الاكتئاب المقاوم: لماذا لا أشفى من الاكتئاب؟
يتكرَّر هذا السؤال يوميًا بمرارة بالغة في عيادات أطباء الأمراض النفسية، يطلقه عديد من مرضى الاكتئاب الذين يصارعون هذا المرض الخبيث لأشهر طويلة، ويتحملون التكاليف المادية والجسدية لعلاجات الاكتئاب الدوائية وغير الدوائية، لكنَّهم لا يشعرون أنهم قد حققوا انتصارًا ملموسًا عليه، أو حتى أنهم قريبون من تحقيق مثل هذا الأمل المنشود.
تذكر الإحصاءات أن ما يقارب 15% من مرضى الاكتئاب لا يستجيبون لمضادات الاكتئاب مطلقًا، وأن أكثر من 30% منهم يحققون تحسُّنًا جُزئيًا فحسب، وأن ما يقارب الثُلثيْن منهم لا يُشفوْن بتعاطي أول مضادٍ للاكتئاب، ويحتاجون لاستبداله بمضادٍ أقوى للاكتئاب أو لتعاطي أكثر من مضاد للاكتئاب في آن، مما يرفع كثيرًا من كلفة العلاجية المادية وآثاره الجانبية.
لماذا لا نُشفى من الاكتئاب؟
يقودنا هذا السؤال الصعب إلى مصطلح مؤرق للمرضي، وللأطباء النفسيين حول العالم، وهو «الاكتئاب المُقاوِم» أو «الاكتئاب المُعاند»، الذي لا يستجيب للعلاجات التقليدية للاكتئاب، لا سيَّما الدوائية بمضادات الاكتئاب المختلفة. ولا يزال المختصُّون مختلفين في وضع تعريف جامع مانع لوصف تلك الظاهرة يمكن تطبيقه على جميع الحالات.
ولا يوجد عامل واحد يمكن أن نفسر به منفردًا ظاهرة الاكتئاب المقاوم، إنما يوجد عديد من العوامل، التي قد تتزامن في نفس المريض، وبالتالي تجعل الاكتئابَ أكثرَ مقاومة، وتفاقِمُ إحساسَ المريض بتطاول الاكتئاب، وبالقنوط من أنَّ رحلة علاجه قد تُكلّل بالنجاح.
اقرأ: كيف أحمي طفلي من الاضطرابات النفسية.
1. تشخيص ناقص:
أحيانًا تكون حالة المريض أكثر تعقيدًا، وليس مجرد الاكتئاب، فقد يكون اكتئاب المريض جزءًا من إصابته بالاضطراب ثنائي القطبية Bipolar الذي يتناوب فيه على المريض نوبات من الاكتئاب مع نوباتٍ من الهوَس المرضي، وهو يحتاج إلى خطة علاجية مختلفة عن العلاج التقليدي للاكتئاب. وقد يكون المريض مصابًا بمزيج من عدة اضطرابات نفسية في آن مثل القلق والاكتئاب والذُّهان النفسي… إلخ، ومثل تلك الحالات تحتاج إلى مراجعة كثيفة مع الطبيب النفسي، وخطة علاجية دوائية وغير دوائية أكثر تعقيدًا.
اقرأ: الهايبومانيا: عن الخيط الرفيع بين السعادة والهوس.
2. ثغرات في الخطة العلاجية:
لعلَّ أبرز تلك الثغرات هو ألا يلتزم المريض بتعاطي الجرعة الدوائية الموصوفة من مضاد الاكتئاب بشكلٍ يومي، أو التعجل في الحكم على فاعلية الدواء قبل مرور بضعة أشهر من الانتظام في تعاطيه. ومن المعلوم من الطب النفسي بالضرورة أن الاستجابة العلاجية لمضادات الاكتئاب غالبًا ما تكون بطيئة، وتحتاج إلى أسابيع عديدة أو أشهر- وأحيانًا أكثر من ذلك- حتى تؤتي ثمارًا ملموسة.
اقرأ: أشهر 8 خرافات حول الأدوية النفسية.
3. الاكتفاء بالعلاج الدوائي فحسب:
ليس الاكتئاب دور إنفلوانزا يمكن الاكتفاء معه بعقاقير المسكنات وخوافض الحرارة، فالعلاج الدوائي نصف المهمة فحسب في علاج الاكتئاب، ولا بد أن يتكامل معه العلاج النفسي، لا سيَّما ما يُعرف بالعلاج المعرفي السلوكي، عبر جلساتٍ متتابعة يستمع خلالها المعالج النفسي للمريض جيدًا، ويتعرف على نمط شخصيته وأفكاره ونقاط الضعف والقوة فيها، فيبدأ عبر تدريبات مدروسة في مواجهة الأفكار السلبية ومساعدة المريض على تغييرها، واستبدالها بأفكارٍ أكثر إيجابية تسهم في مسار التعافي من الاكتئاب.
4.مواقف حياتية ضاغطة مستمرة:
كثيرًا ما يتفاقم الاكتئاب نتيجة ظروف حياتية صعبة يمر بها المرء، مثل المشكلات الاجتماعية كالنزاعات الأسرية الخارجة عن السيطرة أو المصاعب الاقتصادية الحادة كالغلاء الفاحش أو فقدان الوظيفة… إلخ. ومن الصعوبة بمكان أن يتعافى المريض لمجرد تلقيه العلاجات الدوائية وغير الدوائية للاكتئاب، في ظل تفاقم مثل تلك المواقف الضاغطة وتجددها، فالدعم الأسري والأمان المالي يلعبان دورًا مهمًا في تسهيل نجاح الخطة العلاجية للاكتئاب.
اقرأ: أكتئب فآكل أكثر فأكتئب وآكل مجددًا: ما حل هذه الدوامة؟
5. أسباب مرضية جسدية لم تُعالَج جذريًا:
قد تكون المشكلة تشخيصًا خاطئًا من الأساس. من أبرز أمثلة ذلك، الاكتئاب الذي يصاب به مرضى خمول الغدة الدرقية، الذي لن يستجيب للعلاج بمضادات الاكتئاب النفسية، إنما بتعويض هرمون الغدة الدرقية. ولذا فقد أصبح من الروتيني أن يطلب الطبيب النفسي إجراء تحليل هرمون الغدة الدرقية لمرضى الاكتئاب، حتى في غياب الأعراض الجسمانية التقليدية لخمول الغدة الدرقية.
وهناك أمراض جسمانية عديدة تنعكس سلبًا بشكلٍ بالغ على الصحة النفسية، وتصيب المريض بالاكتئاب الشديد المُقاوِم، لا سيّما الأورام الخبيثة، والأمراض المزمنة المتقدمة مثل أمراض القلب والكلى… إلخ، ولا يمكن علاج الاكتئاب في هذه الحالات من المنظور النفسي فحسب، إنما العلاج الطبي الجيد لتلك الحالة المرضية، مع السيطرة على الأعراض المزمنة المؤرقة مثل الألم أو ضيق التنفس المعطَّل لممارسة الأنشطة اليومية… إلخ هو المفتاح للسيطرة على الاكتئاب.
6. عوامل وراثية:
يعتقد العلماء أن هناك بعض العوامل الوراثية التي تلعب دورًا في تباين الاستجابة لعلاجات الاكتئاب- لا سيَّما الدوائية- من مريضٍ لآخر. على سبيل المثال لا الحصر، تقل فاعلية بعض أنواع مضادات الاكتئاب لدى شرائح من المرضى، نتيجة زيادة تكسيرها داخل أجسامهم بآلية غير معلومة حتى الآن أو نتيجة وجود مقاومة زائدة لأجسامهم ضد هذا العقار أو ذاك.
وتحاول بعض الدراسات العلمية الجارية الوصول إلى أسباب جينية محددة، وصولًا إلى توفير اختبار معين يقيس بدقة قبل بدء الخطة العلاجية للمريض قابليته للاستجابة أو عدمها للعقار المقترح، لكن لا يزال أمام البحث العلمي أشواطٌ في سبيل ذلك.
كيف يمكن كسر عناد الاكتئاب المقاوم؟
لا جدالَ أنَّ معركة علاج الاكتئاب المقاوم ليست باليسيرة على المريض وطبيبه، وكذلك من يعتنون به في نطاق الأسرة ودوائر الأصدقاء المقربين، لكنها ليست معركة مستحيلة، ويمكن ببعض الجهد، وبكثير من الثقة والمداومة، النجاحَ فيها بقدرٍ كبير، فإذا لم نحقق القضاء التام على الاكتئاب، فلا أقل من تقليل حدَّته، وتخفيف آثاره السلبية على فاعلية المرء في جوانب حياته المختلفة. وفي ما يلي نعدد أهم أسلحة تلك المواجهة:
1. تصحيح المعلومات وسقف التوقعات:
يجب أن يعلم المريض جيدًا أن رحلة التعافي من الاكتئاب المقاوم طويلة، وتحتاج إلى أقصى درجات الصبر. فمثلًا، لا نحصل على تأثير إيجابي ملموس من معظم مضادات الاكتئاب قبل مرور مدة قد تصل إلى شهرين أو ثلاثة أشهر. والعلاج النفسي غير الدوائي يحتاج إلى أشهرٍ متواصلة وأحيانًا بضع سنواتٍ حتى يؤتي ثماره.
2. المتابعة اللصيقة مع طبيب نفسي موثوق:
الطبيب النفسي هو المايسترو الذي يقود أوركسترا منظومة العلاج بكافة أشكاله الدوائية، والعلاج النفسي مع المعالج النفسي (ليس طبيبًا، ويعمل تحت مظلة توصيات وإشراف الطبيب النفسي)، والنصائح البنَّاءة على صعيد تغيير نمط الحياة، واكتساب العادات الإيجابية المختلفة. ومزج العلاجات الدوائية مع العلاج النفسي المعرفي السلوكي هو أنجح الخطط المتكاملة في مواجهة الاكتئاب عمومًا، والمقاوِم بوجهٍ خاص.
ويمتلك الطبيب أدواتٍ علاجية عديدة يمكن أن ينتقل من واحدةٍ لأخرى تصاعديًا، فيبدأ باستبدال مضادات الاكتئاب الأقل فاعلية، بأخرى أقوى (لكنها عادة ما تكون أشد في آثارها الجانبية) ثم إعطاء مضاديْن للاكتئاب في آن مع متابعة الآثار الجانبية على المريض ومدى تحمله لها أو اللجوء لمضادات الذُّهان غير التقليدية مع مضادات الاكتئاب، وهذا الأسلوب أظهر فاعلية في عديد من المرضى، وقد يلجأ الطبيب في ندرةٍ من حالات الاكتئاب المقاوم الشديدة التي يظهر عليها الميول الانتحارية إلى العلاج بالصدمات الكهربية ECT، لسرعة مفعولها في أغلب الأحايين في السيطرة على أعراض الاكتئاب المتفاقمة، ثم مواصلة العلاجات التقليدية.
اقرأ: الصدمات الكهربية: علاج نفسي أم تعذيب كما في الدراما؟
3. العلاج النفسي والتغيير الإيجابي في الأفكار والانفعالات:
تحدث نقلة ملموسة في تحسن أعراض الاكتئاب عندما ينجح العلاج النفسي، لا سيَّما المعرفي السلوكي -بعد أشهرٍ متواصلة من الالتزام في المتابعة- في سد ثغرات الكثير من نقاط الضعف النفسية والأفكار الخاطئة التي يتسلل منها الاكتئاب، وفي مساعدة المريض على اكتساب أفكارٍ ومعتقدات أكثر إيجابية تزيد مناعته النفسية، وتقلل احتمالات تكرار إصابته بنوبات الاكتئاب الحادة.
وهناك أنماط أخرى عديدة من العلاجات النفسية غير الدوائية، التي ينتقي منها الفريق المُعالج الأنسبَ لكل مريض وفق حالته، ومنها العلاج الجدلي السلوكي DPT، الذي يتم عبرَ تمارين يكتسب من خلالها المريض مهاراتٍ إيجابية قابلة للتطبيق تساعده على التغلب على المشكلات الواقعية والنفسية في حياته، وكذلك التدرب على مهارات التركيز الذهني الفائق mindfulness.
وهناك أيضًا العلاج المرتكز على مهارات الالتزام والقبول بالأمر الواقع، التي يكتسب من خلالها المريض القدرة على القيام بالأنشطة الإيجابية في حياته رغم اعتلال المزاج والحالة النفسية غير المواتية، مما يقلل من الانعكاسات السلبية للاكتئاب على حياته، ويكسر الحلقة المفرغة من الاكتئاب فالعجز والفشل، فالمزيد من الاكتئاب، فعجزٌ وفشل أكثر، فاكتئاب أشد… إلخ. وهناك علاجات نفسية أخرى تركز على تحسين قدرة المريض على إقامة العلاقات الإيجابية وإنجاحها. ولدينا أيضًا العلاج بأسلوب المجموعات العلاجية التي تجمع بعض مرضى الاكتئاب ليخوضوا رحلة التعافي معًا، وهذا يفيد المحرومين من الدعم الأسري والاجتماعي الفعَّال.
كذلك يلعب التدين الإيجابي البعيد عن جلد الذات -أسوأ الثغرات النفسية التي تفاقم الاكتئاب- دورًا محوريًا في مقاومة الاكتئاب، حيث يساعد المريض على مقاومة الإحساس بالعدمية والدونية، ويزيد ثقته بنفسه، وباحتمالات شفائه، ويجعلُه أكثر إحسانًا للظن بنفسه وبحياته، وأكثر مقاومة للوساوس القهرية واضطرابات القلق التي تزرعها أنماط التدين السلبية في الإنسان، التي قد تلقي بالمريض في هاوية الاكتئاب أعمق وأعمق.
اقرأ: هل يساعد التدين المكتئبين: العلم يجيب.
4. الرياضة المعتدلة المستمرة والغذاء الصحي:
أصبحت التمارين الرياضية المعتدلة، مثل المشي بخطوة جيدة أو الجري الخفيف أو ممارسة رياضة محبَّبة مثل كرة القدم في أجواء ترفيهية غير تنافسية… إلخ من أهم العوامل المساعدة في مواجهة الاكتئاب المقاوم، إلى جانب فوائدها الصحية الجسمانية، ومن نافلة القول أن نؤكد أن الصحتيْن الجسدية والنفسية وجهان لنفس العملة.
والغذاء الصحي المرتكن إلى الأطعمة الطبيعية الغنية بالمغذيات المفيدة مثل الخضروات والفواكه والأسماك، يلعب دورًا مساعدًا في تحسن الحالة النفسية والمزاجية على المدى الأطول، دون التذبذب الذي تسببه الأطعمة عالية السكريات مثل الشوكولاتة والحلويات… إلخ التي يلجأ إليها كثيرون لتحسين اعتلال أمزجتهم.
5. الدعم الأسري والاجتماعي:
توافر المحيط الداعم للمريض يختصر مسافاتٍ شاسعة في رحلة علاج الاكتئاب المقاوم، ويخفف من وحشتها، لا سيَّما إن تعدَّدت دوائر هذا الدعم في نطاقات الأسرة والأصدقاء ورفقاء رحلة التعافي من الاكتئاب. وقد يحتاج المعالج النفسي إلى إشراك أفراد الأسرة أو الأصدقاء المقرَّبين في خطة العلاج النفسي.