جمهورية يوليو : عندما تخلق السلطة طبقتها الاجتماعية
لطالما استقر في الوعي التاريخي الشعبي في مصر الاعتقاد بأن انحياز حركة ضباط الـ23 من يوليو/تموز 1952 كان للفقراء والطبقات الأكثر حرمانًا في المجتمع المصري، وهو ما تأسست عليه في المقابل الشرعية الاجتماعية لحكم هؤلاء الضباط الذين حكموا البلاد من خلال عقيدة سياسية اشتراكية صريحة ومعلنة بعد الإطاحة بالنظام الملكي.
من جهة أخرى تتبنى جمهرة واسعة من المؤرخين والباحثين المصريين قراءة مختلفة للنظام الاقتصادي والاجتماعي الذي أسسته دولة يوليو، حيث يذهب هؤلاء إلى أن انحياز ناصر ورفاقه كان في الحقيقة لصالح الطبقة الوسطى قبل غيرها، حيث تبناها النظام الناصري وسعى لتوسعتها لتكون قاعدته الاجتماعية الرئيسية.
يطرح السؤال هنا نفسه، لماذا كان المتخيل التاريخي السائد لدى غالبية المصريين في اتجاه، والحقيقة التي تقدمها لنا الدراسات الاجتماعية والتاريخية في اتجاه آخر حول تلك القضية؟
الطبقة والدولة في مصر
في كتابه «الدولة المركزية في مصر» يسجل الباحث والمفكر المصري الراحل نزيه الأيوبي ملاحظة تستحق الوقوف لديها مليًا، ألا وهي أن الدولة المصرية من منظور الاقتصاد السياسي هي معكوس الدولة في أوروبا تقريبًا، ذلك لأن الدولة تاريخيًا في مصر، كانت تقوم عادة بـ«خلق طبقتها»، بينما قامت الطبقة على العكس في أوروبا والغرب بصياغة الدولة وفق متطلباتها ومصالحها.[1]
بحسب الأيوبي فقد ظهرت الرأسمالية في أوروبا أولاً، ثم طورت رموز الدولة القومية وأنشأت أجهزتها ثانيًا، ثم تمكنت من تدعيم المركزية في النهاية، وهو ما يشرح لنا بحسبه الكثير من التناقضات التي نلحظها في الدولة المصرية، ومنها على سبيل المثال مدى تطور أجهزة الدولة وتعقيدها من ناحية، في مقابل ضعف الروح الفردية وأنشطة المشاركة لدى المصريين في الوقت ذاته من ناحية أخرى.[2]
ذلك أن التوصل إلى الدولة في أوروبا قد تم عن طريق الفردية، أي من خلال إطلاق سراح الفرد من الاقطاعيات والجماعات الوسيطة، وإعادة ربطه كوحدة مستقلة «ذات سيادة» بالدولة الحديثة، وهي عملية لم تتم في مصر في المقابل إلا بصورة محدودة.[3]
في هذا الإطار التاريخي الذي يقدمه لنا الأيوبي سعت دولة محمد علي في مصر على سبيل المثال إلى خلق طبقتها الخاصة من العسكريين والتكنوقراط والفنيين لتسيير تلك الدولة الاحتكارية ذات الملامح الحديثة، لتتحلل تلك الطبقة بعد ذلك إثر هزيمة محمد علي وتدهور نظامه الاحتكاري وتتحول إلى طبقة شبه «أرستقراطية» من ملاك الأراضي.[4]
في الإطار ذاته كان أحد أهم الأهداف المعلنة لجمال عبد الناصر ورفاقه من الضباط بعد 23 يوليو/ تموز 1952؛ هو القضاء على سيطرة رأس المال على الحكم، وهو ما كان يعني آنذاك تصفية الإقطاع الزراعي، والقضاء المبرم على نفوذ طبقة ملاك الأراضي، بينما كان الهدف غير المعلن في الوقت نفسه، هو خلق طبقة جديدة من التكنوقراط والعسكريين والفنيين والإداريين العاملين في الجهاز البيروقراطي للدولة.[5]
تلك التحولات في العلاقة بين الطبقة والسلطة يشبهها الأيوبي بحركة بندول تاريخية، تبدل خلالها الطابع السائد للدولة والنظام السياسي في مصر، من طابع مركزي بيروقراطي ذي توجه داخلي ، إلى طابع لا مركزي أوليجاركي (حكم الأقلية الثرية) ذي توجه خارجي، كما جرى في التحولات بين عهدي محمد علي وحكم أبنائه، وهو ما كررته حركة البندول مرة أخرى أيضًا بين عهدي عبد الناصر وأنور السادات.[6]
وهنا تظهر العلاقة بين الطبقة والدولة في مصر،فالدولة المصرية تسعى في فترات معينة لخلق طبقتها الاجتماعية الخاصة، ثم تتحول هذه الطبقة إلى أشكال طبقية أخرى بعد انهيار النظام الذي أقامها، وهكذا دواليك في تكرار لحركة البندول المشار إليها.[7]
عبر تلك التحولات جاء ميلاد الطبقة الوسطي المصرية المعاصرة بالنهاية، نتيجة لسياسات محمد علي في التوسع في التعليم العام، لتكوين كوادر فنية وعسكرية وإدارية يبني من خلالها دولته، ثم لاحقًا من خلال سياسات يوليو 1952 الأكثر جذرية في هذا الإطار، وقراراتها التي نظمت الملكية الزراعية وفتحت باب التوظيف للخريجين في دواوين العمل الحكومي وشركات القطاع العام.
جدير بالذكر أن الأيوبي أيضًا قد عزا في كتابه فكرة خلق الدولة لطبقتها للنمط الشرقي من الحكم عمومًا وعلاقة الدولة بالمجتمع خلاله، وهو ما يدفعنا هنا للتأمل بأثر رجعي من جانبنا في تجارب أخرى كتجربة الاتحاد السوفيتي في القرن الماضي على سبيل المثال، حيث نلاحظ أن الثورة البلشفية في روسيا قامت في بلد زراعي لم يتوافر فيه نضال عمالي حقيقي كالمجتمعات الصناعية في أوروبا الغربية، فإذا بالنظام الشيوعي الجديد يخلق طبقته الاجتماعية خلقًا إثر تبوئه السلطة وفق عقيدته السياسية من خلال عمليات الهندسة الاجتماعية الدموية والتوسع في التصنيع خلال عهد ستالين.
«ثورة يوليو» وسياسات الانحياز الطبقي
في كتابه «عصر الجماهير الغفيرة» يتساءل أستاذ الاقتصاد المصري جلال أمين، لمن آلت السلطة بعد تنحية طبقة الإقطاعيين والأغنياء عن السلطة السياسية بعد يوليو/ تموز 1952، وهو ما يجيب عليه لاحقًا بأن السلطة انتقلت لعدة شرائح من الطبقة الوسطى كانت محرومة من المشاركة في السلطة قبل «الثورة».[8]
بحسب أمين توجهت الدولة بعد وقت قصير من قيام «الثورة»، بالتوجه فيما تصدره من قوانين وما تخذه من إجراءات، إلى خدمة هذه الطبقة الجديدة الحديثة العهد بالثراء والسلطة. وكان هذا الإحلال لطبقة محل طبقة في الامتيازات الاقتصادية والسياسية على السواء، هو المسوغ الأساسي بحسبه إلى تسميتها «ثورة» منذ البداية.[9]
رغم ذلك عادت سياسات «ثورة يوليو» بالفائدة على شرائح واسعة من السكان تتجاوز الطبقة الوسطى من الضباط والمهنيين وأصحاب الملكيات المتوسطة في الريف والمدن، حيث استفاد أبناء الفلاحين من مجانية التعليم في ذلك الوقت، ومن سياسات الإصلاح الزراعي، ومن فرص العمل التي وفرتها الصناعات الجديدة في القطاع العام.[10]
إلا أن هذا لم يكن الحال دائمًا، حيث اتخذت الدولة المصرية خلال حكم عبد الناصر الكثير من القرارات التي كانت تحقق مصالح الطبقة الوسطي بالذات، أو شرائح معينة منها، حتى لو تعارضت هذه الإجراءات تعارضًا واضحًا مع مصالح الطبقات الدنيا، كما أنها تجاهلت بعض الحاجات الأساسية لهذه الطبقات الدنيا عندما كان إشباع هذه الحاجات يتعارض مع مصالح الطبقة الوسطى، أو تلك الشرائح منها التي كانت في موقع السلطة.[11]
يقدم أمين أمثلة على هذا ومنها على سبيل المثال: ما أعطته الدولة للطبقة الوسطى من امتيازات في الحصول على أراضي البناء والشقق السكنية وفي بناء المصايف الحديثة، وفي تحديد ما كان يتم إنتاجه واستيراده من سلع، وتقديم الدعم إلى بعض أنواع السلع والخدمات التي لا يستفيد منها إلا الطبقات متوسطة الدخل في ذلك الوقت، كالسيارات وأجهزة تكييف الهواء والثلاجات.[12]
لذلك كان هناك تفضيل واضح عند تحديد الأولويات، للمطالب الطبقة الوسطى مما كان يمكن التضحية به من أجل حاجات أكثر إلحاحًا لأقل الناس دخلاً، كتدشين برنامج طموح لتحسين الحياة في القرى المصرية بمعدل أسرع، سواء في توفير المياه الصالحة للشرب في بيوت الفلاحين أو تزويدها بالكهرباء على سبيل المثال،وهي مشكلات لا يزال يعاني منها بالفعل مناطق عديدة من الريف المصري حتى الآن.[13]
وبذلك لعبت الطبقة الوسطي دورًا خطيرًا في إعادة توزيع الدخل القومي، وتوزيع الفائض الاقتصادي المتولد في قطاعات الدولة، مما أدى إلى تزايد أنشطتها الاستغلالية والطفيلية، وبالتالي شكلت بنهاية المطاف بعض شرائحها التي حققت ثروات شخصية، أحد روافد الرأسمالية الجديدة التي ظهرت بعد سياسات الانفتاح الاقتصادي، معتمدة بنسبة كبيرة في تكوين تلك الثروة بالأساس لا على الملكية الموروثة، بل على الوظيفة و الموقع داخل مؤسسات الدولة، من خلال منظومة تقوم على التزاوج الواضح بين السلطة والثروة .[14]
أما على صعيد الريف، فقد عملت السياسات التي انتهجتها الدولة في التعامل مع الزراعة، إلى نشأة طبقة برجوازية في الريف، حيث أفضت قوانين الإصلاح الزراعي لا إلى حل مشكلة الفلاحين المعدمين هناك، بل إلى نقل تركز الثروة الاقتصادية من كبار الملاك إلى أصحاب الملكيات الزراعية المتوسطة، الذين شكلوا برجوازية جديدة في الريف حلت محل الأرستقراطية الإقطاعية في العهد الملكي.[15]
كانت النتيجة المنطقية لحقيقة أن الدولة المصرية هي التي أنشأت الطبقة الوسطى ودعمتها، أنها بنهاية المطاف هي التي أضعفتها وقلصت حجمها منذ عقدي الثمانينات والتسعينات، وصولًا إلى وقتنا هذا، فمأزق الطبقة الوسطي الحقيقي يكمن في أنها صنيعة الدولة منذ البداية، ولم تكن وليدة لسيرورة صراع تاريخي مع السلطة أو مع الطبقة العليا، ولذلك لم يكن غريبًا أن نلاحظ اتخاذ أغلبية المنتمين إليها عادًة، مواقف انتهازية سلوكيًا وفكريًا يغلب عليها مظهر النفاق، وهو ما جعلها في الأخير طبقة مهادنة وغير ثورية تابعة للدولة دومًا، لا يعول عليها في إحداث تغيير سياسي حقيقي.[16]
- نزيه نصيف الأيوبي، الدولة المركزية في مصر، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، الطبعة الأولى، 1989، ص 13
- المصدر السابق
- المصدر السابق
- المصدر السابق
- المصدر السابق
- المصدر السابق
- هويدا عدلي رومان، الطبقة الوسطى في مصر – دراسة توثيقية تحليلية، برنامج تدعيم المشاركة في بحوث التنمية، القاهرة، 2001، ص 24
- جلال أمين، عصر الجماهير الغفيرة 1952 – 2002، دار الشؤروق، القاهرة، الطبعة الأولى، 2003، ص 156
- المصدر السابق
- المصدر السابق
- المصدر السابق
- المصدر السابق
- المصدر السابق
- محمد عبد الحميد ابراهيم، التحولات الأساسية في التكوين الاجتماعي المصري منذ منتصف السبعينات، دراسة منشورة في كتاب : دراسات في التحول الرأسمالي والمشاركة السياسية، مصطفي كامل السيد (محرر)، القاهرة، مكتبة مدبولي، 1996
- المصدر السابق
- عاصم الدسوقي ، مأزق الطبقة الوسطى، مجلة الهلال، عدد ديسمبر، 1991 نقلا عن الطبقة الوسطى في مصر – دراسة توثيقية تحليلية، مصدر سابق ص 28