في «طرطوف» لموليير: الرياء الديني يتستر بعباءة الفضيلة
«المظاهر قد تكون خادعة». حكمة بالغة يعلمها الكثير، لكن ذلك لا يعني بالضرورة عدم وقوعهم في شرك تصديق الظاهر دون الجوهر في بعض الأحيان. قد يقع البعض فريسة دون وعي منه، لكن هناك من يرتدي عصابة على عينيه فيصبح متخبط الخطى وغير مدرك لما يدور حوله، فيذهب لحتفه راغباً، حتى ولو حاول الكثير تبصرته.
في ملهاة «طرطوف» يجسد لنا موليير، أحد أعمدة المسرح الفرنسي، كيف أن الإيمان الأعمى قد يقود للهلاك، وأن الإيمان الحق يتطلب التفكير وإعمال العقل وعدم تصديق المظاهر الكاذبة التي يستخدمها الكثيرون كرداء للتخفي والتملق للآخرين.
في هذه المسرحية، تتضح لنا نظرة موليير العميقة في حياة البشر الاجتماعية، والتي كان يجسدها باحتراف وبدقة في كل مسرحياته باستخدام لغة غنية وتعابير دقيقة. فهو لم يكن يستخدم الكوميديا من أجل الفكاهة وإضحاك الجماهير فحسب، بل كأسلوب للنقد والسخرية اللاذعة من آفات المجتمع.
ويعتبر موليير (1622-1673) أحد الأعمدة في تاريخ المسرح العالمي، فهو كاتب وممثل فرنسي، حيث كتب ومثّل العديد من المسرحيات المهمة. من أشهر أعماله «الثري النبيل» و«دون جوان» و«مريض رغم أنفه» و«سفاناريل» و«مدرسة الأزواج» و«النفور».
رجل منافق
طرطوف رجل منافق محتال، يتودد في ثوب الرياء الديني إلى أورجون، أحد ضباط الحرس الملكي السابقين، الذي ما يلبث إلا أن يثق به ثقة عمياء فيضع في يده مقاليد القرارات الخاصة بأسرته. وأورجون، المؤمن الساذج الذي يعتقد أنه يتقرب من الله بتقربه من رجال الكنيسة، يستضيف طرطوف التقي وهو يعتقد أن البركة ستحل بالمنزل.
يحظى طرطوف باحترام غير متناهٍ من قِبل كل من أورجون ووالدته السيدة برنل، مما يجعلهم يصدقون كلماته وأفعاله ويضعونها بمرتبة مهمة، ويلجئون لآرائه ونصائحه عند اتخاذ أي قرار يخص أفراد العائلة. لكن ذلك لا يروق لعائلة أورجون، فهم يرون في طرطوف مجرد شخص منافق ومحتال، مما يجعلهم يتكاتفون جميعاً للإيقاع به في فخ، وإظهاره على حقيقته المزيفة أمام أورجون.
ما إن يجلب أورجون طرطوف إلى منزله حتى يبدأ الأخير في التدخل في شئون الأسرة، وذلك بحجة هدايتهم للطريق المستقيم. وتتصاعد وتيرة الأحداث إلى أن يقرر أورجون توثيق الرابطة بينهم بزواج طرطوف من ابنته ماريان، والتي تكون على وشك الزواج بـفالير وتحبه حباً جماً.
هنا تحاول المير، زوجة أورجون، التدخل لمنع هذه المهزلة، فتطلب من طرطوف لقاء تسعى من خلاله إلى إقناعه بعدم طلب يد ماريان. لكن بدلاً من أن يستجيب طرطوف لطلبها يحاول إغواءها. ولما كان داميس، شقيق ماريان، قد شهد كل ما حدث بين المير وطرطوف، حاول أن يخبر الوالد بالحقيقة، لكن أورجون بدلاً من أن يصدق ابنه يطرده من المنزل ويقرر حرمانه من ميراثه، فارضاً في وصية يكتبها أن يعود كل ما يملك إلى طرطوف.
تتوسل ماريان لوالدها أن يسمح لها بالزواج من فالير لكن دون جدوى، وفي نهاية الأمر تتحقق المير من استحالة إقناع أورجون بتغيير موقفه، فتقرر اللجوء إلى الحيلة؛ فتقنع زوجها بالبقاء تحت المائدة فيما تتحدث هي إلى طرطوف. وهكذا يشهد أورجون بنفسه على محاولة المنافق إغواء المير وبالتالي يدرك كل الحقيقة، ولكن بعد فوات الأوان؛ ففي ظل عماه بتقوى طرطوف يتنازل أورجون له بموجب حجة شرعية عن جميع ثروته ليتصرف بها كيفما يشاء.
حين يدرك طرطوف أن أمره قد انكشف يقوم بطرد العائلة من البيت. ولا يكتفي بهذا، بل يبلغ السلطات أن لدى أورجون أوراقاً سرية تخص صديقاً له منفياً لأسباب سياسية. لكن الضابط المكلف بمهمة القبض على أورجون يقبض على طرطوف الذي يتضح أنه ارتكب جرائم شنيعة في مدينة أخرى ويتم سجنه.
تنتهي المسرحية بطرطوف في السجن، فيما يتصالح داميس مع أبيه ويعلن عن قرب زواج ماريان من فالير.
هجاء للرياء الديني
طرطوف هي هجاء واضح للرياء الديني الذي كان سائداً بفرنسا حينها، والذي كان ولا يزال ينخر في عظام كثير من المجتمعات دون هوادة. ولأن موليير استعمل السخرية ضد هذا النوع من الرياء، كانت هناك معارضة عنيفة عند عرض المسرحية للمرة الأولى، حيث أصرّ النقاد على أن المسرحية كانت هجوماً على الدين، لكن موليير أكد بحق أنه كان يهاجم النفاق وليس الدين.
فالملهاة هي بمثابة تجسيد حي للتطرف الديني والإيمان الأعمى، فهي تكتسي بنظرة موليير الساخرة حول النفاق الديني، وقد حقق ذلك معتمداً على شخصيات تدعو إلى السخرية والمفارقة، حيث تنجح شخصية أورجون في تجسيد الإيمان الأعمى الذي يجعل صاحبه ضعيفاً وهشاً وغير قادر على إعمال العقل حتى مع ظهور الأدلة الدامغة، في حين أن المؤمن الحق دائماً ما يفكر في الأدلة بروية وتعقل، دون تحيز أو اندفاع، دون أن يعرض الآخرين للإيذاء.
كوميديا الفكاهة المستخدمة في الملهاة لا تستهدف السخرية من حماقات المجتمع ولكن السخرية من نقاط ضعف الأفراد داخل المجتمع، فينصب التركيز على السلوك البشري الذي ينطلق من «متوسط» مقبول وينحرف باتجاه أقصى في أي من الاتجاهين. وتشتمل التقنية الدرامية في هذا النوع من الكوميديا جزئياً على اختيار سمة إنسانية مهيمنة، ويفضل أن تكون حمقاء أو خطرة، وتطوير تلك الصفة بطريقة مبالغ فيها بإحدى الشخصيات البارزة وتجسيد ذلك في روح هزلية، والمبالغة في الشخصية، كما يتم تجاهل تأثيرات أخرى كالوراثة والبيئة.
الشخصيات الرئيسية
الشخصيات مرسومة جيداً، مما يساعد على تماسك المسرحية، كذلك فالصراع الذي هو روح المسرحية ممتد من البداية للنهاية.
فأورجون وطرطوف شخصيتان متناسبتان على طرفي النقيض؛ أورجون يعبر عن النموذج الساذج الذي يؤمن إيماناً أعمى دون إعمال العقل أو الالتفات لأي دليل. فهو ذلك البرجوازي قصير النظر والعنيد، الذي يمنح ثقته العمياء للمنافق الذي يخدعه، كما أنه الوالد ورمز السلطة ومنبع القرارات في الأسرة، الذي على الرغم من تسلطه على أفراد أسرته، فإنه يتنازل عن هذا الحق لطرطوف منذ مجيئه ويضع بيده قوة وسلطة اتخاذ القرارات، مما يجعل أورجون يظهر بمظهر الأحمق الذي يتنازل عن سلطته لشخص غريب الأطوار.
على الجانب الآخر تقع شخصية طرطوف المركبة، فهو رجل انتهازي ومتمرد ومحتال، يتخذ من إيمانه الزائف زريعة ويستعملها كعباءة تخفي دوافعه عن أورجون الساذج. إنه ذكي بالقدر الكافي لتحقيق أقصى استفادة من فرصه، ويستخدم أي سلاح من أجل كسب كل معاركه وتسديد ضرباته بدقة وإحكام. ذلك المنافق الذي يمكن اعتباره واحداً من أبرز الشخصيات في المسرح الكوميدي، هو تجسيد للتطرف والنفاق في كل المجتمعات في كل العصور.
عرض المسرحية
كتب موليير عدة نسخ من طرطوف وكانت تُمنع بسبب جرأتها الشديدة في إلقاء الضوء على آفات مجتمعية خطيرة، مما جعلها تُحدث عاصفة من الاحتجاج. عُرضت المسرحية عام 1664، ولاقت ترحيباً شعبياً كبيراً قابله احتجاج ساخط كبير من قبل رجال الكنيسة والمرتبطين معهم بالمصالح.
سعى موليير إلى ملاطفة واسترضاء الأساقفة، فأعاد كتابة نص هذه المسرحية، وخفّف من حدة النقد لرجال الدين وغيّر اسمها إلى «المحتال» واسم بطلها إلى بانلوف، لكن ذلك لم يغير من الأمر شيئاً، وعندما عُرضت في مسرح القصر الملكي في أغسطس/آب 1667، منعوا العرض الثاني لها وحظروا نشرها، فضاع هذا النص الذي يتألف من خمسة فصول.
لكن مع ازدياد النقمة وارتفاع الأصوات المطالبة بالحد من تدخل رجال الكنيسة في شئون العامة، لزم الأساقفة الصمت وعُرض النص الثالث للمسرحية، المتداول الآن، بنجاح كبير في القصر الملكي في فبراير/شباط 1669.