها الخارجية مع باقي المجتمع المسلم، أي دولة توفر مجتمعًا صالحًا وبيئة مناسبة لممارسة الهوية المسلمة. والطريقة الخامسة لفهم الخلافة هي برؤيتها مجازًا لقوة إسلامية ثقافية عظمى.
في أغلب هذه المعاني التي يقترحها سلمان، لا يستلزم أن تمثل مؤسسة الخلافة جميع الأمة ولا حتى أن تعبر عن خصوصية دولة إسلامية ثقافية وحيدة، لكن يستلزم أن تكون عودة الخلافة هي الطريق إلى قوة إسلامية عظمى لا تخضع للثقافة الغربية.
في النهاية، يطرح كتاب «استعادة الخلافة» طريقة مختلفة لإعادة فتح النقاش مرة أخرى حول «الخلافة» ويحتوي الكتاب على كثير من الأفكار الجديرة بالنقاش حولها، فكما ينتمي الكتاب لحقل النظرية السياسية فهو ينتمي لحقل دراسات ما بعد الاستعمار والدراسات النقدية الإسلامية وكذلك دراسات الهوية، وهو منتج ثقافي لا يزال يحتاج لمزيد من النقاشات حوله.