البوذية السياسية: الصراع الديني والعرقي في سريلانكا
تشهد سريلانكا خلال السنوات الأخيرة موجة صعود للتيار البوذي المتشدد مما يلقي بظلال سلبية على الأقلية المسلمة التي تشكل عُشر السكان تقريبًا وتعد ثاني أكبر أقلية بعد الهندوس، في حين يشكل البوذيون نحو 70 في المئة من السكان.
وعادة ما تندلع موجات عنف غاضبة ضد الأقلية المسلمة عقب أي حوادث أو خلافات بين أفراد بين أحد أبناء الأقلية وآخر بوذي، فقد يؤدي حادث مروري بسيط كاصطدام دراجة بأحد المارة إلى اندلاع أعمال عنف وحرق بيوت وأسواق على أيدي التجمعات الغاضبة، وقد تنشأ اضطرابات لمجرد سريان إشاعة أطلقها أحد المواطنين عن هجوم إسلامي مزعوم على معبد أو إكراه مواطنين على اعتناق الإسلام بالقوة فتبدأ الجماعات البوذية المتشددة في حشد أنصارها للرد على الهجوم المفترض وهكذا.
ورغم اتخاذ السلطات تدابير لوقف أعمال العنف كنشرها قوات مكافحة الشغب واعتقال بعض المهاجمين وفرض حظر التجوال في المناطق المضطربة للسيطرة على الأوضاع، فإن أبناء الأقلية يتهمون أفراد الشرطة بالتغاضي عن عنف بني جلدتهم والتسامح مع وقوع الهجمات عليهم.
الآخر المكروه
عانت الأغلبية البوذية التي تنتمي إلى العرق السنهالي من التمييز في عهد الاحتلال البريطاني الذي انحاز إلى أقلّية الهندوس التاميل. لذا فإنه منذ استقلال البلاد في عام 1948، اتبع السنهاليون سياسة تمييزية ضدهم مما أجج اضطرابات عنيفة استمرت حتى عام 2009 حينما تمكن الجيش السريلانكي من إخماد التمرد وكسر شوكته. ومنذ ذلك التاريخ، استدار التحريض الطائفي ليستبدل بالهندوس التاميل الأقلية المسلمة التي أضحت تمثل صورة «الآخر» الذي يهدد نفوذ الأغلبية السنهالية.
رغم منح الدستور وضعًا خاصًا للبوذية ومذهب التيرافادا الذي يعتنقه أغلب أفراد الشعب، وعدم تبني المسلمين مشروعًا سياسيًا في سريلانكا فإنه في غمرة التنافس السياسي كان للعامل الطائفي دور في الحشد الجماهيري، وتماهى زعماء قوميون مع قادة دينيين من التيرافادا، واشتدت حدة الحملات الطائفية حتى ظهرت إلى الوجود جماعة «بودو بالا سينا» (القوة البوذية) عام 2012 لتشكل محطة مهمة في مأسسة عمل اليمين البوذي المتطرف، فتم تنظيم حملات ضد الأزياء الإسلامية والذبح الشرعي للطيور والحيوانات ومقاطعة المتاجر التي تقدم أطباق «الطعام الحلال» وغيرها من الأنشطة التجارية للأقلية المسلمة، إلى جانب تنظيم الفعاليات التي تحذر من احتمال زيادة عدد المسلمين وتغيير التركيبة السكانية في الجزيرة رغم أن نسبتهم لا تتجاوز عُشر السكان.
ورغم أن البوذية من أبرز الديانات التي اشتهرت بالسلمية والبعد عن العنف أو إيذاء أي روح وهي سمة تعد جوهر التعاليم الدينية في هذا المعتقد فإن الحركة اليمينية الصاعدة استطاعت حشد الجماهير المتدينة خلفهم في أعمال عنف واسعة النطاق بحيث صار لها أتباع متحفزون للانقضاض فور دعوتهم لذلك.
«دولة سينهالية بوذية»
في عهد الرئيس السابق مايتريبالا سيريسينا تم اعتقال ثيرو، زعيم منظمة القوة البوذية، بسبب نشاطاته المتطرفة لكنه لم يقض في محبسه سوى بضعة أشهر حتى تم الإفراج عنه استجابة للضغط الجماهيري الذي أعقب تفجيرات الكنائس الشهيرة في أبريل/نيسان 2019 التي أسفرت عن مقتل ما يصل إلى 250 شخصًا وأعلن تنظيم داعش الإرهابي مسؤوليته عنها، وكانت نقطة سوداء في تاريخ البلاد إذ انطلقت الحشود الغاضبة تهاجم المسلمين فقد أصبحوا جميعًا متهمين تعرض بعضهم للتهجير القسري على أيدي الغوغاء واكتسب خطاب القوة البوذية مصداقية كبيرة لدى جماهيره وانتعشت حملات العنف والكراهية.
وبعد إطلاق سراح ثيرو، طالب بإسقاط النظام واستبداله بهيئة تمثل هوية الشعب السنهالي. ودعا عضو البرلمان ومستشار الرئيس، الراهب أثورالي راثانا، إلى إقالة وزير واثنين من حكام المقاطعات المسلمين، وبدأ إضرابًا مفتوحًا عن الطعام مهددًا بأنه سيواصل حتى الموت ما لم تتم الاستجابة له، فاستقال جميع الوزراء المسلمين التسعة في الحكومة وحاكما المقاطعتين تجنبًا للتصعيد.
وبعد أشهر قليلة، فاز وزير الدفاع السابق، غوتابايا راجاباكسا، المدعوم من اليمين البوذي في الانتخابات الرئاسية بنسبة 52% من الأصوات متغلبًا على منافسه الرئيسي ساجيت بريماسادا، المدعوم من الأقليات كالمسلمين والتاميل، في نوفمبر/ تشرين الثاني 2019. وفي أول قرار له، عيـّن الرئيس أخاه الأكبر ماهيندا كرئيس للحكومة. وكلا الأخوين تطارده اتهامات بارتكاب انتهاكات حقوقية مروعة ضد أبناء الأقليات.
وقفز العديد من العسكريين المتهمين بارتكاب جرائم حرب إلى مناصب حكومية عليا في ظل حكم راجاباكسا الذي أعطى حماية للمُلاحقين قضائيًا حتى أن شخصًا محكومًا عليه بالإعدام بتهمة القتل العمد يدعى بريمالال جاياسيكارا، سُمح له بالترشح وأدى اليمين الدستورية كنائب بالبرلمان، وصعد نفوذ اليمين البوذي المقرب من حكومة راجاباكسا الذي ينادي باعتبار سريلانكا «دولة سينهالية بوذية» ويهدد بأنهار من الدماء في سبيل تحقيق ذلك الهدف.
وشن راجاباكسي حملة أمنية ضد المسلمين فاعتقل المئات منهم لا سيما قادة الأحزاب السياسية ونشطاء حقوق الإنسان، كما فعل نفس الأمر مع التاميل الهندوس ونظم الطرفان احتجاجات مشتركة للمطالبة بالإفراج عن السجناء المعتقلين من دون محاكمة بتهمة الإرهاب وتحقيق العدالة لضحايا الحرب الأهلية من دون جدوى.
وفي ظل أزمة كورونا نظم المتطرفون احتجاجات للمطالبة بمنع المسلمين من دفن موتاهم الذين لقوا حتفهم في الجائحة وحرقها بدلًا من ذلك بحجة أنّ دفن جثامين المتوفين بالوباء يلوث المياه الجوفية رغم تأكيد منظمة الصحة العالمية أن هذا الأمر غير صحيح، وفي المقابل نظمت الأقلية المسلمة احتجاجات لمنع حرق أبنائها المتوفين بالوباء، لا سيما مع ورود تقارير تتحدث عن حرق أشخاص ليس لهم علاقة بالوباء.
وفي فبراير/شباط الماضية، زار رئيس الوزراء الباكستاني عمران خان سريلانكا، وطالب حكومتها باحترام الطقوس الدينية للمسلمين، واستجاب ماهيندا راجاباكسا وأعلن السماح للمسلمين بدفن موتاهم، لكنّ القرار ألغي في اليوم التالي لتستمر المأساة بسبب ضغوط التيار البوذي المتشدد الذي يوفر دعمًا سياسيًا متينًا للرئيس.
وفي أكتوبر/تشرين الأول الماضي شكل الرئيس راجاباكسا فريق عمل لإعداد مشروع قانون لتأسيس تشريع «دولة واحدة وقانون واحد» الذي يلغي قوانين الأحوال الشخصية لدى المسلمين، ولم يجد لرئاسة فريق العمل هذا سوى ثيرو، زعيم منظمة القوة البوذية المتطرفة.