هل يفرض «سد النهضة» واقعًا جديدًا على الدولة المصرية؟
يصل النيل منهكًا إلى مصر. تخور قواه فيتخذ مسارين مشكلًا الدلتا بشمال مصر، بدلًا من أن يستمر تدفقه الهادر كما كان في شبابه، عندما منح الحياة للمصريين بل للدولة المصرية ذاتها. فالنيل هو وريدها وشريانها منذ الأزل، التي وجدت من أجله أو أوجدها هو بحكمة السنين. كان النيل شاهدًا على قيام الدولة والحضارة، ومشهودًا لوضع الدولة وقوة نظامها والفعالية السياسية التي تتمتع بها.
تستهلك مصر أكثر من 70 مليار متر مكعب من المياه سنويًا، 55 مليارًا من مياه النيل (أي ما يتجاوز 80% من المياه العذبة المستهلكة)، ومن المياه المعاد تدويرها ما يقرب من 12 مليار متر مكعب، وتحل المياه الجوفية في المرتبة الأخيرة بواقع 6 مليارات متر مكعب.
بحسب البنك الدولي يُستهلك 85% منها في الزراعة، التي تُستهلك غالبية منتجاتها في الأسواق المصرية. 3% من المياه تُستخدم في الصناعة، وما يقرب من 12% تستخدم في الشرب والاستخدام المنزلي. يشكل نصيب الفرد من المياه العذبة 20 مترًا مكعب سنويًّا، وبذلك تحل مصر في المرتبة الرابعة عالميًّا من ناحية الشح المائي للفرد بعد الكويت والبحرين والإمارات، وبذلك تتذيل قائمة دول حوض النيل من ناحية نصيب الفرد في المياه، حيث تتصدرها الكونجو بواقع 49 ألف متر مكعب وإثيوبيا بواقع 1200 متر مكعب للفرد.
أما إذا احتسبنا نصيب الفرد من ناحية وفرة المياه في مصر، فيقترب من 550 مترًا مكعبًا وهي مرحلة الشح المائي، حيث يُحدد عالميًّا 1000 متر مكعب نصيب الفرد من المياه في جميع مجالات الزراعة والصناعة والاستخدام المنزلي، ويُعتبر حد الندرة المائي عالميًّا عند 500 متر مكعب للفرد، وهو ما تقترب منه مصر في المرحلة الحالية، مع تضخم عدد السكان وشح المياه المتوقع من وراء السد الإثيوبي، وتراجع هطول الأمطار بقدر يصل إلى 18% في دول المنبع بسبب التغيرات المناخية.
سبعٌ عجاف
في سبتمبر/ أيلول الماضي أعلنت وزارة الري المصرية وصول المفاوضات حول سد النهضة إلى طريق مسدود. فجّر ذلك الإعلان عاصفة من السخط في الداخل المصري حول ملف السد، في حين تعالت الأصوات الشعبية على مواقع التواصل الاجتماعي بتوجيه ضربة عسكرية للسد. استدعى ذلك قيام بعض المؤسسات الصحفية في إثيوبيا بالرد فيما يشبه التراشق الكلامي بين إعلام الدولتين.
يتساءل العديد حول جدوى وأخطار السد في ظل غياب دراسات كثيفة عن آثاره البيئية المحتملة، مع وجود عدد محدود من الدراسات أو الأطر التي لا تقدم أرقامًا دقيقة في غالبيتها، حيث سعت مصر لتشكيل لجنة مشتركة لدراسة آثار السد في نهاية عام 2011، تعرقلت في عهد الرئيس الأسبق محمد مرسي لاشتراط مصر وجود مكتب دولي يقوم بدراسة الآثار البيئية. وافقت إثيوبيا عام 2014 على وجود مكتب هولندي وآخر فرنسي اللذين انسحبا فيما بعد بسبب عدم وجود ضمانات لدراستهما الفنية، واستمرت اللجنة التي أنهت عملها لتقييم الآثار البيئية في 2017.
وبموجب الإطار التعاوني الذي وقعت عليه مصر في 2015، أصبحت مصر تتفاوض حول المدة الزمنية التي سيُملأ خلالها السد، مما يقلل الأعباء على الدولة المصرية خلال فترة الملء.
كان من المخطط للمشروع أن ينتهي عام 2017 ويبدأ حجز المياه، على أن يستمر لثلاثة أعوام، مما قد يتسبب في حالة جفاف ضارية لمصر بشكل أساسي أكثر من السودان، فالنيل الأزرق القادم من إثيوبيا مسئول عن ضخ أكثر من 55 مليار متر مكعب سنويًّا للسودان، بمعدل يتجاوز 70% من مياه النيل التي تصل لدول المصب.
سيؤدي ذلك لانخفاض حصة مصر من المياه بواقع 24 مليار متر مكعب، ما يُفضي إلى تصحر ما يقرب من 51% من الأراضي الزراعية المصرية.
قدمت مصر مقترحًا لملء الخزان بين 7 و 10 سنوات، على أن تتضرر مصر في حصتها بواقع 12 مليار متر مكعب سنويًّا خلال تلك الفترة، مما سيؤثر على مساحة أقل من الأرض الزراعية تقدر بـ 31%، وزيادة عدد الفتحات في السد لتصل إلى 12 فتحة، والتي استجابت لها إثيوبيا على أن تساهم مصر في نقل التيار الكهربائي الذي ستصدره إثيوبيا إلى أوروبا من خلالها.
الخلاف حاليًّا يدور حول حجم المياه التي يجب تمريرها. في حين تقترح مصر تمرير 40 مليار متر مكعب في حالة الفيضان، وأعلى من ذلك في حالة الجفاف، يعني ذلك ملء الخزان في سبع سنوات وأكثر، تتمسك إثيوبيا بنسبة تتراوح بين 30-35 مليار متر مكعب في حالات الفيضان والجفاف، أي ملؤه في خمس سنوات.
تتمثل مشكلات السد في تأثر قطاع الزراعة، واستيراد السلع الغذائية الأساسية من الخارج، وتفاقم مشكلة الصرف الصحي وما يتبعها من مشكلات صحية، مما سيفاقم من أزمة الرعاية الصحية، كذلك ارتفاع معدلات التلوث، وتراجع اقتصاديات الاستزراع السمكي، بالإضافة إلى مشكلة الندرة المائية في مياه الشرب.
وانخفاض منسوب المياه يفاقم من مشكلة تآكل السواحل الشمالية المتسبب فيها التغير المناخي، أما خطر انهيار السد بعد امتلائه فهو قائم بسبب الطبيعة الجيولوجية غير المستقر لمنطقة بناء السد، والتي قد تؤدي لعدم استقرار جيولوجية السد وارتفاع احتمالية تعرضها للزلازل، حيث إن الطاقة الاستيعابية للسد تبلغ 74 مليار متر مكعب أي نصف خزان السد العالي، وفي حالة انهياره يعني ذلك غرق مصر في غضون ثلاثة أيام.
اقرأ أيضًا: بالسد العالي: كيف دمرت «دولة يوليو» حياة المصريين؟
تعتبر السودان أحد الرابحين من وجود السد، فبالرغم من تأثر حصتها فإن ذلك أقل بكثير مما ستعاني منه مصر، بالإضافة لآثار السد الإيجابية في خفض فيضانات النيل المدمرة للسودان، والتي تكلفها خسائر في الأرواح وخسائر مادية عالية جدًّا، كما سيساعدها في استخدام نظام الري الدائم واستغلاله في الزراعة طوال العام، إلا أن ذلك مقرون بظهور بعض القواقع والبكتيريا المتسببة في الأمراض نتيجة نوعية نظام الري الدائم.
سياسة حسر المياه
لا يعني السد لإثيوبيا الماء كما كان في حال السد العالي، الذي منع المصريين الجفاف والفيضان، ولا يعني لهم الزراعة فهو يُبنى في الشمال الشرقي ولا يستمر كثيرًا بعدها في أرض إثيوبيا، الذي يعنيه لهم بشكل مباشر مشروعًا قوميًا لإنتاج الكهرباء، 66% من الشعب الإثيوبي لا يتمتع بالكهرباء، ثاني أكبر تعداد سكاني في إفريقيا بعد نيجيريا بواقع 108 ملايين نسمة، كما تطمح إثيوبيا من خلاله إلى التحول إلى دولة مُصدر ة للطاقة النظيفة في شرق إفريقيا.
من المُسلّمات عند اتباع مدرسة الجيوبوليتيك أنه «إذا مرّ نهر ما عبر أراضي أكثر من دولة، فإن الدولة الأقوى بين هذه الدول تعيش في تطلع دائم إلى ضم أقاليم الدول الأخرى بُغية التحكم في المورد المائي»، كذلك كانت مصر في سابق عهدها.
لا يمكن الفصل بين أهمية المشروع من الناحية القومية والسياسة الداخلية، وبين أهمية المشروع في سعي إثيوبيا للنفوذ الإقليمي، فهو يمتاز بطابعه الجيوسياسي، فمن خلاله يمكن التحكم في صناعة القرار في شرق أفريقيا، ويمكن فهمه في إطار سعي السياسة الإثيوبية للتأثير الإقليمي والقاري.
ليكن حال مصر مع إثيوبيا كحال إخوة يوسف معه، قد مسهم وأهلهم الضُر في رجاء أن يوفي لهم الكيل. ملف السد في صورته السياسية هو صراع إقليمي على النفوذ والثقل النوعي، الذي تحرك تدريجيًّا من دول المصب الى دول المنبع، بعد إرث تاريخي بسيادة مصرية على النهر ومشروعاته، ينهي السد هيمنتها على دول شرق إفريقيا.
لذا فإن المعارضة أو الاتفاق مع حق الشعب الإثيوبي في التنمية، يجب أن يراعي الوضع التي ستظل الدولة المصرية فيه حبيسة لفترات وربما قرون تحت رحمة التحكم في ذلك الشريان الحيوي، وارتباطه بوضع سياسي جديد لدول الحوض.
سيناريوهات حل الأزمة
منذ تلويح إثيوبيا برغبتها في بناء السد عام 1979، قامت مصر بإصدار تصريحات تهديد عسكري على لسان الرئيس الأسبق أنور السادات، وفي عهد مبارك أعطت مصر ظهرها لدول أفريقيا خصوصًا بعد محاولة اغتيال مبارك في أديس أبابا. ومنذ 2001 قامت إثيوبيا بالإعلان عن المشروع، ومن أجل ذلك كونت حلفًا تشكل عبر سنين حتى برز في عنتابي أوغندا سنة 2010 بالتقسيم العادل لمياه النيل، وقعت عليه ستة من دول حوض النيل، رفضتها مصر والسودان لأنه يضر بما تراه حقًّا تاريخيًّا بالاتفاق الثنائي بينهما عام 1959م، والذي يقضي بحصة مصر 55.5 مليار متر مكعب و18.5 مليار لسودان.
اقرأ أيضًا: الفراعنة في مواجهة الرافعات: عندما كانت أوغندا ولاية مصرية
أظهرت التسريبات رغبة مصر في بناء قاعدة عسكرية في السودان لمواجهة السد بشكل عسكري، إلا أن الخلاف بين مصر والسودان بسبب مشكلة دعم مصر لجنوب السودان حالت دون إتمام الصفقة. فهل السيناريو العسكري مطروح اليوم؟
الشواهد تشير إلى استبعاده بالرغم من أن له شعبية إلى حد ما، وذلك لعدة أسباب، منها جيوسياسي وآخر عسكري.
فمن ناحية، النظام السياسي المصري حصل على شرعية دولية بشق الأنفس بعد الانقلاب على حكم الرئيس الراحل محمد مرسي، وخطوة كتلك تحتاج لشرعية دولية، ما سيكلف النظام المصري الكثير. ثانيًا وضع السودان الحرج الذي سيعيق أي تحرك عسكري سواء من أرضه، أو باستغلال سمائه.
ثالثًا الكلفة الاقتصادية الباهظة للحرب أو توجيه ضربة قاصمة لأعمال السد، والتي لا يمكن للاقتصاد المصري تحملها في الظرف الراهن، بل إن النظام السياسي قد ينهار في حالة تفاقم النتائج المترتبة على خطوة عسكرية كتلك.
ويجب مراعاة أن عدم استخدام الخيار العسكري حاليًا يعني استحالته فيما بعد، ففي حال بدء ملء السد خلال الأعوام القادمة سيعيق ذلك توجيه ضربة للسد، لأن ذلك سيؤدي إلى كارثة إنسانية في مصر والسودان، حيث من المتوقع الانتهاء من بنائه 2022م بعد رفع فترة إنشائه 5 سنوات أخرى.
الخيار العسكري صعب في الوقت الحالي لكنه ليس مستحيلًا، غير أن القيادة المصرية من الواضح أنها لا ترغب في الإقدام عليه، بالرغم من رواجه شعبيًّا أو في المؤسسات الإعلامية التابعة للدولة.
اقرأ أيضًا : هل لا تستطيع مصر ضرب سد النهضة؟
الخيار التفاوضي كان ولا يزال سلاح مصر الوحيد منذ بداية أزمة السد، ولا يعني ذلك نجاحها فيه، فالثقل النوعي للقاهرة تراجع وأصبح التنازل عن ملفات كترسيم الحدود، والإقرار بمشروعات إثيوبيا مقابلًا للاعتراف الدولي. هذا ما ميز السياسة المصرية في السنوات الماضية.
وبدلًا من سياسة الضغط، استبدلت بها القاهرة سياسة التنازل أكثر، فقد فشلت مصر في إيجاد ضمان للمكاتب الدولية التي تعمل على دراسة الآثار المترتبة على السد، وفشلت في إشراك البنك الدولي بالرغم من دعوتها لذلك، كما فشلت في إشراك الاتحاد الأوروبي كطرف في حل النزاع مع تعنت إثيوبيا قبوله، وهي اليوم تستنجد بالولايات المتحدة الأمريكية التي أصدرت بيانًا بأنها على اطلاع بتلك المشكلة وتتواصل مع الأطراف الثلاث.
طرحت مصر أيضًا اللجوء إلى محكمة العدل الدولية في لاهاي، شرط التحكيم الدولي موافقة الدول المشاركة في ذلك النزاع وبالطبع رفضته إثيوبيا، مع أن المتوقع من الخبراء الحكم لصالحها، في حين أن مشكلة مصر ليست مع السد أو بنائه أو آثاره الممتدة، لكن مع آثار ملء الخزان في مدة قصيرة تتراوح بين 3 و5 سنوات.
ملف الضغط الوحيد للنظام المصري يتمثل في شبح الهجرة إلى أوروبا، وقد ناقش الاتحاد الأوروبي تلك الاحتمالات من قبل، وقد يقبل أن يمارس دور الوسيط والضاغط على الحكومة الإثيوبية لقبول بعض التنازلات حول ملء السد. الأهم أن الحكومة المصرية تتجه لقبول الأمر الواقع، والتعامل مع مشكلات السد، وتعتبر المشكلات المباشرة والأولية هي الأخطر، والتي قد تؤثر على شرعيتها السياسية الداخلية.
اقرأ أيضًا: سيناريوهات التدخل العسكري لحل أزمة سد النهضة
تكيف الدولة أم استبدالها؟
تميز نمط الإنتاج لأغلب الدول التي تعاقبت على مصر حتى العهد الحديث بنمط إنتاج زراعي يعتمد على الري، فقد تحتمت على تلك الدولة إدارة النشاط الزراعي وتسويقه وبيعه أيضًا، كما شكل النيل وسيلة اتصال تجارية هامة في عدة عصور بين أرض الحوض وأرض المنبع، وقد حاولت بعض الدول الفرعونية السيطرة على دول النيل جميعها كما في عهد تحتمس مثلًا.
وجود النيل كان قرين ظهور الدولة المركزية في مصر، فقد كانت شرعية الدولة المصرية دائمًا وأبدًا قائمة بالأساس على قدرة الدولة على تنظيم الري، والتعامل مع ظاهرتي الجفاف والفيضان التي حدثت بشكل متوالٍ على مر العصور. كانت الدولة التي استطاعت تخفيف وطأة تلك الأزمات، وإيصال المياه وتنظيم الغذاء في مواسم الجفاف، هي التي تمتلك الشرعية دائمًا.
وتتمثل المشكلات في مصر بانخفاض مياه الزراعة وربما ضعفها، ما سيتوجب على الدولة التحول إلى الري بالتقطير، وإلغاء زراعة المواد الأساسية في السوق المصري كالسكر المستخرج من القصب والأرز، واللذين يعتمدان على الري بالغمر، والاتجاه نحو الاستيراد، مما سينعش ظهور كارتلات اقتصادية جديدة، سيساهم ذلك في ظهور فئات مصالح مجتمعية جديدة أو تعزيز أخرى في احتكار ذلك السوق، فعلى سبيل المثال، عمدت الدولة لزراعة البنجر بالاعتماد على المياه الجوفية باستثمار إماراتي.
كذلك تتجه مصر لتحلية مياه البحر، ما يعني مزيدًا من القروض ودخول استثمارات أوروبية عملاقة لإنشاء تلك المشاريع، ما يعني أيضًا أن أوروبا القلقة بخصوص الهجرات المتوقعة إليها من جراء الجفاف، ستقامر بدخول مشاريع اقتصادية كبرى جراء وجود ذلك السد. وقد أعلنت الحكومة المصرية نيتها طرح استثمارات في هذا القطاع بواقع 10 مليارات دولار، كما رفعت طاقتها من تحلية مياه البحر من 29 مليون متر مكعب سنويًّا، ليصل إلى 65 مليون متر مكعب.
يفرض عليها شح المياه كذلك إعادة تدوير المياه، حيث رصدت ملياري دولار لتطوير محطات معالجة مياه الصرف الصحي لاستخدامها في المجال الزراعي، ومع ذلك فإن المشاريع التنموية طويلة الأمد، والتي قد تخفف من وطأة مشكلات السد تكاد تكون طفيفة، مع غياب دراسات مكثفة للأثر البيئي قريب المدى وبعيده.
هذه المشاريع تثير التكهنات حول قدرة الدولة المصرية على الاستمرار في شكلها الحالي، خصوصًا مع نمو مستفيدين جدد أكثر ارتباطًا بالمؤسسات النيوليبرالية العالمية، وفي ظل تراجع قبضة الدولة المركزية التي كان النيل يضخ الدماء في عروقها، أما في سياستها الخارجية فيبدو أن مصر بالفعل بدأت عهد التبعية لجيرانها الأفارقة.