مطلب تقنين الشريعة ومعركة الاستقلال الحضاري
مرَّت الدعوةُ لتقنين أحكام الشريعة الإسلامية في مصر بفصول متعددة ومراحل متعاقبة، وارتبطت ارتباطًا يكاد يكون عضويًا مع أزمة الهوية ومعركة الاستقلال الحضاري الشامل التي بدأت مع ثورة 1919م ولم تنته حتى اليوم رغم مرور مائة سنة على بدايتها. وكان آخر فصول هذا المطلب وأهمها هو الفصل الذي بدأ ببيان ألقاه الدكتور صوفي أبو طالب على أعضاء مجلس الشعب المصري بتاريخ الرابع من ذي الحجة 1498هـ، الرابع من نوفمبر/ تشرين الثاني سنة 1978م، قال فيه:
وفي السابع عشر من محرم 1399هـ، السابع عشر من ديسمبر/ كانون الأول 1978م، وافق مجلس الشعب المصري على قرار تشكيل لجنة خاصة تتولى دراسة كل الاقتراحات بمشروعات قوانين تطبيق الشريعة الإسلامية. واستنادًا إلى ذلك القرار، ضمت اللجنة بعض أعلام رجال القضاء، وعددًا من جهابذة أساتذة الشريعة الإسلامية والقانون من المسلمين وبعض المسيحيين. وبحلول رمضان 1402هـ، يوليو 1982؛ أي بعد حوالي ثلاث سنوات فقط من تشكيل لجنة التقنين، كانت هذه اللجنة قد أنجزت معظم أعمالها.
لقد انتهت لجنة التقنين من إعداد خمسة مشروعات قوانين طبقًا لأحكام الشريعة الإسلامية، هي:
1. مشروع قانون المعاملات المدنية، 2. مشروع قانون إجراءات التقاضي والإثبات، 3. مشروع قانون العقوبات، 4. مشروع قانون التجارة، 5. مشروع قانون التجارة البحرية. ووافق مجلس الشعب بجلسة العاشر من رمضان 1402هـ، الأول من يوليو/ تموز 1982م على تقارير اللجان الخمسة، التي اختصت كل لجنة منها بأحد تلك القوانين الخمسة؛ وذلك بعد أن اكتملت صياغتها تمهيدًا لعرضها على المجلس للموافقة النهائية عليها وإصدارها لتأخذ طريقها للتطبيق.
وكان توقيت تلك الجلسة في ذكرى انتصار العاشر من رمضان، السادس من أكتوبر/ تشرين الأول، له مغزى كبير يمس وجدان المصريين جميعًا؛ إذْ كان هذا التوافق التاريخي يشير بوضوح إلى أن معركة العبور التشريعي والتحرر من الاحتلال التشريعي الأجنبي واسترداد سيادة الشريعة هي امتداد لما بدأه الأجداد في ثورة 1919م من أجل التحرر والاستقلال الحضاري الشامل، وكانت أيضًا هي الوجه الآخر لمعركة العبور وتحرير البلاد من دنس الاحتلال الأجنبي الصهيوني واسترداد السيادة الوطنية على كامل التراب المصري.
وكان من المفترض أن يبدأ المجلس مناقشة تلك المشروعات حسب ما تقرر في جلسته تلك التي وافقت ذكرى الانتصار. وكان من المفترض أيضًا أن تنتهي المناقشات قبل فض دورته البرلمانية 1982/1983، وكانت خطة العمل التي أعلنها الدكتور صوفي أبو طالب رئيس المجلس آنذاك، تتضمن أن تقوم اللجنة الخاصة المكلفة بتقنين الشريعة بإحالة مشروعات التقنين التي اكتملت إلى اللجنة التشريعية بالمجلس، ثم تقوم اللجنة التشريعية بعرضها على المجلس ومناقشة كل قانون مادة مادة، ثم تقوم اللجنة ذاتها، بعد فض الدورة البرلمانية، بعقد جلسات استطلاع رأي على أوسع نطاق لتعريف الجمهور به وللوقوف على رأي الناس فيه.
ولكن فجأة توقف كل شيء، ولم يحدث من تلك الخطة أي شيء في سبيل إكمال مشروع التقنين كي يكون جاهزًا ليوضع موضع التنفيذ كما كان مقررًا عند البدء فيه! لقد دخلت تقنينات الشريعة منذ ذلك التاريخ أدراج المجلس، ولم تخرج للعرض عليه كي يناقشها ويصدرها حتى اليوم. ويظن الذين دسوها في الأدراج أن مرور السنين بعد السنين سوف يمحوها من الذاكرة الجماعية للمصريين، أو أنه قد محاها بالفعل، ولكن رغم مضى ما يقرب من أربعة عقود طوال عليها، لا يزال الأمل يحدو المصريين نحو بلوغ الهدف العظيم الذي تاقت إليه نفوسهم، وغرسوا بذرته الأولى في دستور سنة 1923م الذي صدر في أعقاب ثورة 1919م، وواصلت أجيالهم جيلًا بعد جيل نضالها للوصول إلى هذا الهدف الكبير.
نقولُ ذلك ونحن نعلم أنه حدث شبه انقطاع أو تعطيل لكثير من مبادئ الشريعة وأحكامها، نتيجة لوقوع بلادنا تحت الاحتلال الأوروبي واستيراد القوانين الأجنبية وبخاصة في القرن التاسع عشر، إلا أن هذا الانقطاع وإن طال فمآله إلى الزوال، وهذا التعطيل وإن دام حقبة في الماضي فلن يدوم في المستقبل؛ وهذا لأسباب كثيرة، أهمها على الإطلاق هو أن الشريعة تشكل جوهر هوية الأمة، وأي نقص يحدث بسبب تعطيلها أو انقطاعها يساويه شعور بالنقص في هوية الأمة ذاتها، ولا توجد أمة عريقة ترضى بشيء من ذلك على نفسها.
أما الانقطاع التام، أو التعطيل الكامل للشريعة؛ فيعني فقدان الأمة هويتها إلى الأبد. وكل هذه الاحتمالات غير واردة بالنسبة للأمم العريقة في التاريخ والحضارة مثل الأمة الإسلامية بشعوبها ومجتمعاتها المتنوعة، وفي القلب منها مجتمعنا المصري.
وتدلنا تجاربُ نجاح الشعوب والأمم العريقة في تخطي لحظات الضعف وقهر التحديات أيضًا على أن أحدَ أهمِّ عوامل نهوضها هو استعصامها بأصول هويتها، وتشبثها بالعوامل الرئيسية التي تكون معادلة لذاتها، وفي مقدمتها: اللغة القومية، والدين، والشريعة، والفنون والآداب، والتاريخ. هذه العوامل تكتسب أهمية مضافة في لحظات الضعف وتكاثر التحديات لشدة ما تتعرض له من أخطار، ولدورها الكبير في صون هوية الأمة. وتدلنا تجارب الشعوب والأمم كذلك على أن الهوية تصبح في أزمة عندما تنقسم جماعتها على نفسها، وتتشرذم نخبتها ولا تكون لها مرجعية معرفية متجانسة. وعندما تفقد الأمة استقلالها، أو يصيب هذا الاستقلال النقص بوقوعها تحت سيطرة قوة أجنبية غازية، فغالبًا ما تنشأ أزمة الهوية، نتيجة إحدى هاتين الحالتين، أو نتيجة لهما معًا.
ورغم أن عوامل تكوين الهوية المشار إليها تعملُ مجتمعةً، ولا تعمل كل منها منفردة أو بمعزل عن الأخرى، إلا أن هذه العوامل ليست متساويةً في أهميتها؛ فاللغة والدين والعقيدة والشريعة تفوق غيرها في أهميتها. ولكنها لا تلغي أهمية الفنون والآداب والتقاليد والأعراف. وتعلو أهمية العقيدة والشريعة عندما تتأزم الهوية مقارنة بأهمية اللغة والتاريخ، ولا تلغي أيًا منهما أيضًا، وهكذا. ولسنا في مجال بيان كيفية إسهام كل عامل منها في تكوين الهوية، فقط نركز هنا على دور العقيدة، والشريعة، سواء في تكوين هوية الأمة، وفي توحيد أصولها، أو في تشخيصها والتعبير عنها وصونها وحمايتها.
لقد جاء الإسلام عقيدة وشريعة، لا يختلف على ذلك اثنان، ولا يتضارب في التسليم به قولان. وهذا بعضٌ مما قصده علماء السلف عندما عرفوا الدين بأنه «وضع إلهي، سائق لذوي العقول السليمة باختيارهم إلى الفلاح في المعاش والمعاد». فلنبين دور العقيدة في بناء الهوية أولاً، ثم نبين دور الشريعة في بنائها.
إن أساس عقيدة الإسلام هو التوحيد والإيمان بالغيب، وهذه العقيدة ذاتها هي التي قررت وحدةَ الدين في أصوله العامة، ونبذت الفرقةَ فيه، وأدانت الخصومة باسمه. ومما يؤكد ذلك أن الإسلام في لغة القرآن الكريم ليس اسمًا لدين خاص، وإنما هو اسم للدين الذي نادى به كل الأنبياء والمرسلين، يقول الله تعالى: {شرع لكم من الدين ما وصى به نوحًا والذي أوحينا إليك. وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه}. (سورة الشورى:13). ويقول الله تعالى مخاطبًا النبي محمدًا صلى الله عليه وسلم : {فلذلك فادع واستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم. وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب. وأٌمرت لأعدل بينكم. الله ربنا وربكم لنا أعمالنا ولكم أعمالكم. لا حجة بيننا وبينكم الله يجمع بيننا وإليه المصير}. (سورة الشورى:15).
وللنبـى صلى الله عليه وسلم تصوير بليغ لهـذا المعنـى حيث يقـول: «مثلي ومثل الأنبياء قبلي، كمثل رجل بنى بيتًا فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة من زاوية من زواياه، فجعل الناس يطوفون به، ويعجبون لـه، ويقولون هـلا وُضعت هـذه اللبنة! فأنا تلكم اللبنة وأنا خاتم النبيين» (رواه البخاري ومسلم).
يتبينُ مما قلناه حتى الآن أن لمبدأ وحدة الدين أهمية بالغة في فهم العقيدة الإسلامية وبنيتها الإيمانية؛ ومن ثمَّ في فهم دورها في بناء هوية الأمة بمختلف تكويناتها الاجتماعية والعقائدية وتوحيد أساسها المعرفي، وكذلك من حيث انعكاس هذه الوحدة أيضًا على منظومة القيم العليا الحاكمة للعلاقات بين الأمم والشعوب المختلفة، وليس بين مجموعات الأمة الواحدة، أو الشعب الواحد فحسب.
إن آيات القرآن الكريم تنص صراحة على وحدة الدين، وتأمر النبي وأصحابه بأن يكونوا أول المؤمنين بهذه الوحدة. فالمسلم يجب عليه أن يؤمن بكـل نبي سبق، ويصدق بكل كتاب نزل، ويحترم كل شريعة مضت، ويثني بالخير على كل أمة من المؤمنين خلت، قال تعالى:
{قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون}. (البقرة:136). ثم يقفى على ذلك بأن هذه هي سبيل الوحدة، وأن أهل الأديان الأخرى إذا آمنوا كهذا الإيمان فقد اهتدوا إليها، وإن لم يؤمنوا به فسيظلون في شقاق، وأن أمرَهم بعد ذلك إلى الله فيقول: {فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا، وإن تولوا فإنما هم في شقاق فسيكفيكهم الله، وهو السميع العليم}. (البقرة:137).
عقيدةُ الإسلام تجمع ولا تفرق، تؤلف ولا تشتت، وتزيل كل شبهة يمكن أن تؤدي إلى جعل تعدد الرسالات السماوية مصدرًا للصراع أو الحرب باسم الدين. وقد نص القرآن على ذلك عندما أكد على أن ملة إبراهيم عليه السلام هي أساس للدين، وأنها مرجع الأنبياء الثلاثة الذين عُرفت رسالتهم وهم: موسى وعيسى ومحمد عليهم جميعًا الصلاة والسلام. كما حضت آيات الكتاب العزيز على تجريد الدين من أغراض البشر وأهوائهم والارتفاع بنسبته إلى الله وحده.
إن شريعة الإسلام جاءت أيضًا لتنظيم أداء العبادات، وترتيب إجراء المعاملات والعلاقات بين الأفراد والمجموعات والكيانات المختلفة، وضبط العادات والتقاليد والأعراف، وتحديد الجزاءات التي تكفل سلامة النظام العام. وهذه الشريعة هي من أكثر مبادئ الشريعة إسهامًا في إرساء أصول الهوية الواحدة للأمةـ بجماعاتها وأعراقها وعقائدها الدينية المتعددة.
وأمرَ الإسلام الأمة بتنظيم المعاملات بين المسلمين وغير المسلمين على أساس المصلحة والخير الإنساني. فالتعامل بين المسلمين وغيرهم من أهـل العقائد والأديان إنما يقوم على أساس المصلحة الاجتماعية والخير الإنساني، يقول الله تعالى: {لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين، ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين، إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون}. (سورة الممتحنة:8و9). ومعنى هذا أن الرابطة التي تربط الجميع بالدولة هي رابطة مدنية/إنسانية، أو قل إن شئت: هي رابطة المواطنة التي تسوي بين الكل، ولا تميز أحدًا على آخر لأي سببٍ كان.
إذا تصورنا الآن أمة توحدها عقيدة جامعة بين أفرادها وجماعاتها وتكويناتها المختلفة، وتقيم الشريعةُ العلاقاتِ بينهم على أساس المصلحة المشتركة والخير الإنساني؛ فإن هذه الأمة تكون قد استكملت أهم دعائم بناء هويتها الذاتية، وأضحت في مأمن من خطر التفكك، أو الذوبان في هوية (ذات) أخرى معادية لها.
العقيدة الجامعة، والشريعة التي تحقق المصلحة المشتركة والخير الإنساني: هما ركنا الهوية الذاتية، التي تميز أمة عن غيرها، وتأتي بقية عوامل تكوين الهوية من لغة وتاريخ وفنون وآداب لتعبر عن هذين الركنين، وتحيل مضامينهما النظرية المجردة إلى أعمال ومشروعات وممارسات اجتماعية، جماعية وفردية، ورسمية وغير رسمية على أساس ركني العقيدة والشريعة، وعلى هذا الأساس الصلب تتفتت كل دعاوى الفرقة والانقسام، وعلى وجه الخصوص تلك الدعاوى التي تستهدف النيلَ من ثوابت الأمة المستمدة من عقيدتها وشريعتها.
لكل هذا أقولُ بثقةٍ: إن قصة تقنين الشريعة الإسلامية لم تنتهِ بعد؛ لأنها ليست واجبًا شرعيًا فحسب، وإنما هي واجب مجتمعي يتعلق بالهوية الذاتية، وواجب وطني يتعلق بسيادة الدولة وتحررها من الاحتلال التشريعي الأجنبي، وهي في موقع القلب من معركة استقلالنا الحضاري الشامل.