المقاومة في غزة: الفرار من المعركة إلى المعركة
هذا هو ملخص التصعيد الذي تشهده غزة منذ ثلاثة أيام، ووصل إلى ذروته يوم الخميس 5 مايو 2016، حيث استمرت المقاومة في إظهار شخصية قوية في الدفاع عن مناطق نفوذها في غزة، وردّت كتائب القسام على التوغل الإسرائيلي في قطاع غزة بقصف متواصل للقوات المتوغّلة، وهو ما دفع إسرائيل إلى قصف أهداف مدنية في القطاع، مما استفز باقي فصائل المقاومة لتشارك في إمطار قوات الاحتلال على حدود غزة بوابلٍ من القذائف والصواريخ.
الأنفاق كلمة السر
البداية كانت في إبريل 2016، حيث كثّف جيش الاحتلال تواجده على الحدود مع غزة، وتوغلت جرافاته وآلياته يوميًا داخل القطاع، في محاولة لطمأنة سكان مستوطنات غلاف غزة أن لا خطر على حياتهم بعد شكواهم من سماع أصوات حفر خلال الليل، وأنهم خائفون من تسلل مقاتلي القسام إلى مستوطناتهم.
وفي 18 إبريل، أعلنت قوات الاحتلال اكتشافها نفقًا هجوميًا يمتد من قطاع غزة إلى داخل حدود إسرائيل. وتشير الترجيحات إلى أن النفق تم حفره بعد انتهاء العدوان الأخير على قطاع غزة عام 2014. وادَّعت السلطات الإسرائيلية حينها أنها اكتشفت النفق قبل نحو أسبوعين، وأنه خلال الأسبوعين أرسل جيش الاحتلال الإسرائيلي وحدات معززة ووحدات الهندسة التابعة له، وأجرت مسحًا للمنطقة بين مستوطنة «كيرم» ومعبر كرم أبو سالم، واستخدمت وسائل تكنولوجية لتدمير النفق من جانبي الحدود.وبعد ذلك تكثّف وجود وحدات هندسية تابعة لجيش الاحتلال إضافة إلى قوات الحفر للبحث عن المزيد من الانفاق. وفي صباح يوم الخميس 5 مايو 2016، قال جيش الاحتلال إنه اكتشف نفقًا هجوميًا ثانيًا يمتد من منطقة في جنوب قطاع غزة إلى داخل إسرائيل وبالقرب من الشريط الحدودي.
أنفقت إسرائيل بعد حرب غزة الأخيرة حوالي 250 مليون دولار من أجل تطوير نظام للكشف عن أنفاق المقاومة.
وبحسب الجيش الإسرائيلي فإن النفق على عمق 28 مترًا، ويبعد عدة كيلومترات عن المخرج الأول الذي تم اكتشافه في إبريل 2016، في المنطقة الواقعة بين معبر كرم أبو سالم وبلدة «حوليت». وأكد ضابط كبير في الجيش الإسرائيلي أن النفق يمتد إلى الأراضي الإسرائيلية.وسرعان مأ أصدرت كتائب القسام بياناً مساء يوم الخميس 5 مايو 2016، تُفند فيه مزاعم الاحتلال حول النفق الثاني المُكتشف، وذكر البيان أن ذلك النفق هو الذي نفّذ منه القسام أولى عمليات الإنزال خلف الخطوطخلال حرب غزة الأخيرة. وأضاف أن العالم أجمع شاهد قصف العدو لفوهة النفق في حينه ثم تفجيره، فيما قامت كتائب القسام بإغلاقه، كما قام العدو بضخ مياه الصرف الصحي بداخله أكثر من مرة منذ ذلك الوقت.وفي السياق ذاته، أعلنت السلطات الإسرائيلية أن عضوًا في الجناح العسكري لحركة حماس، كتائب عز الدين القسام، يُدعى «محمود عطاونة» –والذي تم اعتقاله في بداية شهر إبريل بعد عبوره الحدود الى داخل الخط الأخضر وبحوزته سكينين– قد وفّر كمية كبيرة من المعلومات حول مسارات الانفاق في شمال غزة، في محاولة للربط بين كشف إسرائيل عن النفق الهجومي الثاني والمعلومات التي زودها بهم عطاونة.وبعيدًا عن مدى صدق الرواية الإسرائيلية عن عطاونة، فيبدو أن توقيت الإعلان عنها يهدف بالأساس إلى تثبيط همة وعزيمة المقاومة والفلسطينيين في غزة، وتوجيه رسالة للمقاومة مفادها أن «إسرائيل باتت قادرة على اختراقها، وسلبها أحد مصادر تفوقها النوعي خلال الفترة الماضية (الأنفاق)».ويُذكر أن إسرائيل قد استثمرت -بعد حرب غزة الأخيرة في صيف عام 2014- حوالي 1 مليار شيكل (250 مليون دولار) من أجل تطوير نظام للكشف عن أنفاق المقاومة.
المقاومة تُحذّر
في صباح الثلاثاء 3 مايو 2016، قام رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو بجولة في جنوب المنطقة المجاورة لقطاع غزة. وقال نتنياهو خلال جولته في الحدود للجنود أن العامين الأخيرين، منذ حرب صيف 2014 مع حماس، كانا الأكثر هدوءً منذ أعوام. وقد شهد هذا اليوم مزيدًا من توغل لقوات جيش الاحتلال في أراضي القطاع.
تقوم المقاومة الفلسطينية حاليًا بتصعيد حَذِر، للحفاظ على أحد أهم أسلحتها الاستراتيجية ونقاط قوتها، وهي الأنفاق.
خرج بيان كتائب عز الدين القسام يوم الأربعاء 4 مايو 2016، والذي استعرض التوغل الإسرائيلي في أراضي قطاع غزة والتسبب في أضرار كبيرة فيها، وهو ما يُعدّ تجاوزًا واضحًا لاتفاق التهدئة عام 2014، وعدوانًا جديدًا على قطاع غزة.وقال البيان: «إن كتائب الشهيد عز الدين القسام والمقاومة الفلسطينية ترى في هذا التوغل تجاوزاً واضحاً لاتفاق التهدئة عام 2014 وعدواناً جديداً على قطاع غزة، وهي لن تسمح باستمرار هذا العدوان، وعلى العدو ألا يتذرع بأي سبب كان، وأن يغادر قطاع غزة فوراً، وأن يعالج مخاوفه ومخاوف مغتصبيه خارج الخط الزائل».وقال الناطق باسم «الجهاد» داود شهاب إن إسرائيل «لم توقف عدوانها على الشعب الفلسطيني منذ إبرام التهدئة عام 2014». وأضاف أن إسرائيل «تواصل عدوانها وحصارها الظالم على قطاع غزة، وهناك اعتداءات وعمليات توغل مستمرة، سواء في غزة أو الضفة الغربية والقدس وسائر أرجاء فلسطين». وحمّل إسرائيل «المسئولية الكاملة عن الحصار والعدوان المتواصل على الشعب الفلسطيني».
تصعيد حَذِر
بدأت المقاومة في الرد على تجاوزات الاحتلال عمليًا، حتى قبيل بيانها الصادر في 4 مايو 2016. حيث قامت عناصر من المقاومة بإطلاق النار على جنود من جيش الاحتلال يوم الثلاثاء 3 مايو 2016، على الحدود الشمالية للقطاع، حيث تمت إصابة مركبة عسكرية ووقعت أضرار بالغة بمعدات ثقيلة تابعة للجيش.وفي صباح الأربعاء 4 مايو 2016، قصفت المقاومة موقعًا تابعًا لجنود الاحتلال على حدود جنوب قطاع غزة بقذيفة، ولم يسفر القصف عن وقوع إصابات.واستمرت قذائف المقاومة في استهداف مواقع الاحتلال، حيث صدر اليوم الخميس 5 مايو 2016، تصريح رسمي من جيش الاحتلال، يقول: «أن حماس أطلقت بشكل مستمر قذائف هاون ضد القوات خلال نشاطات دفاعية مجاورة للسياج الحدودي مع قطاع غزة. هذه الحادثة العاشرة في اليومين الأخيرين».
كما تبنت كتائب شهداء الأقصى إطلاق صاروخين من طراز 107 باتجاه تجمعات إسرائيلية شرقي مدينة رفح، وإطلاق 4 قذائف هاون باتجاه موقع صوفا، ودعت للالتفاف خلف موقف وطني موحد في الرد على اعتداءات الاحتلال.وقد ردت قوات الاحتلال على قذائف المقاومة بقصف مكثف خلال الأيام الثلاثة الماضية لمواقع تدّعي أنها تابعة للمقاومة، بالإضافة إلى قصف مدفعي كثيف تجاه أهداف مدنية داخل القطاع. ونظرًا للقصف، أخلَت وزارة التربية والتعليم مدرستي صبحي أبو كرش وبيت دجن شرق مدينة غزة من الطلاب والمدرسين خشيةً على حياتهم.
يرتكز تكتيك المقاومة على رفع درجة المخاطر التي يتعرض لها جنود الاحتلال وآلياتهم دون أن يعلموا تحديدًا مصدر ووجهة النيران التي تصيبهم.
وبحسب قراءة المحللين، يمكن القول أن المقاومة الفلسطينية تقوم حاليًا بتصعيد حَذِر، للحفاظ على أحد أهم أسلحتها الاستراتيجية ونقاط قوتها، وهي الأنفاق. فهي ترى في تواجد دوريات الاحتلال الهندسية على حدود غزة الشرقية خطرًا على الأنفاق، وهي بكل الأحوال لا يمكن أن تُضحي بتفوقها النوعي في هذا الصدد.وتدرك المقاومة أن عمليات التوغل التي قام بها جيش الاحتلال مؤخرًا تهدف إلى تأمين عمليات الحفر، وتشكيل حاجز بينها وبين قطاع غزة لتتمكن من العمل في شكل حر وآمن في تلك المناطق؛ لذا أرادت المقاومة أن تبعث برسالة إلى الاحتلال مفادها، أنها «لن تقف مكتوفة الأيدي» حيال كل التجاوزات التي يقوم بها الاحتلال والاختراقات المتواصلة وشبه اليومية للحدود، و«لا تعبث على الحدود مع غزة» فهذه سيادة المقاومة.ويرتكز تكتيك المقاومة على تكثيف ورفع درجة المخاطر التي يتعرض لها جنود الاحتلال وآلياتهم التي تخترق حدود غزة، دون أن يعلموا تحديدًا مصدر ووجهة النيران التي تصيبهم، وبالتالي لا يكون أمام قوات الاحتلال سوى تكثيف قصفها العشوائي، أو الاندفاع كيلومترات داخل غزة لتحديد مصدر إطلاق النيران، وهو ما سيضعهم في مرمى نيران المقاومة بشكل مباشر، وقد يتكبدوا خسائر مادية وبشرية فادحة.
قوات الاحتلال لم تستطع حماية معداتها، وأفضل شيء فعلته هو سحبها من مكانها، وهو ما سعت إليه القسام.
وقد أكد على ذات المعنى محلل الشئون العسكرية «عاموس هريئيل»، في مقالته المنشورة بصحيفة هآرتس، صباح يوم 5 مايو 2016، حيث قال: «إن الوقت لم يحن لقيادة الجيش الإسرائيلي لتتعلم من حماس دروسًا على الأرض، تجعلها تبادر ولو لمرة واحدة لفرض هيبتها ورأيها على الأرض، مثلما فعلت كتائب القسام بالأمس، والتي بادرت من جديد وفرضت خطوطها الحمراء الجديدة داخل حدود قطاع غزة».وأضاف: «قوات الجيش لم تستطع حماية معداتها، وأفضل شيء فعلته هو سحبها من مكانها، وهو ما سعت إليه القسام من خلال قصفها لتلك المواقع، والتي أرادت من خلال هذا القول ان تبعث برسائل صاروخية لإسرائيل تقول فيها؛ هنا ينتهي وجودكم، وهذه المناطق خطوط حمراء، لن نصمت على تجاوزها».
ومع الإقرار بأن عمليات إطلاق النار التي صدرت عن المقاومة لصد عمليات التوغل الإسرائيلي تُعدّ نقلة في معادلات المواجهة مع العدو، لكنها لا تزال تُصنف في نطاق التصعيد الحَذِر، فأغلب الظن، لا ترغب المقاومة، ولا جيش الاحتلال، في خوض مواجهة عسكرية شاملة ومفتوحة، لأن النتائج قد لا تكون في صالح الطرفين.