الإنسان المتدين: التحليل الديني عند إيريك فروم
يعتبر «الدين» من أقدم الظواهر التي عرفتها الإنسانية، وكذلك من أكثرها تعقيدًا وصعوبة في فك رموزها ومعرفة الدوافع الأصلية الكامنة خلفها. وإذا كان يبدو لنا اليوم أن تعريف الدين هو أمر بديهي فإنه بالنسبة للباحث في جذور المسألة ليس بهذه البساطة الخادعة.من هنا تعددت المذاهب والآراء في تعريف الدين أولًا، وفي تحديد دوافعه ثانيًا. ويكمن أهم فرق بين تعريفات الدين المختلفة هو بين من يرجع الدين إلى دوافع إنسانية أصيلة في «الطبع الإنساني»، بحيث أنه سيوجد الدين حيثما وجد الإنسان؛ وبين من يرجعه إلى دوافع ليست نابعة من الطبيعة الإنسانية، مثل الخوف من المظاهر الطبيعية وعدم القدرة على تفسيرها بشكل علمي.ومن الواضح أن الاستمرارية الكبيرة التي يحتفظ بها الدين حتى اليوم تجعل التعريفات التي تصب في الخانة الأولى هي الأرجح. يعرف الفيلسوف الألماني إيريك فروم الدين بأنه:
إن تعريف فروم هذا للدين لا يهدف إلى كشف دافع الدين الأساسي، بقدر ما يهدف إلى تحليل بعض الظواهر وردها إلى أقرب موضوع لها وهو الدين. فليس من المنطقي أن المتدين البدائي قد خلق نظامًا من الفكر والعمل، ووجود هذا النظام هو مرحلة متقدمة من مراحل الدين.وهذا التعريف وإن كان لا يشير بدقة إلى دافع نشوء الدين فإنه يسمح لفروم برد بعض الظواهر إلى الدين على الرغم من أنها تفتقد عناصر مهمة من الظاهرة الدينية المتعارفة مثل الإيمان بإله متعالٍ وبعالم مقدس موازٍ لعالمنا المنظور. من هنا يرى فروم انتشار بعض العبادات البدائية في المجتمع المعاصر. فإذا «خدشنا سطح الإنسان الحديث نكتشف أعداداً لا حصر لها من الأشكال البدائية المتفردة للدين».
من هذه العبادات التي يلتقطها فروم:
- «عبادة السلف»، حيث يرى أنها «إحدى أوسع العبادات البدائية انتشارًا في مجتمعنا وهي لا تبدِّل صورتها إذا دعوناها، كما يدعوها الطبيب النفسي، التعلق العصابي المفرط بالأم أو الأب». وبعد أن يضرب فروم مثالين واقعيين لهذه العبادة يقول: «وهذه الحالة من مركزة المرء حياته حول سلف، وبذله جل طاقته في عبادته، لا تختلف عن عبادة السلف الدينية». [2]
- «الطوطمية»، ومثالها، في نظر فروم، هو:«الشخص الذي يقتصر إخلاصه على الدولة أو على حزبه السياسي». ويرى كذلك أنه إذا أردنا أن نفهم كيف نجحت أنظمة مثل الفاشية والستالينية في أن تتملك الملايين من الناس، المستعدين للتضحية من أجلها، فعلينا أن ندرس الخصيصة الدينية، الطوطمية في توجههم. [3]
- ديانة «التشدد في النظافة». يقول فروم:
- الدين «الصناعي». وهذا الدين «يوجد في الشخصية الاجتماعية الجديدة. ومحوره الخوف من سلطة الذكور القوية والإحساس بالذنب تجاه المعصية وحل روابط التضامن الإنساني بالاهتمام بتفوق الذات وتبادل العداوة». [5]
- دين «التحكم التقني». هناك ما يسميه فروم بـ«شخصية التسويق» وهي شخصية «ترتكز على ممارسة النفس كسلعة، حيث يصبح الكائن الحي بضاعة تُباع في سوق الشخصية، قيمته بقيمة البضاعة، وعلى نوعية البضاعة يتوقف البيع والشراء» [6]. يقول فروم: «لقد جعلنا من الآلة إلهًا خضعنا له، وظننا بأننا أصبحنا آلهة قادرين على كل شيء بالعلم والتقنية، لكن الواقع أثبت أننا صرنا عبيدًا عاجزين عن كل شيء». [7]
إن رد فروم هذه الظواهر للدين يعكس نظرته له على أنه شيء لابد منه لكل إنسان، ولا يستطيع الإنسان الإفلات منه مهما تجلبب بجلباب «العقلانية» و«العلمية». ولكي نفهم هذا جيدًا، ينبغي أن نفهم كيف ينظر فروم للإنسان.إن الإنسان في نظر فروم ليس كائنًا غرائزيًا بل يختلف عن بقية الكائنات في كون الغرائز عنده هي في أدنى مستوياتها والذي قد يصل لانعدامها. وميزة الإنسان هي «نقصان النزعة الحتمية الغريزية كلما ازددنا رقيًا في التطور الحيواني، بالوصول إلى أدنى نقطة في الإنسان، والذي فيه النهاية صفر في سلم الميزان». [8] ويعبر في مكان آخر عن المعنى ذاته جاعلًا من غياب العنصر الغريزي سببًا في ظهور الإنسان فيقول «ويمكن تحديد ظهور الإنسان بأنه حدوث في مرحلة سيرورة التطور بلغ فيها التكيف الغريزي حده الأدنى». [9]إن غياب الحتمية الغريزية وانبثاق وعي الإنسان بعزلته وفرديته حطم جدار وحدته مع الطبيعة. يقول فروم: «لقد بزغ التاريخ الاجتماعي للإنسان ببزوغه من حالة التوحد مع العالم الطبيعي إلى وعي بنفسه كذاتية منفصلة عن الطبيعة والناس المحيطين به». [10]إن هذا الشعور بالوحدة والعزلة يكمن في صلب الظاهرة الدينية كما يرى فروم، سواء الظاهرة الدينية الواضحة أو تلك التي تأخذ أشكالًا أخرى كما أشرنا. «ولأن الحاجة إلى نظام للتوجه والإخلاص جزء جوهري من الوجود الإنساني نستطيع أن نفهم شدة هذه الحاجة. وبالفعل، ليس في الإنسان مصدر آخر للطاقة أقوى منه. وليس الإنسان حرًا في أن تكون لديه أو لا تكون لديه مُثُل، ولكنه حر في أن يختار بين أنواع مختلفة من المُثل، بين أن يكون متفانيًا في عبادة القوة والتدمير وأن يكون مخلصًا للعقل والحب. وكل الناس مثاليون ويجاهدون من أجل شيء يتجاوز بلوغ الإشباع الجسدي. وليست المسألة هل الدين أم لا بل أي نوع من الدين، وهل هو دين يرفد نمو الإنسان، وتفتّح قدراته الإنسانية، أم هو دين يشملها». [11]
يضع فروم تمييزًا أساسيًا بين نوعين من الدين:
-
الدين التسلطي
-
الدين الإنساني
إن مبدأ «الدين التسلطي» هو إقرار الإنسان بوجود سلطة عليّة خارج نفسه وأن «هذه السلطة، بسبب ما تمارسه من السيطرة، تستحق الطاعة والإجلال والعبادة، والعنصر الجوهري في الدين التسلطي والخبرة الدينية التسلطية هو الانقياد إلى سلطان يتجاوز الإنسان. والفضيلة الرئيسية في هذا النمط من الدين هي الطاعة، والإثم الأكبر هو التمرد». وكما تكون السلطة إلهية فقد تكون دنيوية كذلك حيث يكون «الفوهرر» مثلًا هو موضوع العبادة.أما «الدين الإنساني» فإنه يتمحور حول الإنسان وقوته. «والخبرة الدينية في هذا النوع من الدين هي خبرة الوحدة مع الكل، القائمة على اتصال المرء بالعالم كما يُفهم. وغاية الإنسان في الدين الإنساني هي تحقيق القوة الكبرى، لا العجز الأكبر؛ والفضيلة هي تحقيق الذات، لا الطاعة. والإيمان هو يقين اقتناع قائم على خبرة المرء الفكرية والشعورية، لا الموافقة على عروض العارض بالدين المؤخَّر». [12]والملاحظة الأهم هي أن هذا التمييز ليس بين الأديان التأليهية وغير التأليهية. وبين الأديان بالمعنى الضيق للكلمة والأنظمة الفلسفية ذات الصفة الدينية. وليس هناك دين تسلطي بالكامل ودين إنساني بالكامل، فالفيصل هو تجربة الإنسان وشعوره. فقد يكون الدين التأليهي إنسانيًا حيث يكون محوره سعادة الإنسان والوصول به إلى تحقيق كامل لذاته وقدراته، كما كانت الأديان التوحيدية في بدايتها قبل أن تتحول إلى أنظمة قمعية تسلطية. «فما يهم في كل هذه الأنظمة ليس النظام الفكري في حد ذاته بل الموقف الإنساني الكامن في أساس مذاهبها». [13]
- إيريك فروم: التحليل النفسي والدين، ترجمة محمود منقذ الهاشقي، دار الحوار، الطبعة الأولى ٢٠١٢، ص٨٧.
- المصدر السابق نفسه. ص٩٤-٩٥.
- المصدر السابق نفسه. ص٩٦-٩٧.
- المصدر السابق نفسه. ص٩٧.
- إيريك فروم: أن تملك أو أن تكون؟ تعريب وضحاء فخري، بيسان للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، ٢٠١٤، ص١٩٣.
- المصدر السابق نفسه، ص١٩٤.
- المصدر السابق نفسه، ص٢٠٠.
- إيريك فروم: ثورة الأمل، ترجمة مجاهد عبد المنعم مجاهد، دار الكلمة، الطبعة الأولى ٢٠١٠، ص١٠١.
- إيريك فروم: الإنسان من أجل ذاته، ترجمة مجمود منقذ الهاشمي، الطبعة الأولى ٢٠٠٧، ص٧٤.
- إيريك فروم: الخوف من الحرية، ترجمة مجاهد عبد المنعم مجاهد، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، الطبعة الأولى ١٩٧٢، ص٢٧.
- إيريك فروم: التحليل النفسي والدين، مصدر سابق، ص٩٠-٩١.
- المصدر السابق نفسه، ص٩٩-١٠١.
- المصدر السابق نفسه، ص١٠٢