تجديد الخطاب الديني: هل نحن بإزاء بروتستانتية جديدة؟
بالتوازي مع ما كان يجري على خلفية أحداث الحادي من عشر من أيلول/ سبتمبر 2001، من ضغوط مستمرة من الإدارات الأمريكية المتوالية على الأنظمة العربية والإسلامية لتغيير المناهج الدينية وتطوير الخطاب الديني الرسمي، كان يتشكل على مسار آخر على مدى سنوات وعقود تيار فكري جديد في العالم العربي، تتمحور أفكاره حول نقد التراث ونقد حركات ما يعرف بـ «الإسلام السياسي» والحركات «الجهادية».
على إثر الأفول السياسي للحركات الإسلامية بعد تراجع مد ثورات الربيع العربي، أخذت القاعدة الاجتماعية لذلك التيار الجديد في التنامي بفعل تحول أفكاره إلى خطاب جماهيري عبر متحدثين إعلاميين كإبراهيم عيسى وإسلام بحيري.
السؤال الغائب بإزاء ما نجد أنفسنا أمامه هنا هو لماذا يتكلف مفكرون وأكاديميون وباحثون وإعلاميون ذوو ميول حداثية واضحة تميل إلى القطيعة الثقافية مع التراث عناء الاضطلاع بمهمة تجديد الخطاب الديني.
فهل ينشد هؤلاء إحداث حالة من الإصلاح الديني بالفعل؟ أم تمثل تلك الدعوة الراهنة لتجديد الخطاب الديني رغبة في التمهيد للانقطاع المعرفي والتاريخي عن التراث نفسه من خلال نقده وتفكيكه كمرحلة أولى قبل تجاوزه وتخطيه في الأخير؟
الإصلاح الديني كمدخل للحداثة
تعد تجربة الإصلاح الديني من روافد الحداثة التي لا تؤخذ كثيرًا بعين الاعتبار، حيث لعبت ثورة مارتن لوثر وجون كالفن الدينية على الكاثوليكية في القرن السادس عشر دورًا كبيرًا تقويض الاجتماع الديني المؤسسي في المسيحية الغربية، وتحويل الدين والإيمان في نهاية المطاف إلى تجربة شخصية.
وهو ما عزز من قيمة الفردانية، التي تحولت إلى موقف فلسفي وأخلاقي وسياسي واجتماعي سائد انتقل معه تمحور المعرفة والاجتماع في أوروبا من الكنيسة إلى الإنسان، لتتنامى خلال تلك السيرورة مساحة العلماني على حساب الكنسي في كل زاوية من زوايا الحياة في الغرب.
فضلًا عن هذا فقد أعادت الحروب الدينية التي قامت على خلفية الصراع بين الكاثوليك والبروتستانت رسم الخطوط الفاصلة بين الكنيسة والدولة، حيث أدى صلح ويستفاليا الذي أُبرم في نهاية حرب الثلاثين عامًا، إلى ظهور الدولة الحديثة بمفهومها القانوني والسياسي، الذي قوض من سلطان الفاتيكان الذي كان يلعب دورًا كبيرًا في تنصيب وخلع الملوك في مختلف أنحاء أوروبا.
أدى اختلاف تجربتي العالم الإسلامي وأوروبا في هذا السياق، وتحديدًا في غياب مفهوم طبقة رجال الدين «الإكليروس» في الإسلام إلى تبني التنويريين والحداثيين العرب والمسلمين كطه حسين وأحمد لطفي السيد مفهومًا مختلفًا في مقاربتهم لمفهوم الإصلاح الديني، من خلال محاولتهم في المقابل الفكاك من سلطة النص الديني، دون اضطرارهم إلى الخوض كثيرًا في محاولات إعادة تأويله، والاجتهاد داخل منظومته التشريعية والمعرفية.
اصطدمت تلك المحاولات بحالة تنامٍ واتساع مستمر منذ نهاية ستينيات القرن الماضي للتيارات الإحيائية والتجديدية في العالم الإسلامي، ترافق معها عودة عميقة وواسعة نحو التراث، عودة تعددت تجلياتها، وكان أحد مظاهرها التي لا تخطئها العين في معارض الكتب السنوية في العالم العربي في العقدين الأخيرين على سبيل المثال، نسبة مبيعات الكتب التراثية التي تسجل أرقامًا قياسية في كل عام.
ومن ثم لم يكن هناك بد أمام الطرف الآخر سوى العودة مرة أخرى للتراث، الذي صارت إعادة قراءته وتأويله هي مساحة السجال والصراع الجديدة بين الحداثيين الجدد المهتمين بالتراث وبين الإحيائيين والإصلاحيين من التيارات الإسلامية والمحافظة.
فظهر لنا في هذا الإطار على مدى سنوات عديدة الكثير من المشاريع الفكرية في نقد وتفكيك التراث الإسلامي للعديد من الباحثين والمفكرين العرب، كصادق جلال العظم ومحمد أركون وعلي حرب ومحمد شحرور وعبد المجيد الشرفي وعبد الجواد ياسين.
نقد التراث كمقدمة للانقطاع المعرفي عنه
في تجاوز لمشاريع نقد العقل والخطاب العربي والإسلامي العديدة، عمد المفكر اللبناني علي حرب خلال مجمل كتاباته إلى الانتقال من نقد العقل إلى نقد النص في محاولة من الأخير لتفكيك سلطته، بشكل يفضي بنا في النهاية إلى زحزحة وتقويض النص الديني كمركز معرفي لحساب خلق فكر وواقع جديد عبر هذا النقد والتفكيك، الذي يحررنا بحسبه من أسر مرجعية الماضي والتراث.
عبر مسارات أخرى في الاتجاه ذاته تنصب جهود المهندس والمفكر السوري محمد شحرور، الذي يقدم قراءة فقهية جديدة للإسلام عبر إعادة تأويل اللغة والنص، تغير كليًا من ملامح محتواه التشريعي عبر إحالة مراوغة تدعي استحضار التراث بينما تعمل من خلال إعادة قراءته على تغيير معناه وبنية أحكامه.
من أمثلة اجتهادات شحرور في هذا الإطار رأيه في قضية الزنا بين الرجل والمرأة بالتراضي إذا كانا غير متزوجين باسم ملك اليمين، حيث أباح الأخير المساكنة بينهما ولو لم يكن بينهما عقد زواج شرعي، فضلًا عن إباحته شرب الخمر، حيث يفسر شحرور أن مجرد الأمر بتركها بصيغة الاجتناب كما جاء في القرآن الكريم لا يدل على التحريم، إنما يدل على الكراهة، ورأيه كذلك في أن صيام رمضان اختياري وليس من أركان الإسلام.
في السياق ذاته يقدم لنا الأكاديمي التونسي عبد المجيد الشرفي قراءة تفكيكية أخرى للإسلام، ينظر خلالها الأخير إلى تجربة النبوة كتجربة تاريخية وسيكولوجية للنبي محمد، صلى الله عليه وسلم.
فبحسب الشرفي، تشكلت النبوة عبر «تخمر» ذاتي في شخصية النبي مما تعرف عليه في أسفاره ومن الأحناف وأهل الكتاب، وعبر تأمله الطويل عندما كان يتحنث في غار حراء، وبهذا تبدو النبوة كما ينظر إليها الشرفي أقرب إلى أن تكون تجربة ذهانية وفصامية، صبغتها ملامح «ميثية» (أسطورية) تعبر عن طرائق التفكير السائدة آنذاك، بحسبه.
أما في كتابه «الإسلام بين الرسالة والتاريخ» فيقدم لنا الشرفي القرآن كمدونة تاريخية تعكس تفاعلات الحياة الثقافية في البيئة العربية على الصعد المختلفة، ولهذا فالقرآن، بحسبه، منتج ثقافي إنساني لا ينبغي أن نضفي عليه هالات القدسية بشكل يمنعنا من قراءته نقديًا كنص تاريخي.
قراءة مسألة «الوحي» للشرفي هنا تتشابه أيضًا بحسب ما يعرضه لنا السيد ولد أباه من رؤى أخرى للعديد من الباحثين الآخرين من هذا التيار، فالنص الديني كما يراه نصر حامد أبو زيد هو «منتج ثقافي تاريخي يعكس الواقع المجتمعي»، وهو «حالة استلابية رؤيوية يقتضيها تأسيس الديانات الكونية الكبرى التي تتطور وفق نسق غائي لا واع»، بحسب هشام جعيط.
وهو «تعبير مكتمل عن تحولات عقدية وفكرية من عناصرها الأساسية التيار التوحيدي الرافض لعقيدة التثليث والطائفة “الأبيونية” اليهودية والدعوة الأريوسية التوحيدية والحركة الحنيفية»، بحسب محمد عابد الجابري دون تعرض منه لمصدر الوحي ذاته.
تتوالى كذلك في هذا السياق العديد من الكتابات للكثير من المفكرين والباحثين، الذين استخدموا مناهج التفكيكية وما بعدها في حقل الدراسات الإسلامية، في محاولة لتحرير الاجتماع والمعرفة في العالم العربي والإسلامي من الدين والتدين، اللذين ينظر إليهما من رواد ومنظري هذا التيار على نطاق واسع كعائق ثقافي واجتماعي أمام التحديث والتقدم.
ولا جديد هنا في كل هذا في الحقيقة، ولكن الجديد الآن أخيرًا هو استراتيجيات الخطاب الإعلامي الذي يستخدمه عدد من الداعين إلى تجديد الخطاب الديني الآن، الذي ينطوي على الكثير من المراوغة والمناورات والتقية والتورية، حيث هناك الكثير من الماء في الفم، والكثير من غير المصرح به، فهناك أزمة حقيقية وعميقة من معظم أولئك مع التراث والخطاب الديني برمته، وهو ما يطرح بدوره السؤال: كيف سيجدد هؤلاء ذلك الخطاب إذن؟