دليل التعافي من الحرب الأهلية؛ سيراليون نموذجًا
كجسم مجروح لن يتم معالجته إلا بعد التطهير، فلن تندمل جراح الحروب الأهلية المتقيحة إلا بعد قول الحقيقة حتى وإن تسبب ذلك في العودة بالذاكرة الجمعية إلى لحظات لا تُحصى من الوجع الغير مُحبذ تذكرُه. كان ذلك منهج لجنة تقصى الحقائق والمصالحة بجنوب إفريقيا للتخلص من آثار الحرب الأهلية، حيث قول الحقيقة وسرد ذكريات العنف والاعتداءات شفهيًا.
السرد الشفهي
يرجع تجسيم الأمة ككائن حي «يشعر » إلى القرن التاسع عشر، ولكنها قُوبلت حديثًا بوابل من الانتقادات خاصة في نماذج التعافي من آثار الحروب الأهلية، حيث لا يُمكن افتراض أن قول الحقيقة يُريح ويداوي جراح كافة الأشخاص خاصة بحالات العنف الاجتماعي.
فحسب تقارير مركز الصدمات لضحايا العُنف والتعذيب في «كايب تاون» بجنوب أفريقيا، عام 1997، هناك 60% ممن اعترفوا وقالوا الحقيقة أمام لجنة المصالحة أصيبوا بانتكاسة حيث ساءت حالتهم، مما يدُل أن لجان الحقائق ليست علاجًا فعالًا في جميع الحالات. هذا بالإضافة إلى صعوبة التعامل مع ما نتج عن العنف الجماعي من منظور منظور «النفس الوطنية الجماعية» التي ستداوي جراحها بقول الحقيقة.
كما أن الذاكرة الاجتماعية فكرة بالغة التعقيد، وفي حالة الحروب الأهلية يكون لكل طرف من أطراف النزاع ذاكرته الخاصة التي لا يرى حقيقة سواها، فمن الممكن أن تتحول جلسات تلك اللجان إلى ساحات نزاع آخر حول الحقيقة، فمن الصعب الخروج بسجل وطني تاريخى مُجتمع عليه من كافة الأطراف.
اختلاف طبيعة المجتمعات
أظهرت فكرة السرد الشفهي لذكريات العنف والصدمة والإيمان مدى فعاليتها، في التعامل مع جراح الجماعة الواحدة من خلال قول الحقيقة لتحقيق المصالحة، مع ثقافة الذاكرة الناشئة في أمريكا الشمالية وأوروبا، اتباعًا لثقافة التوبة من خلال الاعتراف في الكنيسة في تلك المجتمعات. وطور سيغموند فرويد، أحد أبرز علماء التحليل النفسي، من المفهوم خلال العصر الحديث، حيث أفكاره عن علاج الاضطرابات الناتجة عن الكبت بعد الصدمات عن طريق عملية شفهية، ليكون التذكير من أجل منع التكرار.
إلا أن اختلاف المجتمعات وثقافتها دائمًا ما يقف حائلًا بين لجان تقصي الحقائق والمصالحة (التي تُعد السبيل لرعاية عملية التعافي من آثار الحروب)، فطبيعة التذكر معولمة من خلال العلاج النفسي الغربي، ولا يُمكن اعتبارها الملجأ الوحيد لمن يُريد التخلص من آلام مجتمعه.
رفض المجتمع الموزنبيقي بعد خروجه من الحرب الأهلية (استمرت 15 عامًا بدايةً من 1977، ونتج عنها موت مليون شخص وتهجير 4 ملايين)، لجان تقصي الحقائق والمصالحة كمنهج للتعافي من آلامهم. حيث اعتبرها المجتمع مُدمرة للمصالحة والوطنية، فالاعتراف بالحقيقة كان بمثابة تجديد لشرارة العنف. واتبع الموزنبيقيون ثقافتهم وطقوسه الخاصة من خلال ما يُعرف بـ «وساطة الأرواح» لطرد عنف الماضي، واستطاعت المجتمعات الريفية في أنحاء عدة من موزنبيق أن تستوعب المقاتلين السابقين وتداوي آلام المتأثرين بالحرب.
ربما اختلف الوضع بسيراليون، فكانت لجان المصالحة -والتي لقت اعتراضًا من الأغلبية السيراليونية في البداية- هي حجر الزاوية لعملية التعافي.
سيراليون
الزمان: من 1992 إلى 2002.
المكان: سيراليون.
الحدث: حرب أهلية.
الأطراف المتحاربة: الجبهة المتحدة الثورية (متمردو سيراليون) والجيش السيراليوني.
الثروة تُؤجج الحرب
سيطرت الجبهة المتحدة الثورية بدعم من القوات الخاصة من ليبيريا على مساحات واسعة من سيراليون الشرقية والجنوبية، في محاولة للإطاحة بحكومة الرئيس جوزيف موموه، فنشبت الحرب الأهلية بسيراليون في عام 1991 واستمرت حتى عام 2002. وخلال تلك السنوات الإحدى عشرة دُمرت البنى التحتية الاقتصادية والصحية للبلاد، و مات أكثر من 50 ألف شخص وتشرد مليون شخص، بالإضافة إلى نصف مليون لاجئ وعشرات الآلاف من العاهات المستديمة.
استخدم الطرفان كافة الطرق غير الإنسانية لتحقيق الهدف المنشود في الانتصار على الطرف الآخر
نالت سيراليون استقلالها في عام 1981 حيث احتلتها بريطانيا لفترة طويلة من الزمن، وتوالت عليها الانقلابات العسكرية في التسعينيات رغبة من كل طرف في السيطرة على الحكم، مما أدى إلى إضعاف السلطة الحاكمة وانتشار جريمة تهريب الماس المنظمة الخام للشركات العالمية.
كانت الرغبة في السيطرة على مناجم الماس هي شرارة الحرب الأهلية، حيث استخدم الطرفان كافة الطرق لتحقيق الهدف المنشود في الانتصار على الطرف الآخر، ولم تمنعهم إنسانيتهم -التي تغشّيها الحرب الأهلية- من العنف الجنسي ضد النساء وتجنيد الأطفال في جيوشهم، لتنتج الحرب لسيراليون أمة مبتورة الأطراف والنفس.
وفي أكتوبر/ تشرين الأول لعام 1999 تم توقيع معاهدة لومي للسلام بين الحكومة السيراليونية والمتمردين، على أن يتم وقف عملية التقاتل بين الطرفين ونزع السلاح من كافة الأطراف غير الممثلة للدولة والبدء في تنفيذ خطة إعادة الإدماج، وكان الاتفاق تحت رعاية الجماعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا.
ولم تحقق تلك الاتفاقية الهدف المنشود بسبب الخلافات بين الأطراف المتنازعة على السلطة السياسية، إلى أن نجحت مفاوضات «ليناس مركوسيس» في باريس ب13 يناير/ كانون الثانى 2003 أن تقنع جميع الأطراف بوقف القتال، تحت رعاية المنظمات الدولية وبالأخص الأمم المتحدة حيث تم توقيع اتفاقية للمصالحة الوطنية، ولكن عملية تنفيذ تلك الاتفاقية أخذت وقتًا طويلًا إلى أن أدركت الأطراف المتنازعة أنه لن يكون هناك طرف فائز وآخر خاسر، وإن التصالح لا مناص منه.
لجنة الحقيقة والمصارحة
رئيس لجنة تقصى الحقائق والمصالحة بجنوب إفريقيا، الأســقف ديســموند توتو، في التقرير الختامي للجنة
بدأت لجنة تقصى الحقائق والمالصحة بســيراليون جلسات الإستماع العلنية في إبريل/ نيســان عام 2003، حيث كانت مهمتها؛ كما يوضح تقرير معهد السلام الأمريكى: «إعداد سجل تاريخى غير متحيز للإنتهاكات والاعتداءات، التعامل مع مسألة الإفلات من العقاب، الاستجابة لإحتياجات الضحايا، تشجيع مداواة الجراح والمصالحة، ومنع تكرار الإنتهاكات والاعتداءات التي حدثت» من خلال السرد العلنى للحقيقة الخاصة بذكريات العنف.
قُوبلت فكرة إنشاء اللجنة برفض قوي داخل المجتمعات بسيراليون خاصة الريفية، كعادة المجتمعات الخارجة من الحروب التي لا ترى في التذكر مُصالحة، بل تفضل الصفح والنسيان متمسكة بلحظات الاستقرار حديثة النشأة. هذا بالإضافة إلى خوف المقاتلين السابقين من الاعتراف بجرائمهم، فقول الحقيقة يحمل في طياته جروحا مازالت حية تستوجب الثأر المجتمعي والمساءلة القانونية.
وقاطعت بالفعل بعض المناطق بسيراليون تلك اللجان بالاتفاق بين أفرادها على عدم المشاركة بجلساتها، مما هدد قدرة تلك اللجان على العمل لافتقارها للتأييد الشعبي، ودفع اللجنة إلى نشر ملصقات تحث على قول الحقيقة والمشاركة بلجان المصارحة، بالإضافة إلى نشيد المسرحيات والأغاني التلفزيونية لأهالي سيراليون باتباع نهج ممارسة قول الحقيقة.
واهتم المناضلون من داخل المنظمات المحلية غير الحكومية بإنجاح عملية لجنة تقصي الحقائق والمصالحة بسيراليون، بالإضافة إلى الدعم الدولي مما لم يترك مجالًا لرؤساء الحكومات المحلية والمسؤولين في المحليات إلا دعم اللجنة. فكان للجنة مسار ناجح في بعض المناطق.
الممارسات الشعبية للتعافي
استطاع السيراليونيون في أماكن عدة إعادة تأهيل ودمج المقاتلين السابقين، بالإضافة إلى بناء مجتمعهم من الزاوية النفسية من خلال طرق عملية خاصة بهم، بمساعدة المجموعات الدينية والمنظمات المحلية غير الحكومية والمبادرات الخاصة.
اتبع الكثير من الأهالي منطق النسيان الاجتماعي وليس الفردي، فظلت آلامهم حاضرة يتم تذكُرها بين الأسرة الواحدة باتفاق ألا يتم نقلها للمحيط الخارجي، حتى لا يتم استرجاع رائحة العنف. كما أُعيد الأطفال المقاتلون إلى مسقط رأسهم واتبعت مجتمعاتهم طقوسًا خاصة لإعادة تلطيف مشاعرهم لينبذوا العنف والقتال، من خلال الاحتفالات بالكنائس والاعتراف وإقامة الصلوات، وأنهوا تلقيب المقاتلين السابقين بـ «المتمردين».
وزادت مؤخرًا شعبية رياضة «اليوجا» بسيراليون باعتبارها وسيلة تعافٍ من الآثار الناجمة عن الحرب الأهلية، حيث أن عدد المصابين بأمراض نفسية في سيراليون قد بلغ 715 ألف شخص، حسبما أوضحت منظمة الصحة العالمية.
المحاسبة
لم يكن الشعب السيراليوني يطمح إلى محاسبة المخطئين، فقط السلام هو غايتهم كأي مجتمع خرج لتوه من حالة حرب؛ لا يكون لديه رغبة في معرفة ما حدث أو من المسؤول، فقط الاستقرار والأمان.
كما شكّل الخوف من عنف الانتقام في حالة محاسبة قادة الجماعات المختلفة الهم الأكبر لدى الكثيرين، بالرغم من حصر محكمة سيراليون مقاضاة المتسببين في الحرب ممن يتحملون القدر الأكبر من المسؤولية وبعد الحصول على موافقة شعبية.
سعى المجتمع السيراليوني إلى دمج المقاتلين السابقين من خلال النسيان والمصافحة، والاعتراف والعفو
أما بالنسبة للمقاتلين السابقين، فكان المجتمع يسعى إلى دمجهم إما من خلال النسيان والمصافحة، أو الاعتراف والعفو. فأدرك المجتمع السيراليوني أن المتسبب في آلامهم وجراحهم هم القادة المسؤولون وليس الأفراد المتراجعين عن موقفهم.
فبتجاوز سيراليون للصراع القائم من خلال الوصول لحقيقة وجوب العيش سويا ونزع فتيل العُنف، اختار المجتمع العفو والمصافحة بدلًا من المحاسبة. كما اختارت جنوب أفريقيا التساهل المنظم مع من روى جرائمه وطلبَ العفوَ بلجان الحقيقة والمصالحة، على عكس المجتمعات الأكثر عنفًا فلا تقبل طرح «المصالحة» كخطوة للتعافي.
تتصارع الأطراف المختلفة من الوطن الواحد ضد بعضها البعض ولا تُدرك أن هذا الصراع يُعد حربًا أهلية إلا بعد مرور عشرات السنين، فتُغشي أعين المتنازعين عما تخلفه تلك الحروب -الأسوأ من الحروب بين الدول- من جروح لا يُداويها مرور الزمن، وتظل التشوهات الجسدية والنفسية عالقة في الذاكرة تطارد كل من يحاول أن يتناسى، ونادرًا ما تضمن الاتفاقات السلام الدائم. فهل من واعٍ يُدرك أن الحرب الأهلية ليس بها طرف منتصر وآخر مهزوم ويستمر في حربه؟
- Sierra Leone
- معاناة الشعوب بعد الحروب الأهلية
- الثروة في سيراليون وتعدد الانقلابات
- Sierra Leone – UNAMSIL – Background
- إعادة النظر في لجان تقصى الحقائق والمصالحة
- كيف تصنع حرب أهلية في 9 خطوات