الدين.. تجربة فردية أم رابطة اجتماعية؟
غالبا ما توصف المقاربات الحداثية للدين بأنها مقاربات اختزالية، بمعنى أنها دوما تعتبر «الدين، متغيرة قد يتم تفسيرها على ضوء متغيرات أخرى -المجتمع، علم النفس، علم الاقتصاد- كما لو أن الأديان لا تتمتع بكيان رمزي خاص بها»[1]، ولا يرجع هذا فحسب لرغبة العلوم الإنسانية في تحقيق صرامة منهجية شبيهة بتلك التي طورتها علوم الطبيعة الحديثة، مما يدفعها لاختزال الظواهر محل الدراسة لجوانبها القابلة للتكميم ونفي كل جانب فيها يحتاج مقاربة مختلفة.
بل يرجع أيضا وفقا لــ«جان بول وليم» إلى أن آباء علم الاجتماع كانوا غالبا رجال أخلاق يحاولون إعادة بناء نظام أخلاق اجتماعي بعد التصدع الذي أصاب هذا النظام بفعل الثورات الصناعية والسياسية، مما يعني أن دراستهم للدين لم تكن بالأساس محاولة لاكتشاف أبعاده الرمزية بقدر ما كانت تساؤلا حول مصير الدين ومصير الأخلاق، و تساؤلا حول إمكانية تأسيس أخلاق بلا دين بعد انكشاف الأخير في رأيهم عن وهم وعن ارتباط جذري بالأخلاق كذلك.
وهذا الدمج بين الأخلاق والدين راجع لكونهم قصروا دراساتهم للدين على مجتمعات يستوعب فيها الاجتماع الظاهرة الدينية، فيتطابق فيها المقدس مع الحرام، أي المجتمعات «الطوطمية» التي تم اعتبارها أكثر المجتمعات بدائية[2]. في هذا السياق اعتبر «دوركايم» الدين بعدا باطنيا للمجتمع، تتمثل وظيفته في إحلال النظام والانسجام بين أفراده.
يعد «ماركس» أيضا من هؤلاء الذين أولوا الاهتمام الأكبر للجانب الاجتماعي من الدين. فقد اعتبر ماركس أن وظيفة الدين هي وظيفة اجتماعية بحتة تتمثل في تغييب الفئات المطحونة و تحقيق سعادة وهمية لهم مما ينتج عنه تحقيق الاستقرار للأنظمة الاجتماعية القائمة وتأبيد لتراتبها الطبقي. كذلك اعتبر «توكفيل» أن الدين هو ما يحمي مجتمعا ما من التفكك عبر تقديمه عقائد جاهزة من مصدر واحد للجميع، فهذا الأساس الديني المشترك هو ما ينمي لدى كل فرد روحا عامة، ويخلق المسؤولية الاجتماعية، وبناء على هذا، جعل توكوفيل الدين أساس للديموقراطية الأمريكية.
قصر الدين على بعده الجماعي، وقصر وظيفته على الدمج والربط أو خلق التماسك بين اللحمة الاجتماعية وتبرير التفاوت أو المساواة، لم يقتصر فحسب على مقاربات علماء الاجتماع الذين ذكرناهم، بل تعداها إلى مقاربات علم النفس. فالجهد الذي أولاه «فرويد» مثلا لدراسة الدين هو جهد يندرج في إطار علم النفس الجماعي لا الفردي، فهو لا يريد بحث وقائع الخبرة الدينية عند الفرد بقدر ما يبحث عن تحديد الوظائف الاجتماعية والحضارية التي يقوم بها الدين.
فالدين عند فرويد هو مصدر «الطابوهات» الأخلاقية وهو خالق «الأنا» الأعلى وهو الذي يعطيها أهم محتوياتها (عقدة أدويب). لذا فإننا نشهد عند فرويد نفس ما أسماه جان بول ويليم في قراءته دوركايم بتناقض المقاربة الدوركايمية، أي التناقض بين تقليص الدين عبر تحويله لضابط اجتماعي من ناحية، ومن ناحية أخرى التأكيد على أهميته الشديدة كضابط وحيد وبالتالي القلق من غيابه.
ففي كتابه «مستقبل وهم» يرى فرويد أن الدين ورغم أنه محض وهم مرتبط بطفولة بشرية، إلا أن له دورا حقيقيا في خلق الحضارة عبر كبت الغرائز وأن تجاوز الدين مرتبط بتجاوز هذه الطفولة إلي الرشد وإلا كان غياب الدين في هذه الحالة مدمرا للحضارة.
كل هذا يعني أن أغلب المداخل الحداثية للدين كانت تتميز بإيلاء الأهمية الكبرى للجانب الاجتماعي من الدين حتى لو كانت في أصلها معنية بالفرد مثل علم النفس. ولو أضفنا لهذه المقاربات حقيقة أن الفلاسفة الذين بلوروا تصورا عن دين طبيعي قد اهتموا في هذا الدين بجانبه العمومي فحسب حين عمدوا إلى الأخلاق الكلية فطابقوها بالدين ليخلصوه من كل طابع سري أو قلبي أو فردي، فإننا نخرج بنتيجة مفادها أن المقاربة الحداثية للدين كانت في مجملها مقاربة عمومية وعقلانية تولي الاهتمام للجوانب الخارجية منه القابلة للقياس والتعميم وخلق اللحمة وتتنكر للتجلي الفردي اللاعقلاني الباطني التفكيكي له[3].
لكن هذا لا يمنع من أن التأكيد على الجانب الفردي غير الجماعي، والقلبي غير العقلاني، والشخصي غير العمومي، التفكيكي لا الدمجي للدين، هو أمر لم ينقطع حتى في أكثر فترات انتصار العقل واتجاهه لتحديد مناهجه و تأسيس نسقه الكبرى واختزاله الظواهر لجوانبها العمومية التي يستطيع العقل رصدها.
فقد أولى «باسكال» المعاصر لـديكارت -إمام العقلانية- أهمية كبرى لقانون القلب على حساب قانون العقل. كذلك أعلن «روسو» في عز انتصار الموسوعيين عن رذيلة العلم المدمر لحسياسيتنا وديننا وانجرافنا العاطفي. ثم لما تتالت إنجازات الثورة الرومانسية وبزوغ الفرد، بدأ الحديث عن مقاربة واضحة تحتفي بالجانب الفردي/القلبي/الحركي من الدين، حيث أن الرومانسية تقوم على ضرورة الإرادة وغياب البنية وتأكيد الفرد في مقابل تصورات الجماعة[4] كما يرى «ايزيا برلين».
في هذا السياق حاول شليماخر -الذي احتفى من منظور روحاني برواية «لوسيندة»، إحدى آيات الفن الرومانسي الايروتيكي- التأكيد على أن الدين هو التجربة الفورية المثقلة بالوجود والأفعال الكونية[5]، وأنها تجربة جوهرها الفردية والانعزال، بعيدة عن الاستدلال العقلي، وتحدث في خطابه إلى المثقفين المحتقرين للدين عن الخطوط التي تفصل الدين عن الميتافيزيقا العقلية والأخلاق.
وفي محاجاته ضدهم لا يستخدم شليماخر قواعد استدلال عقلية قطعا بل مركب من تعابير خطابية ومجازات من أجل التأثير في مخاطبيه وإعانتهم على إدراك هذا الاشتياق والتلهف للقوانين الروحية الأبدية للطبيعة والكون. وقد مهدت مقاربة شليرماخر هذه لأن يركز أوتو -وريثه المباشر- على تجربة تجلي المقدس للفرد باعتبارها تمثل جوهر الدين، وهي تجربة لا عقلانية، تجعل المرء -فيما يقول إلياد- يعتبر كتاب أوتو كتابا عاطفيا رغم تعقده وغناه.
ولو حاولنا إيجاد ممثل نموذجي لهذه النزعة الفردية اللاعقلانية فوق الأخلاقية للدين، فإن أنظارنا تتوجه فورا لـكريكجارد، خصوصا لو قارنا تصوراته عن الدين والأخلاق بتصورات «كانط» التي تمثل قمة التعبير العقلي العمومي الأخلاقي عن الدين. ويمكن إجراء المقارنة بين تصور كل منهم للدين عن طريق مقارنة موقف كل منهما من قصة إقدام إبراهيم على ذبح إسحاق.
فكانط، وانطلاقا من إيمان بأخلاق عمومية تقوم على مبادئ الكلية والضرورة وتعتبر أن أول قاعدة أخلاقية هي افعل بحيث يصلح فعلك لأن يكون قاعدة عامة، يدين تماما هذه القصة ويعتبر أن العقل العملي الأخلاقي هو القيم على خيرية أفعال النصوص الدينية لا العكس، فهذه الأخيرة لا تمثل سوى أخلاق ذاتية، وهذا العقل الأخلاقي العملي هو طريق كانط لترجيح فرضية وجود إله أخلاقي بعدما نفى قدرة العقل النظري على البرهنة على وجوده.
أما كريكجارد فيعتبر أن إبراهيم في إقدامه على ذبح إسحاق يمثل نموذج لفارس الإيمان، هذا الذي يقف فوق سماء الأخلاق العمومية والعقلية الكانطية ليواجه -وحيدا- الله ذاته، و يقوم عبر استبطان فرديته ومواجهة المفارقة اللاعقلانية باللقاء بالأبدي بإدراك عمق الدين الذي يتجاوز العقلين النظري السابق لكانط والعملي الكانطي، مما يجعل كريكجارد يعتبر أن حياة الإنسان تمر بثلاث مراحل ليست الحياة الخلقية العقلية سوى مرحلتها الثانية السابقة للمرحلة الأعلى والأسمى أي المرحلة الدينية الخاصة بالمستثنين الرافضين أخذ استراحة في الكلي والعام، مما يعني أن كريكجارد أسس لانفصال حاد بين الدين من جهة والعقل والمجتمع والأخلاق من جهة أخرى، فقد صار الدين مع هذا الدنماركي لاعقليا وفرديا له منطقه الأخلاقي -أو اللاأخلاقي- الخاص.
لكن هذا التناقض بين الرؤيتين الاجتماعية والفردية للدين لم يكن ليدوم دون محاولة لتجاوزه وإيجاد صيغة ما للتوافق بين هذين البعدين، وهذا لأن اقتصار الدين على أحد هذين البعدين قد يضيع في حقيقة الأمر أي فائدة للدين. فالاقتصار على الجانب الفردي والتخلص التام من كل البنى الرمزية والطقسية التي يوفرها دين الجماعة قد يؤدي بالأفراد لتجربة ساحقة كما يرى يونج[6] تفقدهم أي أمل في سلام أو غبطة.
غير أن المبالغة في الجانب الجماعي للدين هو أيضا له خطورته حيث يمكن له أن يفرغ التجربة الدينية من حركيتها وحميميتها وفرديتها عبر استلابها في أنساق معدة سلفا تحدد طريقة مثلى في لقاء المقدس، مما يحتم ضرورة الوصول لصياغة ما توفر بلورة مناسبة لهذا الجدل، ونستطيع أن نعتبر برجسون وتيليش من أهم من قدموا محاولات للتوفيق بين فردية الدين وجماعيته.
الحركة عند «برجسون» والشك عند «تيليش»
يرى برجسون أن الدين إما أن يكون سكونيا أو متحركا. والدين السكوني مهمته حفظ توازن المجتمع من خطر التفكك الذي قد ينتج من تزايد معدلات الفردنة، وكذلك من خطر غياب منظومة من العقائد تستطيع إنقاذ أفراد المجتمع من التفكير في بعض الحقائق المفزعة مثل حقيقة الموت، هذه العقائد توفرها الوظيفة الخرافية التي تخلقها الغريزة في عمق العقل نفسه.
لكن، ورغم هذه الأهمية التي يعطيها برجسون للدين السكوني أو الجماعي في حفظ توازن المجتمع، فإن هذا الدين لا يمثل المرتبة الأسمى عند برجسون، فالمرحلة الأسمى عنده هي الدين المتحرك القائم على تواصل حر ومباشر مع المبدأ الحيوي الخلاق للوجود، وهو فعل لا يقوم به سوى بعض الممتازين، مثل المتصوفة.
ورغم أنه قد يبدو لوهلة أن برجسون يقصد أن يقوم التوفيق بين بعدي الدين الفردي والجماعي عن طريق قصر الأول على فئة ممتازة والثاني على العوام وهذا شبيه بالوضع الذي وصل إليه بعض فلاسفة المسلمين مثل «ابن رشد» أو متصوفيهم مثل «الغزالي»، إلا أن هذا ليس صحيحا، فبرجسون يرى أن التدينين شديدي الأهمية لبعضهما حيث «لا يذيع الدين الحركي دون صور ورموز تقدمها له الوظيفة الخرافية الخاصة بالدين السكوني»[7].
وإذاعة هذا الدين الحركي المراد منها حماية الدين الجماعي من الانغلاق، مما يعني أن الانسجام بين الدين الجماعي «السكوني» والفردي «الحركي» يقوم عند برجسون على دب الحركة داخل الدين الجماعي نفسه وإنقاذه من الانغلاق عبر تواصلات فردية مع مبدأ الوجود لا تنعزل في صومعتها بل تعمل على إعادة صياغة الدين الجماعي باستمرار وتأسيس الحركية داخله.
قريبة من محاولة برجسون محاولة الألماني تيليش، مع الاختلاف في قيام التفريق بين الفردي والجماعي عند الأول على الحركة، في حين يقوم التفريق عند الثاني على الشك. فلأن تيليش يعرف الإيمان بكونه الانشغال بموضوع هم إلي أقصى حد، ما يجعل الإيمان ذاتيا وموضوعيا، ذاتيا من حيث فعل الإيمان نفسه وما يخالجه من مشاعر، وموضوعيا من حيث اختيار موضوع لهذا التعلق الأقصى.
فإن تجربة الإيمان عنده تنطوي على شجاعة المخاطرة[8]، حيث تضطلع فيها الذات بتعيين موضوع تعلق عليه همها الأقصى. ولكوننا قد نقع في خطأ يجعلنا نتعلق بموضوع زائف أي موضوع لا يستحق أن يكون موضوعا لهمنا الأقصى، فالشك يعتبر جزءا طبيعيا من تجربة الإيمان هذه، وهو شك دائم و غير منقطع حيث نحيا هذه المخاطرة باستمرار.
ويرى تيليش أن التدين الجماعي المتمثل في الكنائس يحرم هذا الشك من منطلق كونه ضد الإيمان، حيث لا يعترف هذا التقليد بالشك كجزء من تجربة الإيمان بل كشيء سابق عليها أو مدمر لها، وهذا يرتبط بوضع خاتم الأبدية على تلك العقائد وتحويلها لقوانين إيمان مطلقة، من هنا فقط يصبح الشك كفر وتدمغ كل محاولة لتجاوز شيء من العقيدة الراسخة بكونه هرطقة. «فلكي تكون هناك هرطقة، يجب أن تكون هناك مبادئ إيمانية أوصى بها إله واحد يكشف للناس بفضل إرادته كلية القدرة، أسس الإيمان» كما يقول ويتلر[9].
لذا فوفقا لتيليش، فإن الحل للتوافق بين الدين الجماعي والفردي أو الحركة والثبات، الذي يستطيع إنقاذ الدين من التحجر والأفراد من الفراغ الكلي في آن، هو إدخال الشك في صلب العقيدة القويمة ذاتها بالتفريق بين موضوع الهم الأقصى ورموزه، بمعنى اعتبار أن عقيدة مرحلة ما هي مجرد تعبير رمزي لا يستنفد موضوع الهم الأقصى مما يحتم ضرورة التشكيك المستمر الفردي والجماعي بها كوسيلة وحيدة لتطوير وعينا بموضوع إيماننا الأقصى، بل لتجنب خطر الوقوع في الوثنية عبر تخيل استيعاب الرمز لله.
ويوظف تيليش بذكاء منقطع النظير فكرة صلب المسيح في رؤيته هذه، فيعتبر أن صلب المسيح (الكلمة) هو صلب لرمز موضوع الهم الأقصى، وأن هذا الصلب الذي يمثل جوهر الإيمان المسيحي لا يعني سوى فتح تجربة الإيمان على الشك والحركة والنفي الدائم كجزء أصيل منها في تجليها الفردي والجماعي، بهذا يصبح من الطبيعي التعايش بين بعدي الدين، فيصبح بمقدور الجماعة المؤمنة بلورة معتقد يمثل همها الأقصى مصاغ عبر أسطورية قابلة للتهشيم[10] و يصبح كذلك بإمكانها استيعاب تشكيك الأفراد ومعاناتهم الدينية الفردية كمحرك لدين الجماعة لا كضد له.
في الواقع، في الإسلام
لا شك فإن واقع الإسلام اليوم وبعد تعرض كل الأنساق للاهتزاز بعد واقعة الثورة، والرغبة في تأكيد فردية الفعالية الدينية، وتزامن هذا مع اهتزاز شرعية المؤسسات الساهرة على حماية معتقد إسلامي قويم، بل الشك في إمكانية وجود نمط قويم معد سلفا يستطيع تأطير الفعاليات الدينية، كل هذا يخلق قدرا كبيرا من التنافر بين الفرد والجماعة ويهدد بانسحاق الفرد إما عبر تجربة فردية دينية ساحقة كالتي تحدث عنها يونج، أو عبر نفي فعاليته عن طريق دمجه في تصورات سابقة عليه، فضلا عن خطر تأبيد ما ليس أبديا وتجميد الجانب الجماعي من التدين مما يؤدي لتجذير الصراع لا لحله. لذا فالسؤال عن إمكانية الوصول لصياغة مناسبة لهذا الجدل في الإسلام هو سؤال راهن و ملح.
بالطبع كون الإسلام مثله مثل اليهودية والمسيحية، دينا يقوم على كشف إلهي للحقائق الإيمانية، كذلك وانطلاقا من كون المعتقدات الإسلامية مثلت عبر تاريخ الأمة أساسا لربط المجتمع، فإن التنافر الذي شهدته بين الدين الفردي والجماعي بل بين الجماعي والجماعي ليس جديدا، فعبر هذا التاريخ نجد كل فرقة تعلن عن عقائدها كعقائد مطلقة ونهائية وتدمغ بقية الفرق بالبدعة، فضلا عن الأفراد المدموغين بسبب تصوراتهم الفردية للدين بالكفر أو الزندقة -أو من قرروا الانعزال بتصوراتهم المضنون بها على غير أهلها-.
وقد حاول خطاب الإصلاح في أواخر القرن التاسع عشر تجاوز هذا الصراع، فكان حل التنافر يقوم على صياغة عقيدة منتقاة من عدد من المذاهب بسيطة بما يكفي وشاملة بما يسمح لدمج أكبر عدد من الفرق، وكذلك بما يكفي للسماح بحرية الحركة تحت هذا السقف الواسع، وهذا الحل نابع من رفض خطاب الإصلاح إجراء أي تعديل على العقيدة يشابه ما جرى على التشريع.
فبينما قبل أئمة الإصلاح «أرخنة» بعض التشريعات القرآنية في مقابل تحرير غاياتها، لم يقبلوا من نفس المنطلق أرخنة الصياغة القرآنية للعقائد في مقابل تحرير الله، ولم يكن هذا ليتم إلا مع تبلور أساس فلسفي لرؤية تاريخية للنص، والتي تؤرخن -فيما تؤرخن- العقائد، وتستعيد قيمة النفي كقيمة مركزية في الإسلام.
فالإسلام دين يقوم على نفي أحقية كل الآلهة في أن تكون موضوعات للهم الأقصى، ولو كان الإسلام انتقل من النفي إلى الإثبات فصاغ عقيدة ما باعتبار أن صياغة العقيدة جزء رئيس من الدين الموجه للجماعة كما تحدثنا، فإن عمقه كدين توحيدي رافض للتوثين لا للأوثان، بمعنى أنه رافض لأي استنفاذ أو استيعاب لموضوع همه الأقصى، يجعلنا وانطلاقا منه هو ذاته ننفي أي إطلاقية لصياغته للعقيدة، بدلا من هذا نحوّل هذه الصياغة لأسطورة مهشمة، فيتحول المعتقد الإسلامي إثر التهشيم لإطار رمزي عمومي يشترك الجميع فيه مدركين لضرورة دب الشك والحركة والنفي داخله في محاولة لاقتراب أكثر من الله، ويجعله كذلك نبعا تنطلق منه أنهار التجارب الروحية الفردية كما يرى شبستري، مما يعني تجاوز أي صراع بين الفردي والجماعي.
- جان بول وليم، «الأدين في علم الاجتماع»، ص11.
- تجاوز كثير من علماء الأديان هذه النظرة بعد ما ثبت أن القبائل الطوطمية قبائل معقدة التنظيم وليست بدائية كما ظنها علماء هذا الوقت، مما جعل علماء الأديان يذهبون أبعد في التاريخ لتحليل ظاهرة الدين، مما جعل قضية أن الأخلاق ركن أساس في الدين أمر خاضع للبحث.
- وهي تتنكر له بمعنى نفيه تماما لا بمعني قبول إخفائها، فكما يقول المصباحي في دراسته عن «كانط والمفهوم القوي للتنوير» لا مكان للتقية أو الاغتياب في فعل التنوير العمومي بالضرورة، حيث أن الذات المزدوجة في التنوير، هي ذات يفكر الفرد بمقتضاها باعتباره مواطنا صالحا، وذات يكون بها الفرد إنسانا صالحا، فلا مكان هنا لأي أسرار فردية.
- ايزيا برلين، جذور الرومانتيكية، ص241. بالطبع وكما يرى برلين فإن تأكيد الإرادة قد يكون جماعيا، لكن هذا أيضا يخضع لنفس قواعد رفض العمومية والعقل والأخلاق الكلية.
- شليرماخر، «في الدين، خطابات لمحتقريه من المثقفين»، الخطاب الثاني مطبوع ضمن موسوعة فلسفة الدين لعبد الجبار الرفاعي معنونا «عن جوهر الدين»، ص 63.
- فراس السواح، دين الإنسان، ص39.
- هنري برجسون، منبعا الأخلاق والدين، ترجمة سامي الدروبي، ص289.
- بول تيليش، بواعث الإيمان، ترجمة سعيد الغانمي، ص24.
- ج. ويتلر، الهرطقة في المسيحية، تعريب جمال سالم، ص 15، 16.
- تهشيم الأسطورة عند تيليش يعني أن نفي الأحقية التاريخية والفيزيقية لأسطورة ما لا يعني الاستغناء عن وظيفتها الرمزية، فالأسطورة هامة كتجسيد جماعي لموضوع الهم الأقصى وكذلك كمحرك لتجارب الأفراد.