إغلاق الدولة ثم تشغيلها: هكذا يحل الكونجرس خلافاته
حزبٌ يُسيطر على المجلس النيابيّ. نفس الحزب يُسيطر على الرئاسة. الحزب المنافس يمتلك 51 مقعدًا فقط. عددٌ لا يمكنه عرقلة القرارات. من المُتوقع أن تمر القرارات بسلاسة، إما بصوت الإقناع الدستوريّ أو بأغلبية عدد الأصوات دون تكلّف عناء إقناع المنافس. لكن إذا فشل الحزب الحاكم – حزب الأغلبية – أن يُمرر قرارًا، فمرحبًا بك في عهد «دونالد ترامب»!كان من المفترض أن يقضي «ترامب» يوم السبت 21 يناير/كانون الثاني في منتجع «مارالاجو» وحوله المعجبون والأصدقاء، في حفل يتكلف حضور كل زوجين فيه 100 ألف دولار. لكنّ الكونجرس لم يحالفه الحظ في اختيار الهدية التي قدمها لـ «ترامب». يوم الجمعة 20 يناير/كانون الثاني 2018 يفشل الكونجرس الأمريكي في تمرير قرار تمويل الحكومة الفيدرالية. القرار ليس طويل الأمد، بل سيُنفذ لمدة 4 أسابيع فقط، تنتهي في ـ16 فبراير/شباط المقبل. لكن هذا القرار تحديدًا يحتاج إلى موافقة مجلس الشيوخ والنواب معًا.
ما معنى أن «تغلق» الحكومة؟
هذا الفشل سيترتب عليه «إغلاق» أو «تعطيل» الحكومة الفيدرالية. الإغلاق لا يعني توقف جميع المؤسسات الفيدرالية عن العمل. بل يشمل مجموعة من المؤسسات تُصنف بأنها «غير ضرورية»، مثل المتنزهات العامة، والأماكن الأثرية، والمتاحف، وغيرها من الأماكن الترفيهية البالغة 401 مكان. إضافةً إلى فئات معينة من العاملين دون غيرهم في المُؤسسات التي تُصنف بالـ«ضرورية».العاملون في هذه القطاعات سيتوقفون عن أداء عملهم حتى تصل الحكومة إلى توافق بشأن الميزانية. لكنّ الإغلاق لا يشمل بأي حال المُؤسسات المُصنفة بالـ«الحيوية» مثل هيئات البريد، والأمن القومي، والخدمات الطبية، وطب الطوارئ، والسجون، والضرائب.المعضلة تأتي في الهيئات التي تشتمل بداخلها على كلا التصنيفيّن مثل إدارة «سلامة النقل الجوي». يعمل بها 58 ألف موظف، 90% منهم تحت تصنيف المهام الضرورية، والـ10% الباقين تدخل تحت تصنيف غير الضروري. الـ 90% سيحصلون على رواتبهم بصورة طبيعيّة، أما الآخرون فلن يتقاضوا شيئًا حتى تعود الحكومة الفيدرالية، إذن لا داعي لديهم للعمل، وليست هناك ميزانية لتوفير بدائل، مما يعني خللًا في المطارات وحركات التنقل. كذلك سيتعطل الراغبون في دخول الولايات المُتحدة لأغراض الدراسة أو العمل بصورة مؤقتة حتى عودة الحكومة. وبجانب تلك الهيئات الحيوية، يأتي الجيش الأمريكي ووزارة الدفاع. لن يتقاضى الجنود أو المشاركون في عمليات خارج البلاد أي أجور بصورة مؤقتة. أما وزارة الدفاع فستقوم بتسريح جميع الموظفين المدنيين فيها مثل المدربين وعمال الصيانة وغيرهم.
ليس الأول، لكنّه قد يكون الأسوأ
مرت الولايات المُتحدة على مدار تاريخها بـ18 حادثة «إغلاق» منذ عام 1976. منها 3 إغلاقات متتالية عام 1977 في عهد «جيمي كارتر».ثم أحدثهم في عاميّ 1995 و1996 عهد الرئيس الأسبق «بيل كلينتون». كان إغلاق «كلينتون» هو الأطول في التاريخ بفترة 21 يومًا. وبعد انتهائه وجه «كلينتون» خطابًا شديد اللهجة وجّه فيه أعضاء الكونجرس بعدم «إغلاق» الحكومة الفيدرالية مرةً أخرى أبدًا. آخر تلك الإغلاقات كان في عهد الرئيس الأمريكي السابق «باراك أوباما»، في الفترة من 1 إلى 16 أكتوبر/تشرين الأول 2013. كان الإغلاق في عهد أوباما مشكلةً كما هو الآن، لكنّه على الأقل كان منطقيًا. خلافات مستمرة بين رئيس ديموقراطي ومجلس شيوخ يمتلك أغلبية ديموقراطية، وبين مجلس النواب ذي الأغلبية الجمهورية حول «أوباما كير»، التي كانت وما زالت محل نزاع دائم بين الطرفين.وإذا تتبعنا ما حدث أثناء إغلاق 2013 في ظل قيادة «أوباما» الهادئ، يمكننا تخيّل ما سيؤدي إليه إغلاق «ترامب» المشغول بالتلاسن مع الديموقراطيين واتهامهم بأنّهم من أرادوا تعكير صفو إجازته المُرتقبة. كانت تقديرات البيت الأبيض في 2013 تقول إن أسبوعًا واحدًا من الإغلاق سيكلف الإدراة 10 مليارات دولار. وسيتم بموجبه أن يحصل 800 ألف عامل على إجازة إجبارية دون أجر. تحدث البيت الأبيض عن غلق مقابر الجنود الأمريكيين الموجودة في 24 دولة أجنبية. كما ستُجبر وزارة التجارة 40 ألف موظف من أصل 46 ألفًا على إجازة غير مدفوعة الأجر. كذلك ستفعل وزارة التعليم مع 3 آلاف موظف من أصل 4 آلاف. وستتبعهما وزارة الطاقة بتسريح 9 آلاف موظف من أصل 13 ألف موظف. وستحتفظ وزارة العدل بـ3 آلاف موظف من أصل 16 ألفًا.وكالة الفضاء الأمريكية «ناسا» احتفظت لنفسها بـ600 موظف من أصل 18 ألف موظف. حتى وكالة الاستخبارات المركزية «سي آي إيه» أعطت أكثر من 12 ألف موظف إجازة غير مدفوعة الأجر. وغيرها من الهيئات المهمة والحيوية التي اضطرت لتقليص عدد موظفيها بصورة قاسية لتتلاءم مع هذا التعطيل. العدد المُتبقي في جميع هذه الهيئات سيعمل حتى تنفد الموارد المالية السائلة الموجودة لدى وزارته ثم ينضم إلى من سبقوه في الإجازة.
«ترامب 2013» يُوبخ «ترامب 2018»
حين حدث الإغلاق في عهد أوباما تلّقفه ترامب بلسانٍ سليط.قال ترامب وقتها إن الإغلاق مسئولية أوباما وحده، وإنّه هو المسئول الأول والوحيد عن هذا الأمر. ثم أردف أن المشكلات تبدأ من الأعلى، ويجب أن يبدأ الحل من الأعلى كذلك. وعاد ليؤكد مسئولية أوباما قائلًا، إن الرئيس هو القائد، وعليه أن يجمع الجميع في غرفة واحدة ثم يبدأ ممارسة دوره القيادي.ثم عاد في يوليو/تموز 2016 ليؤكد على موقفه من أن الإغلاقات السابقة هى أخطاء الحكومات السابقة، ثم مدح نفسه قائلًا إنّه لا أحد يعرف النظام أفضل منه، ولذا فهو الوحيد القادر على التعامل مع هذه المشكلة. ولما حانت ساعة الاختبار الحقيقيّ لم يجد ترامب الحل السحريّ الذي تحدث عنه. اضطر إلى تأجيل رحلته المنتظرة، اتصل بـ«تشاك شومر»، زعيم الديموقراطيين في الكونجرس، قبل الإغلاق بيوم. وبعد مباراة حامية استمرت 90 دقيقة بين الرجلين، اتفقا. كان الاتفاق أن يمرر الديمقراطيون القانون، ويحصل ترامب على مزيد من الأموال من أجل بناء جداره مع المكسيك. المقابل كان حصول الديموقراطيين على حماية لـ700 ألف طفل نشأوا في الولايات المُتحدة، لكنّهم جاءوا كأطفال لمهاجرين غير شرعيين، ويُعرف هؤلاء الأطفال باسم «الحالمين».لا يستطيع ترامب التوقف عن الحديث. تحدث إلى جمهوريين محافظين؛ فلقي منهم انتقادًا شديدًا لهذا الاتفاق؛ فألغى الاتفاق. لم يُبلغ الديمقراطيين بتراجعه، ولم يبلغ الجمهوريين بالتزامه. «شومر» قد لُدغ من ترامب سابقًا في صفقة مشابهة في سبتمبر/أيلول الماضي، مرر الكونجرس بموجبها تمويلًا قصيرًا للحكومة في مقابل حماية «الحالمين»، وبعد التمرير انسحب ترامب من الاتفاق. و«ميتش ماكونيل»، زعيم الجمهوريين في الكونجرس، صرّح بارتباكه وبأنّه لا يدري موقف ترامب النهائي والصريح من الأزمة. لذا آثر الطرفان الصمت واللجوء إلى الحل الأسهل «الإغلاق».
إلى متى؟
من المفترض أن الطرفين قد عادا إلى حوارٍ السبت الماضي 20 يناير/كانون الثاني يتوافقان فيه على فاتورة تدفع الحكومة إلى العمل حتى 8 فبراير/شباط القادم. في تلك الأثناء يقوم الطرفان بالتوافق حول الميزانية التي فشلت. وإن كان من المُستبعد أن يقدم أي طرفٍ تنازلًا ولو بسيطًا عن مطالبه، خوفًا من هزيمة سياسية واضحة. خاصةً، والانتخابات البرلمانية في منتصف العام الحالي قد اقتربت. وهذا ما ظهر في عدم التوصل لاتفاق طوال يومي السبت والأحد الماضيين، وتأجيل التصويت إلى اليوم الاثنين 22 يناير/كانون الثاني الجاري.
التحدي الذي يواجه الساسة ليس مجرد التوافق على ميزانية جديدة، بل أن يكون هذا التوافق بأسرع ما يمكن. مع طول المدة تزداد فترات الركود الاقتصادي، ويضطر الموظفون المستبعدون إلى كسر حواجز بطاقتهم الائتمانية، وتأخير دفع ما عليهم من مستحقاتٍ للدولة. كذلك قد يطالبون الدولة بأن تدفع لهم عن الوقت الذي سرّحتهم فيه عنوةً، أسوةً بما حدث في 2013، إذا دفعت الحكومة للموظفين مقابل تلك الأيام، بالإضافة إلى زيادة الأجور بعد العودة لمواجهة الكساد الذي شهدته الأحوال المعيشية آنذاك.
أيضًا مع طول المدة قد يفقد ترامب صبره؛ فيلجأ إلى ما سماه بالـ«خيار النووي». حيث سيستخدم الجمهوريون سلطتهم في إعادة كتابة قواعد الكونجرس، لتقليل عدد الأصوات المطلوب موافقتها لتمرير الميزانية.
كذلك يواجه الساسة الأمريكيون ضرورة البقاء صامتين قدر الإمكان؛ إذ تشهد الصحف الأمريكية والأروقة الدبلوماسية عمليات سفر عبر الزمن بسبب التلاسن الدائر بين الطرفين،إذ يحرص كل طرفٍ حين الرد على خصمه أن يأتي بكلام الخصم في 2013 ثم في 2018.
فقد انتقد أوباما الجمهوريين قائلًا إنهم تسببوا في الإغلاق بسبب رغبتهم في تجريم الإجهاض، وتقليل وصول النساء لوسائل منع الحمل من أجل تنفيذ الوعود المتطرفة التي قطعوها على أنفسهم. والآن ينتقد ترامب الديموقراطيين الذين اختاروا تدمير بلادهم لكي تبقى ذات حدود ضعيفة، وفضلوا المهاجرين غير الشرعين على أبناء وطنهم.
وأن يستمع الجميع إلى كلمات أوباما في 2013 التي وجهها للجمهوريين بعد التوصل لإتفاق بعد 16 يومًا من الإغلاق، إذ نصحهم بأن يذهبوا إلى الانتخابات لكي يغيّروا سياساته إذا لم تكن تعجبهم. ودعاهم إلى عدم هدم ما بناه أسلافهم طوال قرون. والآن بعد أن ذهب الجمهوريون إلى الانتخابات وربحوها، يجب على الديموقراطيين الحرص على ألا يهدموا ما بناه أسلافهم طوال قرون.
والآن عاد الديمقراطيون لرشدهم،كما وصفهم ترامب، بموافقتهم على تمرير الميزانية المؤقتة لتنتهي ثلاثة أيام مريرة من إغلاق كان يمكن أن يكون الأسوأ في تاريخ الولايات المُتحدة.