حلت السودان في المرتبة الثامنة في مؤشر الدول الهشة لعام 2019، الذي يعتمد 12 مؤشرًا لقياس مدى هشاشة الدولة أو رسوخها، وقد حصلت السودان على 8.9 من 10 في التدخل الخارجي.

تعتبر السودان من أكثر المجتمعات السياسية في الشرق الأوسط، وتتداخل فيها العديد من المكونات السياسية المختلفة، كما يحتوي الجيش على العديد من التيارات السياسية فمنهم يسار قومي، ومنهم إسلاميون، وآخرون براجماتيون غربيون، كما يتقاطع مع هذه التيارات الانتماءات الإثنية والعشائرية المختلفة، كما في حالة الفريق «حميدتي».

ويتخذ كل تيار موقفاً من الآخر بشكل غير حاد فيما سبق، ومن التجربة العربية خلال العقد الأخير، فإن التعاون الخارجي مع دول بعينها قد وظف في الصراعات بين الأجهزة المختلفة، والسيطرة على تيارات الإسلام السياسي الذي جاء بدعم خارجي مباشر في دول موجات الربيع الأول، والسؤال الذي يطرح الآن ما امتداد هؤلاء القادة بالدول المجاورة أو الإقليمية، وهل يمكن التشكيك في نواياهم من خلال هذا الطرح؟ في هذا التقرير نرصد أهم من تصدر المشهد سواء تم الانقلاب عليه أو إجباره على تقديم استقالته.


قادة الانقلاب الأول

قام عوض بن عوف بإعلان تنفيذ انقلاب على البشير بعد أنباء عن تشظي المؤسسة العسكرية، ولقطع الطريق على أي تحركات قامو بتنفيذ ذلك الانقلاب بأنفسهم، تولى بن عوف المجلس العسكري المُشكل على غرار التجربة المصرية إبان ثورة 2011، وعين كمال عبدالمعروف الماحي نائبًا له، وابن عوف ذو جذور إسلامية، أما الماحي فمعروف بعلاقته العميقة بالنظام المصري، ويكرر عادة أهمية التعاون بين البلدين، والاثنان ذوا جذور إسلامية، كما يتمتعان بنفس سياسة البشير في التعامل مع الخارج «بأن نتعاون من دون أن نكون ألعوبة»، فموقفهم من الإمارات والسعودية ومصر قد يكون متماهيًا جدًا، لكن في المقابل يحافظان على العلاقات مع قطر التي أهدت لهم العديد من الأسلحة والطائرات العسكرية، كما يحافظون على علاقات بتركيا، لذا فقد اعتبر العديد أن هذا الانقلاب ليس تحولًا جوهريًا، لأنهما استمرار لسياسة البشير الداخلية والخارجية.

زار ابن عوف مصر مرتين خلال الأشهر الستة الماضية، آخرها بعد تعيينه نائبًا للبشير في فبراير/ شباط الماضي، والتقى في الزيارتين عباس كامل مدير المخابرات العامة المصرية ومحمد الشحات قائد المخابرات العسكرية المصرية، وكانت مصر أول من أيد انقلاب السودان في العالم العربي، وذلك باعتبار أن الانقلاب استجابة للثورة الشعبية، وأنها تتفهم طموح الشعب السوداني. أكد هذا الموقف قبول النظام السياسي لهذه التحركات ضمنيًا، مع غياب أي تأكيدات بخصوص موقفها من شخص عوض بن عوف الذي تخرج في مصر وتدرب فيها، وعمل قنصلًا بها.

كما جمع لقاء ابن عوف بعباس كامل في مارس/ آذار 2018، أشاد بأهمية الحفاظ على أمن مصر، وعلى رفع التعاون الأمني العسكرية الإقليمي بين البلدين، لكن الرجل كان يمتاز بنهج البشير نفسه بالحفاظ على التوازن والتناقضات كمنهج عام لسياسته، ليحافظ على علاقة طيبة تعاونية مع مصر في ظل استضافة السودان معارضين مصريين.

على جانب علاقته بالسعودية فإن ابن عوف كان يقدس الحرب في اليمن، ويدعم التدخل هناك بقوات برية سودانية، كما أبرم العديد من الإتفاقات العسكرية بين البلدين، وإجراء العديد من المناورات البحرية في بورتسودان آخرها «فلك-3» بين البلدين مطلع العام الجاري.

ولفهم علاقة ابن عوف مع محور السعودية الإمارات مصر، يجب النظر إلى طبيعة العلاقة القطرية والتركية والتي تميزت بالعمل والتنسيق معها ولكن بشكل أقل من تنسيقها مع السعودية.

كان التحدي أمام ابن عوف هو طمأنة محور السعودية – الإمارات – مصر بأن الوضع سيظل في يد الجيش، وذلك من خلال مد الفترة الانتقالية لوجود تخوف عند تلك الدول من إجراء الانتخابات واكتساح الإسلاميين لها، رحبت مصر بخطوة الجيش على هذا الأساس، وبالرغم من ذلك جرى انقلاب ضده من الإمارات.

على جانب آخر فإن الولايات المتحدة التي أصدرت بيانًا يدعو لتهدئة وتفهم تطلعات الشعب السوداني، فإنها هاجمت عبر رئيس للجنة العلاقات الخارجية بمجلس النواب الأمريكي إليوت إنغلز بن عوف، الذي أكد أنه استمرار لسياسة البشير، وهذا مؤشر أيضًا لمدى رفض الرجل إلى حد ما من ناحية تلك المحاور المتوافقة مع التوجه الأمريكي في المنطقة.


قادة الانقلاب الثاني

تشير بعض التقارير إلى أن تحرك ابن عوف والماحي جاء بعد وصول أنباء بتحركات أكثر من 130 ضابطًا داخل الجيش لعمل انقلاب على البشير، وبعد تفاوضات طويلة وأد ابن عوف تلك المحاولة ليقوم هو بتنفيذها، ومن الواضح أن هذا الانقلاب الأول هو من انتصر بإزاحة بن عوف من رئاسة المجلس.

عبدالفتاح برهان لا توجد دلائل على انتمائه لأي تيار سياسي، والراجح أنه يفضل البقاء في الحالة الرمادية لاستقطاب أكبر دعم شعبي وعسكري ممكن، كما أنه كان قائدا للقوات البرية السودانية وتمت ترقيته في فبراير/ شباط الماضي ليتولى المفتش العام للجيش، ولبرهان علاقة وطيده بالإمارات كونه كان مشرفًا على القوات السودانية المشاركة في اليمن، ويقضي وقتًا في التنقل بين الإمارات واليمن، كما أنه شديد التملق للمتظاهرين وأيضًا للقيادات في الجيش.

تنعدم المعلومات عن توجهاته بالإضافة لقلة تواجده في مشاركات إعلامية، تناول الإعلام الخليجي وتحديدًا السعودي تولي برهان بالترحاب، كما أضفى على الرجل العديد من الصفات والسمات من قبيل (قبول ورضا داخل المؤسسة العسكرية) أو (رضا الجماهير السودانية عنه) ..إلخ.


شبه المنشقين

الفريق «محمد حامد» الملقب بـ «حميدتي»، قائد قوات الدعم السريع في السودان.

اعتذر قائد قوات الدعم السريع محمد حمدان حميدتي عن المشاركة في المجلس العسكري، مما أزم الأمر داخل المجلس وحدث بعدها تنحي ابن عوف، حميدتي أصدر بعدها مباشرة وقبل خطاب برهان مطالبات بتقليص الفترة الانتقالية، وانحاز لطلبات الشعب مطالباً بحكومة مدنية،وانتقال ديمواقراطي، وحميدتي المنسحب من المجلس حسب شهود عيان ينشر قواته في مدينة الخرطوم وحولها، فقواته التي تتشكل من 40 ألف مقاتل ترابط مع المتظاهرين وحول المناطق الحساسة في البلاد، فمن هو حميدتي وهل له علاقات خارجية؟

حميدتي هو من قبيلة المحاميد الهلالية من إقليم دارفور، لم يكمل تعليمه وأنشأ ميليشيا عسكرية لحماية خط التجارة مع ليبيا وتشاد حيث كان يتاجر في الإبل، وفي 2003 أصبحت هذه الميليشيا تابعة للجيش، كما ارتكب جرائم في دارفور، ويشاع أنه وابن عوف شاركا في جرائم هناك، كما تستحوذ الدعم السريع على عمليات التنقيب عن الذهب في الإقليم، أسس البشير قوة الدعم السريع عام 2010 لتكون له حصناً من الجيش، وعلى نجمها بعد محاولة الانقلاب على البشير عام 2012 المتورط فيها قوش.

لتكون الدعم السريع قوة البشير الضاربة ويعتمد عليها بعيدًا عن القيادات المتربصة به، وبالفعل كانت قوة الدعم السريع سندًا وأسندت لها مهمة المشاركة في اليمن، فحميدتي مع برهان تربطهما علاقات وطيدة بالإمارات، ومن تصريحاته فهو لا يطمح في السلطة، وإنما جاء موقفه بناء على انحيازات للشارع.

ربما يكون ذلك صحيحًا، وربما يهدف إلى شيء ما أبعد عبر ترشحه للانتخابات وزيادة فرصه بمناسبة قربه من التيار اليساري وتبنيه شعاراته، كما أن هناك أمرًا مهمًا وهو أن صمام الأمان بينه وبين الجيش كان البشير، وأن وجوده بين الشعب حمايةً له من انتقام قادة الجيش منه وإقصائه كونه لم يكن يومًا ضمن جسد الجيش نفسه، وهو يلجأ للمتظاهرين لأن الرجل تتوتر علاقته مع قادة أجهزة الجيش، وذلك كون البشير أعطاه أكثر من البقية.

وما نريد قوله إن موقف الرجل يأتي في سبيل بحثه عن الشرعية لقواته، وهو يمثل الامتداد الإثني والجهوي داخل الجيش، كما يمتاز الرجل بعلاقات مع الإمارات وربما يمثل الباب الخلفي في وقت ما في حالة سيطرة قوى إسلامية على المشهد. وهذا ما حدث بالفعل، أن الرجل تنصل من موقفه فور انضمامه للمجلس العسكري، وتوالت التبريكات السعودية والإماراتية بعد ذلك مباشرةً.


رجل الإمارات والغرب الأول

محمد حامد حميدتي قائد قوات الدعم السريع السودان
محمد حامد حميدتي قائد قوات الدعم السريع السودان

يعتبر صلاح قوش الذي قدم استقالته، أمس، وقد كان أحد المرشحين بقوة لتصدر المشهد السياسي في السودان، وهو مدير مخابرات البشير حتى عام 2012، الذي تورط مع بعض الإسلاميين للانقلاب على البشير فأقيل واعتقل على إثرها، وتدخل الشيخ طحنون بن زايد «الإمارات» للإفراج عنه، وبالفعل عفا عنه البشير، تم تعيينه مديراً للمخابرات مرة أخرى عام 2018 بعد توتر العلاقة بين مصر والسودان على إثر إسناد امتياز ميناء سواكن لتركيا، وردت مصر بتدريب قوات سودانية معارضة في إريتريا وتدخلت الإمارات لتنزع فتيل الأزمة بين مصر بتعيين قوش وبتقريب وجهات النظر بين القاهرة والخرطوم عبر زيارات متتالية من منصور بن زايد.

يتمتع قوش بقبول من الـCIA كما تربطه علاقات وطيدة بعباس كامل مدير المخابرات العامة المصرية واللواء محمد الشحات مدير المخابرات العسكرية المصرية، كما له دور فاعل في تقديم معلومات عن الحركات الإسلامية المسلحة في ليبيا والصومال واليمن، وبالرغم من تحالفه مع التيار الإسلامي في محاولة الانقلاب 2012 فإنه يناصب العداء للتيار الإسلامي، وتوجهه الغربي جعله مرشحًا قويًا حتى الساعة، ولربما قد يكون يستخدم تيارًا أو فريقًا عسكريًا داخل الجيش لإحداث شقاق لصالحة وتسريع العملية الانتقالية ليتمكن من الانقضاض عليها،رشحت الإمارات الرجل ليخلف البشير مطلع العام لدى الولايات المتحدة الأمريكية.

جاء تعيين ابن عوف نائبًا للبشير لرفض البشير تعيين بن قوش نائباً له لأنه كان يدرك أنه مفضل عند الغرب، وأن ابن عوف أقل قبولاً كونه يتمتع بجذور إسلامية، كما السودان فإن قوش وقع في التناقض، فقد عارض الاحتجاجات، وأن فيها مندسين، في حين أشار إلى الفوضى التي ستسقط فيها وإلى أي مدى وجود دول مجاورة تطمع في احتلال السودان، وقام بالتشنيع باليسار، وفي إعتقادي أن هذا الموقف أتى في إطار مغازلة التيار الإسلامي في الجيش للانحياز له وهو تيار ضخم ويسيطر على العديد من الأجهزة العسكرية.

يأتي ذلك في ظل صراع بين الجيش والأمن على خلافة البشير، فهم ليسوا في جانب واحد من الناحية العملية، لذا سنجد استقطاباً داخلياً داخل المؤسستين، وبالرغم من قدرة الجيش على حسمها، ولكن اختلاف التيارات داخله وتنازع النفوذ قد يحذو بالجيش أو المؤسسات الأمنية بالوصول للوضع الليبي، بكل تجلياته الداخلية والخارجية والذي سيكون فيها قوش وقتها حفتر جديداً كما أشار موقع عربي بوست، ويأتي إجباره على الاستقالة في سياق الصراع بين قوات الجيش والأمنية، ولكن هل يخرج من المشهد السياسي بشكل نهائي؟ وهل سيحاول العودة مرة أخرى كما حدث في وضع عمر سليمان في مصر؟

خلاصة القول إن التيارات التي تتجه للسيطرة على المشهد وتتصارع فيما بينها سواء البيروقراطي العسكري المتمثل في برهان، والجهوي الإثني المتمثل في حميدتي، أو الأمني الغربي المتمثل في قوش، فإنهم يمتلكون علاقات جيدة لكنها تتفاوت فيما بينهم مع الإمارات ومصر والسعودية، فأضعف تلك العلاقات كانت التي تربط ابن عوف بالمحور العربي الفاعل ويمثل قوش أقواها بالإضافة للولايات المتحدة.