المقاومة في غزة: تطير كالفراشة وتلسع كالنحلة
«أطير مثل الفراشة وألسع مثل النحلة»، هكذا وصف الملاكم محمد علي كلاي حركاته الخفيفة الراقصة في حلبة الملاكمة أمام خصومه.
هذا الاقتباس الشهير نراه ماثلًا أمامنا في أداء مقاتلي الفصائل الفلسطينية المختلفة أمام العدو الإسرائيلي في الحرب الدائرة الآن في قطاع غزة، فما قفز مقاتل سرايا القدس فرحًا لأن الدبابة «ولعت ولعت» إلا طيرانًا خفيفًا كالفراشة، ولسعًا مثل النحلة.
الكثير يرى مشاهد المقاومة التي يبثها الإعلام العسكري بين حين وآخر بانبهار، ويتسمر الكبار والأطفال أمام الشاشات انتظارًا لبيان من «أبو عبيدة» الناطق العسكري باسم كتائب القسام الجناح العسكري لحركة حماس، أو «أبو حمزة» الناطق العسكري باسم سرايا القدس الجناح العسكري لحركة الجهاد الإسلامي.
في السطور التالية أحاول أن أكشف اللثام قليلًا عن كيفية عمل المقاومة علّها تضيف لما يبثه الإعلام العسكري.
«انفروا خفافًا»
تتبع المقاومة نفس طرق التنظيم العسكري التي تتبعها الجيوش النظامية، فأصغر وحدة عسكرية هي مجموعة وتتكون من 8 مقاتلين إلى 12 مقاتلًا، وعدة مجموعات تكون فصيلًا، وعدة فصائل تكون سرية، وعدة سرايا تكون كتيبة، وعدة كتائب تكون لواء، وهنا أقصد كتائب الشهيد عز الدين القسام لأنها الأكبر والأكثر تنظيمًا في قطاع غزة.
سأركز هنا على مقاومة القوات الإسرائيلية داخل القطاع، أي العمليات العسكرية منذ بدء العملية البرية في 27 أكتوبر.
يتحرك المقاتلون الفلسطينيون في وحدات أصغر من المجموعة، ولنسمها مؤقتًا «زمرة»، تتكون على الأرجح من 3 مقاتلين إلى خمسة. الفرد الرئيسي في الزمرة هو حامل قاذف RPG (مضاد الدروع) الذي يطلق مقذوف «الياسين 105» مزدوج الشحنة التفجيرية. وزن القاذف مع القذيفة مزدوجة الشحنة يقترب من 11 كيلوجرامًا أو أكثر، ولأن العنصر الرئيسي في المعركة هو خفة الحركة، يصعب على الفرد الرئيسي حمل مقذوفات أخرى.
الفرد الثاني في التشكيل هو مساعد حامل القاذف المضاد للدروع، ومهمته أن يحمل قذيفتين أخريين في يديه ليزود بهما الرامي الأول. تزن قذيفة «التاندوم» ثنائية الشحنة التفجيرية نحو 4.5 كيلوجرام.
باقي أفراد الزمرة يحملون بندقية آلية، كلاشينكوف في أغلب الحالات، للاشتباك القريب وحماية الرامي ومساعده، أو حمل عبوات ناسفة أو ما تتطلبه طبيعة الهدف.
الاعتماد الرئيسي هو على مبدأ خفة الحركة، أي استهداف الآلية (ألسع مثل النحلة) ثم الهرب من المكان (وأطير مثل الفراشة)، لذلك لا يمكن للأفراد حمل جربنديات ثقيلة تضم مخازن رصاص وسكينًا وأدوات قطع أسلاك وبوصلة وقربة ماء وغيرها من العتاد العسكري الذي قد نراه مع الجندي النظامي والعدو الإسرائيلي.
لماذا الهرب من المكان؟ أولًا، لأن أساليب حرب العصابات لا تعتمد على التمسك بمكان والدفاع عنه حتى النهاية، بل ضرب العدو وإيلامه، وكلما توغل العدو كلما أمكن ضربه وجره إلى كمائن معدة مسبقًا. ومن الناحية العملياتية، لأن الطيران الحربي أو المسير قد يتدخل بسرعة كبيرة عند رصده ضرب آلية في مكان معين فيقوم بقصف المكان بسرعة لمحاولة قتل الزمرة.
«بنطلون أديداس وشبشب»
ظهر المقاومون في مقاطع الفيديو التي ينشرها الإعلام العسكري يرتدون بنطلونات قطنية وتيشيرتات (بلايز باللهجة الفلسطينية) وشباشب أو صنادل خفيفة. ومن البداية، لاحظ الجمهور العربي هذا النمط فكانت تعليقاته تصب في اتجاه «هذا ما يفعلونه بالعدو وهم يرتدون بنطلونات قطنية وشباشب فما بالك لو اقتنوا خوذات؟».
ما تغفله التعليقات بسبب طبيعتها المرحة هو أن مقاتلي المقاومة الفلسطينية هم بالنهاية يتبعون حركات مقاومة شعبية وليسوا جنودًا ضمن جيش نظامي. فلسطين في الوقت الحالي ليست دولة وليس لها جيش نظامي يمتلك مدفعية وطيرانًا ودفاعًا جويًا ومشاة وبحرية وغيرها من الأسلحة الرئيسية للجيوش.
فالمقاتل الفلسطيني في قطاع غزة الآن، لم يتخرج من أكاديمية عسكرية، ونسبة كبيرة منهم يعملون في وظائف مدنية، فهذا القائد في بحرية القسام هو في الأصل مدرب سباحة، وهذا المقاتل على مدفع الهاون هو مزارع، وهذا طبيب وذاك مدرس بعضهم فقط هو الذي كرس كل حياته للقتال.
إذًا لا يجب أن نخطئ ونطبق قواعد الجيش النظامي على حركة مقاومة شعبية، فهذا المقاتل لا ينقصه خوذة أو جربندية (شدة) أو حذاء عسكري، وسبق وظهرت هذه التجهيزات في العروض العسكرية. إنما يقاتل الفلسطيني ببنطلون أديداس قطني وشبشب لأنه يقاتل في بيئته التي يألفها، فيقاتل في حارته حرفيًا، وعند الدوار، وبجوار المدرسة التي تعلم فيها، وفي محيط دكانه الذي يعمل به.
فالمقاومة الفرنسية ضد النازيين لم تنفذ عملياتها وهي ترتدي زيًا موحدًا، والمقاومة المصرية ضد الاحتلال الإنجليزي لم تنفذ عملياتها سواء في منطقة القناة أو غيرها بارتداء زي عسكري موحد. فكلها مقاومة شعبية تقاتل بالزي المدني لأنها حركة مدنية حملت السلاح في وجه المحتل وليست جيشًا نظاميًا بالمعنى المعروف.
الإسرائيليون أيضًا استغلوا هذه النقطة للدعاية، فكتب بعضهم أن مقاتلي حماس تخلوا عن الزي العسكري للاختباء وسط المدنيين، بينما لم يقاتل الفلسطينيون بالزي العسكري في غزة سواء في الحرب الحالية أو الحروب السابقة منذ عام 2008.
الاتصال وفقدان الاتصال
تعلمت المقاومة الفلسطينية من نظيرتها اللبنانية أنه لا يمكن الاعتماد على الاتصالات اللاسلكية في أوقات الحرب، فإسرائيل المتفوقة تقنيًا يمكنها من دون مجهود كبير اختراق تلك الاتصالات أو التشويش عليها حين الحاجة.
وللتغلب على هذه المشكلة، لجأت المقاومة الفلسطينية للأساليب البسيطة لمواجهة التكنولوجيات المتقدمة، فإذا لم يكن من الممكن تأمين الاتصالات اللاسلكية بوسائل ترميز وتشفير قوية لا يمكن تخطيها، فلنعد خطوات للخلف ونعتمد على الاتصالات السلكية.
أنشأت المقاومة الفلسطينية في غزة، اقتداء بنظيرتها اللبنانية، شبكة هاتفية سلكية لعمل المقاومة تربط مراكز القيادة بالأطراف، وهي منفصلة بالقطع عن شبكة الاتصالات الأرضية المدنية التي يستخدمها السكان.
وتعلمت، أيضًا، عبر سنوات من القتال، أن الاتصال قد ينقطع فجأة مع مركز القيادة وسط المعركة لأسباب متعددة، لتضرر وسيلة الاتصال نتيجة قصف أو حتى لاغتيال شخصية بارزة في القيادة، المهم أن المعركة مستمرة. فكل وحدة عسكرية، صغيرة أو كبيرة، تعرف ماذا عليها أن تفعل ولديها خطط موضوعة مسبقًا وتم التدرب عليها مرارًا، وفي حالة انقطاع الاتصال مع القيادة يكون لقائد المجموعة أو السرية حرية اتخاذ القرار وفقًا للوضع الميداني.
كانت إسرائيل تبحث دائمًا في بداية الحرب عن شخصية قيادية عليا تغتالها حتى تعمل على خلخلة المستويات الإدارية الأدنى فيمكنها أن تنجز «نصرًا سريعًا»، إلا أن توالي الضربات علّم المقاومة سرعة نقل القيادة إلى المستوى التالي ووجود قادة مستعدين لتولي الأمور عندما تحين الساعة.