بين الدين والسياسة: لماذا وقعت نكبة ابن رشد؟
يمثل الفيلسوف الأندلسي الشهير ابن رشد حالة فريدة ومحيرة فيما يخص علاقة المثقف بالسلطة، سواء بشكلها الإيجابي أو السلبي. فمن ناحية ساهمت السلطة السياسية (دولة الموحدين في الأندلس والمغرب) في صعود نجمه سريعًا، وفي توظيف قدراته الفكرية على أحسن وجه، لكن في الوقت نفسه هدمت السلطة نفسها مشروعه الفكري في لمح البصر، وبشكل مأساوي.
أصبحت أزمة ابن رشد مع الدولة في عهده، والتي عُرفت باسم «نكبة ابن الرشد»، علامة على بداية اضمحلال الفكر الإسلامي في العصور الوسطى، خصوصًا أن اسم الفيلسوف قد اقترن في الوقت نفسه بانتعاش الفكر الأوروبي المسيحي في نهاية العصور الوسطى وبدايات عصر النهضة.
وعلى الرغم من أن واقعة ابن رشد ليست هامشية في الكتابة العربية، ولا حتى الغربية، فقد كُتب عنها مئات الصفحات وتنازعت حولها وجهات النظر، فإنها تحتفظ حتى اليوم بأهميتها، ليس فقط لما فيها من جانب درامي ومأساوي، ولكن أيضًا لصلتها المستمرة بأزمة واقعنا الإسلامي والعربي حتى اليوم.
أيضًا ليست القضية في كيفية سرد وقائع النكبة فقط، ولكن في طبيعة التساؤلات التي يمكن طرحها عنها، فهي تكشف الكثير بخصوص علاقة المثقف بالسلطة.
الحالة الرشدية – إذا جاز هذا التعبير – أوثق صلة بالحاضر، فعلى الرغم من اختلاف بعض الملابسات والأحداث، فإن جوهرها يتجلى في أزمات الفكر العربي الحديث كما نلاحظ مثلًا في قضية نصر حامد أبو زيد.
تدور المقالة التالية حول تساؤل أساسي: لماذا تعرَّض ابن رشد للنفي وحُرِقت أعماله على الرغم من قربه الشديد من دولة الموحدين؟ هل المسألة – كما هو شائع – تعود فقط لاشتغاله بالفلسفة وتكفيره من بعض الفقهاء في عصره؟
وهل كان ابن رشد محض مترجم ومحقق لأعمال أرسطو منعزلًا عن حال مجتمعه السياسي والاجتماعي، أم أن وعيه الفلسفي ارتبط برؤية سياسية حفزت ضده السلطة في لحظة ما؟
عائلة ابن رشد: ميل للعلوم ودفاع عن العلماء
على الرغم من غزارة إنتاجه في ميادين عديدة، لم يترك لنا ابن رشد أعمالًا تحكي شيئًا عن حياته أو سيرته، وأغلب ما وصلنا هو روايات تلاميذه وكتابات بعض المؤرخين عن حياته من أمثال محمد بن عبد الملك المراكشي في كتابه «الذيل والتكملة».
أبو الوليد محمد بن أحمد بن رشد هو من مواليد القرن السادس الهجري (حوالي 520 هجريًّا / 1126 ميلاديًّا) بمدينة قرطبة الأندلسية، واشتهر في التراث الإسلامي بلقب «ابن رشد الحفيد» تمييزًا عن جده «قاضي القضاة ابن رشد»، وهو من أكبر فقهاء المالكية في تاريخ الأندلس.
مات الجد قبيل ولادة الحفيد بنحو شهر، فسُمِّي المولود الجديد بِاسمه تخليدًا لذكراه. والمعروف عن بني رشد عمومًا اشتغالهم بالعلوم، أو كما يقول المؤرخون: كانوا إلى العلم أميل.
درس ابن رشد في صغره العلوم النقلية، كعادة عصره، وخصوصًا الفقه المالكي وعلوم اللغة وعلوم التفسير والحديث. أما عن علاقته بالعلوم العقلية ومنها الفلسفة، فلا نعرف شيئًا عن كيفية اشتغاله بها في فترة تعليمه. تذكر فقط بعض المصادر دراسته للعلوم الطبية وملازمته لأشهر أطباء الأندلس «أبي مروان عبد الملك بن زهر» في صباه، وهو والد الطبيب الشهير «أبي بكر بن زهر» صديق ابن رشد فيما بعد.
لا تحكي المصادر شيئًا عن علاقة ابن رشد بالفيلسوف الشهير «ابن باجة» – توفي ابن باجة حوالي 533 هجريًّا وابن رشد في الثالثة عشرة من عمره – والذي يعود له الفضل في ذيوع الفلسفة في المغرب الإسلامي عمومًا، وقد تأثر أهم أعلام الفلاسفة في الأندلس بكتبه، وهما: ابن طفيل صاحب قصة «حي بن يقظان»، وصديقه الشاب ابن رشد.
لم يقابل ابن رشد الفيلسوف ابن باجة أبدًا، لكن والد ابن رشد، القاضي أبا القاسم، له الفضل في إنقاذ ابن باجة من السجن وقت حكم المرابطين، فقد تدخل لإطلاق سراحه عندما كان معتقلًا.
وعلى الرغم من علاقة بني رشد القوية بالأسر الحاكمة في الأندلس، سواء في دولة المرابطين أو منافسيهم الموحدين، وتقلدهم لمناصب القضاء، فإن الفيلسوف ابن طفيل هو من لعب دور الوسيط في التقرب الحقيقي لابن رشد من مركز السلطة في زمنه؛ الخليفة الموحدي أبو يعقوب يوسف، كما سنرى.
صعود ابن رشد: السلطة وصناعة الفيلسوف
استطاعت حركة الموحدين بقيادة المهدي ابن تومرت الاستحواذ على الحكم تدريجيًّا من دولة المرابطين، وتحت قيادة عبد المؤمن الكومي – خليفة المهدي – أُرسِيَت دولة الموحدين في المغرب والأندلس أثناء القرن السادس الهجري، وعلى النقيض من المرابطين الذين اضطهدوا أهل الرأي والعلم بدافع من التعصب الفقهي، اهتم الموحدون منذ البداية بإقامة المدارس العلمية وتقدير العلماء.
بلغت دولة الموحدين ذروة مجدها السياسي والثقافي في عهد الخليفة أبي يعقوب يوسف، ابن المؤسس الحقيقي للدولة عبد المؤمن الكومي، وقد عُرف أبو يعقوب منذ صغره بتقربه للعلماء، وحرصه على عقد المجالس العلمية للبحث والمناظرة أثناء ولايته على إشبيلية التي حكمها في عهد أبيه.
جمع أبو يعقوب حوله في إشبيلية نخبة من العلماء والأطباء، وكان أهمهم الطبيب والفيلسوف ابن طفيل، وعندما ورث خلافة الموحدين (558 هجريًّا) توطدت علاقته بالفيلسوف ابن طفيل، ويذكر المؤرخون إقامة ابن طفيل أيامًا في قصر الخليفة.
يذكر عبد الواحد المراكشي في كتابه «المعجب» أن ابن طفيل هو الذي جلب ابن رشد إلى الخليفة أبي يعقوب، ويروي المراكشي على لسان تلميذ لابن رشد حكاية اللقاء الأول بينهما، فبعد ثناء ابن طفيل على علم ونسب ابن رشد، سأله الخليفة سؤالًا مفاجئًا: «ما رأي الفلاسفة في السماء، أقديمة هي أم حادثة؟»
أنكر ابن رشد اشتغاله بالفلسفة خوفًا من الخليفة، ففهم الخليفة الأمر، ثم التفت إلى ابن طفيل وناقشه في تلك المسألة، وظل يذكر آراء أرسطو وأفلاطون، وردود أهل الإسلام عليهم. وفي تلك اللحظة، شعر ابن رشد بالراحة في الكلام مع الخليفة.
إن علاقة الخليفة بالفيلسوف لم تقتصر فقط على المناقشة والثناء، فالمشروع الأهم في المسيرة العلمية لابن رشد جاء في الأساس بطلب من الخليفة، وينقل المراكشي على لسان تلميذ ابن رشد الحكاية برواية ابن رشد نفسه:
تكشف الرواية الثقافة الواسعة للخليفة ووعيه بإشكالية الفلسفة في ذلك الزمان. كانت أعمال أرسطو – وهي الموسوعة الفلسفية والعلمية الأهم في العصور الوسطى – قد ترجمت منذ قرون وحتى قبل ظهور الإسلام على يد النساطرة، وقد نقلها العرب إلى لغتهم في العصر العباسي، خصوصًا في فترة الخليفة المأمون، لكن أرسطو كان أشبه بعنوان عام يجمع تحته العديد من الأعمال المنحولة والترجمات الخاطئة التي شوَّهت منظومة الفيلسوف نفسه.
ومن هنا جاء طلب الخليفة إعادة ترجمة وشرح أعمال الفيلسوف الأهم، وقد اعتذر ابن طفيل عن المهمة لكبر سنه ورشح بدلًا منه الشاب «ابن رشد»، وعلى حد قول ابن طفيل: «وإني لأرجو أن تفي به لما أعلمه من جودة ذهنك وصفاء قريحتك وقوة نزوعك إلى الصناعة (يقصد الفلسفة)».
ويعلق ابن رشد في ختام الرواية قائلًا: «فكان هذا الذي حملني على تلخيص ما لخصته من كتب أرسطوطاليس».
تكشف الرواية كيف يمكن أن توجه السلطة السياسية مجهود المثقف لبناء مشروع فكري حقيقي، فترجمة أعمال أرسطو على يد ابن رشد هي واحدة من أهم اللحظات الفارقة في تاريخ الفكر الإنساني، لما لعبته تلك التراجم من دور مهم في حفظ التراث الفلسفي القديم.
ومن ناحية أخرى، ساهمت تلك التراجم عند وصولها إلى أوروبا في القرن الثاني والثالث عشر الميلادي في إصلاح التعليم الأوروبي وقتها، وفي نشأة تيار «الرشدية اللاتينية» الذي لعب دورًا خطيرًا في تحرير الفلسفة والعلم من قبضة الكنيسة قبيل عصر النهضة.
مفارقات نكبة ابن رشد
انتهت فترة حكم الخليفة أبي يعقوب باستشهاده في معركة استرجاع مدينة شنترين الأندلسية من ملك قشتالة عام 580 هجريًّا، وتولى ابنه المنصور حكم دولة الموحدين بعد ذلك، وفي نهاية حكم المنصور – استمر حكمه 15 عامًا – وقعت محنة أو نكبة ابن رشد.
يذكر أغلب المؤرخين قديمًا وحديثًا أن علاقة ابن رشد بالخليفة الجديد المنصور كانت قوية، وحظي في عهده بمكانة كبيرة كما كان الأمر في عهد أبيه. لكن تلك الشهادة الثابتة عند أغلبية المؤرخين تزيد من تعقيد المسألة، فإذا كان ابن رشد قريبًا إلى هذا الحد من الخليفة، فلماذا حدثت النكبة؟
تذكر المصادر القديمة العديد من الأسباب لنكبة ابن رشد، ولا نجد فيها إجماعًا على سبب محدد.
السبب الأول هو واقعة الزرافة: فقد قيل إن ابن رشد قد وصف الزرافة في كتابه الحيوان قائلًا: «وقد رأيتها عند ملك البربر»، وهو الوصف الذي أغاظ الخليفة، فغضب على ابن رشد وأبعده لوصفه بملك البربر.
لكن ابن رشد ألف كتاب الحيوان في الأساس سنة 565 هجريًّا، أي قبل تولى المنصور الخلافة بست سنوات!
أما السبب الثاني، وهو الأكثر شهرة، فهو نقل ابن رشد في بعض كتبه عن فلاسفة اليونان: «قد ظهر أن الزهرة أحد الآلهة»، ومن غير معقول أن أحداث النكبة التي جرى فيها محاكمة ابن رشد في المسجد في حضور الخليفة، والحكم عليه بالنفي لقرية يهودية وحرق جميع كتبه في الدولة، تعود فقط لذلك الاقتباس العادي والمتكرر في الكثير من كتب التراث الإسلامي قبل ابن رشد وبعده، كما أن القاعدة الفقهية الشهيرة تقول: حاكي الكفر ليس بكافر.
من الواضح أننا أمام تخمينات من اللاحقين لتفسير النكبة، ولكي نحدد الأسباب الفعلية لها لا بد في البداية من إعادة التفكير في حقيقة الخليفة الجديد وعلاقته بالفيلسوف.
فهل كانت حقًّا علاقة ابن رشد بالمنصور طيبة ووطيدة كما يؤكد المؤرخون؟
شرعية الخليفة: لعبة الدين والسياسة
كان المنصور حاضرًا لحظة استشهاد أبيه في معركة شنترين، وقد أخفى المنصور خبر وفاته حتى يستطيع ترتيب الأمور لسيطرته على الدولة وفرض نفسه على إخوته خصوصًا، ويحكي المراكشي في المعجب السبب: «وكان له من إخوته وعمومته منافسون لا يرونه أهلًا للإمارة لما كانوا يعرفون من سوء صباه».
لم ترحب الأسرة الحاكمة بصعود المنصور للحكم، وظلت العلاقة متوترة حتى عام 583 هجريًّا، عندما هُزم جيشه في تونس أثناء مطاردته لفلول المرابطين.
بدأ البعض من الأسرة الحاكمة – عمه أبو الربيع وأخوه أبو حفص – في التحرك ضده أثناء حربه في تونس، فعاد سريعًا وأمر باعتقالهما وإعدامهما على الرغم من طلبهما العفو، بل أمر بإعدام كل معاونيهما مما سبب موجة عارمة من الغضب في الأسرة الحاكمة.
وفي عام 587 هجريًّا، أصاب المنصور مرضًا شديدًا في مراكش، فتحرك ضده أخوه أبو يحيى والي قرطبة، وجمع التأييد لتنصيبه خليفة بعد وفاة المنصور الوشيكة بسبب المرض. وعندما استعاد المنصور صحته، استدعى أخاه وأعدمه على الفور.
أدرك المنصور حاجته إلى قوة جديدة تدعم حكمه السياسي، ولافتقاده لقوة القبيلة ورجال الدولة لسخطهم عليه، قرر المنصور الاستعانة بقوة بديلة، فلجأ إلى «الصالحين والمتبتلين وأهل علم الحديث»، على حد قول المؤرخين.
من الواضح أن المنصور قد أدرك قوة سلاح الدين كداعم لحكمه السياسي، كما فعل المرابطون من قبل، لكن القوة الجديدة المتمثلة في رجال الدين بدلت طبيعة دولة الموحدين الثقافية التي أرساها أبو المنصور، وعلى حد قول محمد عابد الجابري في دراسته الشيقة عن «ابن رشد»:
ويصف صاحب المعجب الحال الثقافي للدولة في عهده قائلًا: «وفي أيامه انقطع علم الفروع وخافه الفقهاء، وأمر بإحراق كتب المذهب المالكي، وتقدم إلى الناس في ترك الاشتغال بعلم الرأي والخوض فيه».
أما ابن رشد فلا نكاد نسمع عنه شيئًا في زمن المنصور، ما عدا وقائع النكبة الشهيرة في نهاية عهد الخليفة. لكن يذكر ابن أبي أصيبعة في «عيون الأنباء» رواية تكشف الكثير عن طبيعة علاقة الخليفة بالفيلسوف: «كان ابن رشد متى حضر مجلس المنصور وتكلم معه أو بحث عنده في شيء من العلم يخاطب المنصور بأن يقول له: تسمع يا أخي».
إذن من الواضح أن ابن رشد لم يكن راضيًا على مواقف المنصور السياسية والثقافية معًا، ويبدو أن المنصور كان يحمل في داخله ضغينة لابن رشد لمقاطعته الدائمة للخليفة وعدم توقيره بشكل كافٍ.
وأقرب تفسير لميل المؤرخين لوصف العلاقة بينهما بالمودة والقرب يعود فقط إلى طبيعة مكانة ابن رشد التي اكتسبها في عهد الخليفة السابق أبي يعقوب، ولأن مدة حكم المنصور كانت صغيرة فلم تجرِ الكثير من الأحداث بينهما حتى حدثت النكبة.
تعود بنا تلك الحالة الملتبسة إلى تساؤلنا الأساسي: ما السبب الحقيقي لنكبة ابن رشد؟ وما موقفه الفكري مما جرى من تغيرات في عهد المنصور؟
الضروري في السياسة: الفيلسوف ودولة الغلبة
تذكر بعض المصادر أن من أسباب النكبة «اختصاص ابن رشد بأبي يحيى أخي المنصور»، وقد ذكرنا سابقًا أن أبا يحيى قد حاول جمع التأييد له من أعيان الأندلس والمغرب ليتولى الخلافة أثناء مرض المنصور. وعلاقة ابن رشد بأبي يحيى قديمة، فقد تولى حكم قرطبة في عهد أبي يعقوب بتدخل من ابن رشد نفسه.
يقدم المفكر محمد عابد الجابري في أبحاثه العديدة بخصوص ابن رشد طرحًا فريدًا بخصوص النكبة. إن علاقة ابن رشد بأبي يحيى هي السبب الخفي للنكبة، ودليل الاتهام هو كتاب ابن رشد المنسي: «الضروري في السياسة – مختصر كتاب السياسة لأفلاطون».
فعندما تخلص المنصور من أخيه قدم وفد من أتباع المنصور حاملًا إليه دليل اتهام ابن رشد، ولا تكشف المصادر بدقة عن طبيعة الدليل. وبعدها بعام كان المنصور قد عقد مجلسًا في الجامع لمحاكمة ابن رشد انتهت بنفيه إلى قرية أليسانة، وفُرضت الإقامة الجبرية عليه، ثم أصدر المنصور بيانًا في أرجاء الدولة بإحراق كتب ابن رشد.
يبدو أن الوفد كان يحمل خصومة فكرية وشخصية مع ابن رشد، فاستطاع تحريض الخليفة بسهولة لأنه على عكس والده كان أقرب إلى الأصوات المتعصبة دينيًّا في الدولة، لكن الأمر لا يتوقف عند حدود علاقة الدين بالفلسفة فقط، بل علاقتها أيضًا بالسياسة.
من المعروف أن ابن رشد قد اشتغل على كتاب الضروري في السياسة لسبب علمي وعملي معًا. فقد فتش كثيرًا عن نصوص أرسطو السياسية حتى ينهي مشروعه بترجمة وشرح منظومة الفيلسوف كاملة، لكنه لم يعثر على أي مخطوطة لكتاب السياسة لأرسطو.
لجأ ابن رشد إلى «جمهورية أفلاطون» ليسد النقص في باب الفلسفة السياسية، لكن المثير في الأمر هو ربط ابن رشد بين عملية ترجمة وشرح الكتاب وبين واقعه السياسي وقتها.
يذكر الجابري ملاحظة مهمة توضح ارتباط الكتاب بواقع ابن رشد ودولة الخليفة المنصور، حيث يخاطب ابن رشد في الكتاب شخصية سياسية مهمة بقوله في الخاتمة: «أعانكم الله على ما أنتم بصدده وأبعد عنكم كل مثبط بمشيئته وفضله»، ولا يمكن أن تكون شخصية المنصور هي المقصودة لما في الكتاب من نقد غير مباشر لنظامه السياسي.
وإذا ربطنا بين ذلك وبين ما ذكره بعض المؤرخين لسبب النكبة الحقيقي وهو اختصاص ابن رشد بأبي يحيى أخي المنصور، نستنتج أن ملف الاتهام كان يحوي نصوصًا من ذلك الكتاب الذي ظل مجهولًا حتى العصر الحديث، ولم يترجم إلى العربية إلا مؤخرًا من ترجمة عبرية وحيدة.
يقول الجابري بصدد تلك المسألة: «لم يحاكم ابن رشد ولم تصادر كتبه ولم تحرق بسبب الدين، الذي اتخذه خصومه غطاءً، ظلمًا وعدوانًا، كما جرت بذلك عادة المستبدين وسدنتهم، وإنما حوكم بسبب هذا الكتاب الذي أدان فيه الاستبداد».
ينتقد ابن رشد في الكتاب الوضع السياسي في زمنه بشكل مباشر، فنراه يكرر عبارة «في بلدنا وزماننا هذا»، وهو نقد لا يتفق إلا مع دولة المنصور خصوصًا، يقول ابن رشد عند حديثه عن «مدينة الغلبة» – الدولة المستبدة – نقيض الدولة الفاضلة:
«وليس الأمر كذلك في مدينة الغلبة؛ إذ لا يطلب السادة فيها للعامة غرضًا، وإنما يطلبون أغراض أنفسهم وحسب … كما هو الحال في الأجزاء الإمامية الموجودة في المدن الحاضرة في أيامنا هذه».