إعادة قراءة «Rocky»: عن حلاوة اللعب مع الخسران
في عصر يوم حار جلس شاب أمريكي من أصل إيطالي في غرفته ليشاهد مباراة ملاكمة محسومة بشكل مسبق بين الملاكم الأعظم على مر العصور محمد علي كلاي، وملاكم لا يتذكره أحد يدعى تشاك ويبنر.
كان ويبنر ملاكم متوسط المستوى، دون تاريخ يذكر رغم ممارسته للعبة لسنوات عديدة، كان الجميع يظن أنه سيخسر بسهولة أمام علي، لكن مع مرور الجولات وعدم سقوطه رغم لكمات علي المتتالية تسرب الشك للجمهور، وفي لحظة توقف فيها الزمن في الجولة التاسعة سدد هذا الملاكم المغمور لكمة مباغتة لعلي سقط على إثرها، استمرت المباراة بعدها لأن علي سارع بالوقوف ثم فاز في نهاية المباراة وقبل 20 ثانية من نهاية الجولة الخامسة عشرة والأخيرة بالضربة القاضية. ما دار في ذهن هذا الشاب حينها، أن هذا الملاكم سيظل يتذكر هذه اللحظة التي أسقط فيها البطل، سيظل يحكيها لأهله وأصدقائه وجيرانه وكل الذين يظنون أنه لم يكن شيئاً يذكر.
في غضون 3 أيام بعد هذه اللحظة وبإلهام مباشر منها كتب هذا الشاب المغمور سيناريو فيلم، سيناريو لم يجد من ينفذه أولًا، لكنه سيصبح بعد ذلك أحد أشهر الأفلام في تاريخ سينما، هذا الشاب هو سلفستر ستالوني وهذا الفيلم هو روكي.
كيف يمكننا إعادة قراءة روكي بعد كل هذه السنين؟ هل نحن أمام فيلم رياضي يصور رحلة صعود نمطية؟ أم أن الأمر مختلف عن ذلك؟ والأهم لماذا ولد هذا الفيلم كل هذه الشعبية التي ضمنت له الخلود حتى اليوم؟
الوجه الأول
ما هو الوجه الأول الذي نراه في فيلم روكي؟ سؤال يصلح لعشاق المعلومات الغرائبية أو التريفيا، هل هو وجه روكي؟ أم حبيته؟ أم ربما أبولو كريد الملاكم الأسطوري في عالم روكي؟
في حقيقة الأمر أنه ليس وجه لأي من هؤلاء، الوجه الأول الذي نراه في الفيلم وبعدسة قريبة للغاية تجعله يحتل الكادر بالكامل هو وجه المسيح، مسيح يتوسط حائط صالة يلاكم فيها روكي ملاكمًا آخر مجهولًا، فيما يصرخ الحاضرون «الكمه بقوة أيها التافه»، صالة تبدو كأنها كنيسة قديمة، ومباراة ملاكمة متواضعة المستوى يبدو بوضوح أن طرفيها يتبادلان لكمات مصطنعة وبطيئة، قبل أن يتهور أحدهما ويضرب الآخر برأسه، فيتحول الأمر لملاكمة أشبه بالعراك حتى تنتهي بأحدهما على الأرض.
الرجل الذي ينتهي من هذا المشهد الافتتاحي واقفاً هو روكي، ينزل سلالم الحلبة وهو يجر أقدامه متعباً ليطلب سيجارة من أحد المتفرجين، القمامة تملأ الحلبة نفسا، يغادر روكي الصالة لشارع تتراكم القمامة على جنباته، يمر على مجموعة من البسطاء الذين يغنون حول نار تتصاعد من برميل قمامة، يرتشف بعضاً من البيرة من زجاجة يتشاركون فيها، ثم يلقي عليهم سلاماً سريعاً ويدخل شقة صغيرة تتكون من غرفة واحدة، يطمئن على سلحفته الصغيرة وعلى سمكتين في خوض صغير بغرفة معيشته ثم يلقي بنفسه على سرير صغير للغاية لدرجة أن أقدامه تتدلى خارجه.
هذا التتابع الافتتاحي هو ما يقدم لنا روكي، وتخيل معي عزيزي القارئ أنك تشاهد هذا الفيلم في عام 1976، لا أحد يعرف من هذا الممثل، هذا التتابع هو من يقدم لنا كجمهور سيلفستر ستالوني أيضاً.
من روكي؟ شاب بجسد رياضي، يمتلك القوة، لكنه بطئ، يتحدث بتون صوت واحد طوال الوقت تقريباً، يبدو بسيطاً وعادياً وليس على قدر كبير من الموهبة والذكاء، لكنه يبدو طيب القلب.
يخبرنا تتابع البداية بكل هذا، لكننا لا ندرك أن هذا الشاب سيصبح أحد أشهر الشخصيات السينمائية ولا ندرك أن هذا الممثل سيبدأ رحلة نجومية على أكتاف روكي. كيف يتحول روكي من شاب عادي إلى رمز؟
رحلة صعود
ينتقل الفيلم عقب ذلك على مهل لصدفة تقدم فرصة ظهور لروكي، الملاكم الأسطوري أبولو كريد الذي يذكرنا بعض الشيء بمحمد علي كلاي، يبحث عن خصم يواجهه، ينسحب خصمه المحترف قبل فترة قصيرة من المباراة، فيقرر أن يمنح الفرصة لملاكم مجهول ليخبره أن أمريكا أرض الفرص والأحلام، يقع اختياره على روكي فقط لأنه أعجب باسم شهرته «الحصان الإيطالي».
الأمر بالنسبة لأبولو كريد ليس أكثر من مباراة استعراضية، بالنسبة لروكي فرصة للحصول على كثير من مال مقابل تلقي اللكمات والضربات دون توقف.
بمجرد عرض الفرصة على روكي، يميل في اللحظة الأولى للرفض، يدرك روكي بشكل مكتمل أنه خاسر، بأنه لا يملك أي فرصة.
من يتذكر روكي من خلال الأجزاء التالية وخصوصاً من الجزء الثالث يميل لاعتبار الحكاية رحلة صعود، لكن إذا أدركنا أن الفيلم لم يكن مكتوباً ليصبح بداية لسلسلة، وإن تعاملنا من النص الأصلي الذي كتبه سلفيستر ستالوني نفسه، يصبح الأمر مختلفاً تماماً، فنحن هنا مع رحلة شاب يعلم أنه لا يملك موهبة كبيرة، يعلم أنه قد تخطى مرحلة التطور، ويعلم أن فرصته في عالم الملاكمة الاحترافي قد فاتت، رحلة يحاول أن يثبت فيها شيئاً واحداً فقط، أنه ليس شخص بلا قيمة.
يلقي روكي بنفسه في الليلة التي تسبق المباراة على سريره الصغير، تستلقي بجانبه حبيبته «أدريان» هذه المرة، يخبرها أنه سيخسر، لكن ما يهمه هو أن يستمر للنهاية أو بمصطلح الملاكمة «go the distance»، أي أن يبقى على قدميه حتى نهاية الجولة الخامسة عشرة والأخيرة، أن يخسر بالنقاط ولا يسقط بالضربة القاضية.
هامش الحياة، أصل السينما
بالعودة لذكريات مشوشة عن روكي، نتعامل معه كجمهور ونقاد بصفته فيلماً رياضياً بسيطاً عن ملاكم مغمور يصعد للشهرة، نتعامل بنفس القدر من التبسيط مع سلفيستر ستالوني نفسه بتصوره كممثل متواضع ورجل محدود الموهبة لا يملك سوى عضلات ومشاهد قتال وأداء تمثيلي مسطح، لكننا عندما نعيد مشاهدة وتحليل روكي، الفيلم الأصلي والنص الأصلي، وبإعادة التركيز في سياق الفيلم الذي انتزع أوسكار أفضل فيلم في عام 1976 من 3 أفلام يعتبرها الجميع الآن تحف سينمائية All the President’s Men وNetwork وTaxi Driver، نجد أن هذا التصور مشوه بشكل مكتمل.
روكي في حقيقة الأمر لديه ما يربطه مع سينما الواقعية أكثر مما يربطه مع سينما هوليوود، التصوير في مواقع تصوير حقيقية في أحياء فيلادلفيا الفقيرة مع بسطاء يغنون حول نار أو بائعي فاكهة يلقون برتقالة لرجل يشبههم -ستالوني كان بالفعل غير معروف في هذا الوقت- أثناء قيامه بالجري وسطهم، هذا يربط روكي بسينما الواقعية الإيطالية لفيتوريو دي سيكا مثلاً أكثر مما يربطه بأفلام الإنتاج الضخم الأمريكي.
الحكاية عن شخص فقير وبسيط يحاول أن يستغل ما تبقى من موهبة لديه لإثبات أنه لم يكن بلا قيمة، الاستمرار في المحاولة وحتى لو اقتربت من الموت يذكرنا بحكايات الواقعية الإيرانية وفيلم «سائق الدراجة» مثلاً لمحسن مخملباف أكثر من الأفلام الرياضية الأمريكية التي تنتهي بخطاب حماسي عن فوز يأتي دائماً في النهاية.
هل نبالغ إن ربطنا روكي عن قصة وسيناريو ستالوني ومن إخراج جون أفيلدسن، الفيلم محدود التكلفة، بهذه التحف السينمائية الخالدة محدود التكلفة أيضاً من إيطاليا وإيران؟ أم إن الأمر طبيعي لأن الرابط واضح، دعنا نمد الخط على استقامته ونصل لرابط قد يعتبره البعض مبالغة فعلاً.
أن تخسر اللعبة وتكسب كل شيء
رغم كل ما يفعله روكي أثناء أحداث الفيلم، رغم الدافع الشديد والتدريب والقصة التي يمكن أن يتم صنعها بشكل ملحمي عن انتصار المهمشين وتحقيق الأحلام، فإنه في هذا الفيلم الأصلي -الذي لم يكن من المفترض التي يبدأ سلسلة- يخسر في النهاية.
تنتهي المباراة بفوز متوقع للملاكم المحترف أبولو كريد، فوز بالنقاط بقرار لم يكن بالإجماع من الحكام، لكنه فوز في النهاية، يهمس أبولو كريد مع جرس الجولة الأخيرة «لن يكون هناك مباراة أخرى»، ليرد روكي «أنا لا أريد مباراة أخرى».
هل كان لستالوني كونه صانع الفيلم ومؤلفه أن يصنع نهاية مختلفة تنتهي بفوز روكي؟، بالطبع، لكن الهزيمة في حقيقة الأمر هي ما يجعل من هذا الفيلم كلاسيكية سينمائية، وهي السبب في بقاء الفيلم خالداً إلى اليوم، وهي دليل آخر أن ستالوني كاتب وصانع سينما موهوب.
ما يهم روكي في حقيقة الأمر وطوال أحداث الفيلم أكثر من الفوز هو أن يحظى بالحب، يذهب يومياً صباحاً ومساءً إلى الفتاة التي يحبها في مكان عملها، يلقى عليها نكتة صباحاً ونكتة مساءً، في تصوره البسيط أن هذا ما سيجعلها تحبه.
هذه الفتاة «أدريان» التي تجسدها ببراعة أيقونية «تاليا شاير» تبدو في بداية الفيلم كفتاة خجولة للغاية، تبتسم قليلاً على نكات روكي وأحياناً لا تفهمها، تتعرض للضغط والتنمر من أخيها السكير بشكل مستمر، لكن مع تطور علاقتها بروكي يظهر جانب آخر من شخصيتها وشخصيته، تنفجر صارخة في أخيها في الثلث الأخير من الفيلم وتصارحه بأن حياته فاشلة بسببه وليس بسببه، هي في الحقيقة من يرعاه وليس العكس، يتم إبعاد أدريان عن حضور المبارة ظناً من الرجال في الفيلم أنها لن تحتمل رؤية روكي وهو يتلقى اللكمات.
في آخر لحظات الجولة الأخيرة يسقط روكي، يترجاه مدربه أن يبقى على الأرض، يرفض ويعود للوقوف، تتورم عين روكي، يصبح غير قادر على فتحها، يطلب من مدربه أن يفتح جفنه بنصل حاد دون أن يخبر الحكم، يصرخ فيه أنه سيقتله لو أوقف المباراة، يريد روكي أن يموت واقفاً، تعلو موسيقى «بيل كونتي» الملحمية مع دخول أدريان للصالة الضخمة التي يتوسطها حلبة القتال، يقف روكي والدماء تسيل من كل مكان في وجهه، ينتهي اللقاء ولا يلتفت إلى ما يقوله المراسلون والصحفيون من حوله، ينادي بكلمة واحدة «أدريان»، تسرع أدريان وتخترق الصفوف، تسقط قبعتها في الطريق، وتصل في النهاية للحلبة وتحتضن روكي، هذا رجل لا يرى تقريباً، الدماء تسيل بغزارة من وجهة، أنهى للتو المباراة الأهم في حياته، لكنه يسألها «أين قبعتك؟»، فترد «أنا أحبك».
ينتهي الفيلم بالحب، يجده روكي وأدريان، يصبح كل منهما أقوى بوجودهما سوياً.
في الاعتقاد المسيحي صُلب المسيح، مات واقفاً، الدماء تسيل على وجهه ومن كل مكان في جسده، خسر حياته البشرية لكنه كسب إيمان وحب البشر لمئات السنين بعدها، نزف من أجلهم، طهرهم من خطاياهم وأعطاهم فرصة جديدة. هذا فيلم يبدأ بكادر مكتمل للمسيح، وينتهي برجل ينزف من وجهه، كاد يموت واقفاً، لكنه يفوز بحب حبيبته، يحظى بفرصة لحياة جديدة ويخلد حكاياته لسنين طويلة.
هل قصد ستالوني أن يربط روكي بالمسيح؟