الدين كما أفهمه – البدايات
ترددت كثيرًا في الكتابة وسط هذا العالم الصاخب، الكثير يتكلم نيابة عن الكثير، والقليل يسمح لغيره بالكلام أصلا؛ فضلًا عن سماحه له بأن يتكلم نيابة عنه. «الأزهري» يرمق بازدراء «هؤلاء» الذين يثرثرون في الدين، ولسان مقاله قبل حاله يقول: جهال تكلموا في غير تخصصهم. ويستحضر مثال الطبيب الشهير «إذا ذهبت للطبيب، أتناقشه فيما كتب لك من دواء؟! فلنحترم التخصصات».
أما «هؤلاء» فينظرون لهذا «الأزهري» نظرات شتى، فهذا يراه تاجر الدين، وهذا يراه امتداد رجل الكنيسة العتيد الذي يظن أنه يملك أراضي الجنة، هذا يراه رمز التسامح والوسطية، وهذا يراه أحد المعاقين ذهنيًا ممن اعتلوا المنابر وأخذوا يحكون للناس أساطير تشبه روايات النداهة والغول. ثم ينظرون للدين نظرات شتى؛ فالطب علم والدين دين، فلا وجه للقياس ولا مجال للتشبيه.
ومن قال أننا صرنا نثق في الطبيب ولا نناقشه، بل نحن نراجع وراءه، ونسأل أصدقاءنا الأطباء عن آرائهم في علاقة الدواء بالمرض، وربما بحثنا وراءه على «جوجل» عن المادة الفعالة في الدواء، وناقشناه. ثم من هو الأزهري؟ هل هو حامل الشهادات والألقاب أم لابس العمامة؟ وهؤلاء ليسوا على قلب رجل واحد، والتفاوت بينهم لا تخطئه عين.
لهذا – وغير هذا – ترددت كثيرًا في الكتابة وسط هذا العالم الصاخب وتوتر النفوس.
عشرات التصورات المسبقة تلاحقك، ومئات الأفكار والمعتقدات الراسخة من هنا وهناك تحكم عليك. تتكلم إجمالًا فيرد عليك الناس تفصيلًا. تتكلم في التفاصيل، فينازعونك نزاعًا يرجع لاختلاف الكليات. نحسن الكلام عن الشيء، ومستمعنا لا يفقه ما هو هذا الشيء؛ بل ربما كان المتكلم بدوره لا يعلم على التحقيق ما الذي يتكلم عنه.
لهذا – وغير هذا – ترددت كثيرًا في الكتابة، فأفضل ما يفعل في هذا الزمان هو الصمت؛ ولكن يقولون البعض يستمع ويريد أن يفهم منك.
إذًا، فليكن حديثي حديث خاص لخاص. فالكلام عن نفسي لمن أراد أن يعرفني؛ فإن كان الجميع يرى أنه يملك تفسير الدين، فلا أقل من أن يكون من حقي أن أتكلم عن الدين كما أفهمه وأراه. فلست هنا مدعيًا أنني أشرح للناس الدين كما ينبغي عليهم أن يروه ويفهموه، بل أتكلم عن فهمي الذي أمضيت فيه سنوات عمري المنصرمة، فإن راقك شاركتني فيه، وإلا فمرَّ بسلامٍ فلستُ أُملي عليك دينك.
نعم، هي رحلة في عقلي أكتبها في صورة مقالات، متصلة منفصلة؛ متصلة المعنى، منفصلة الموضوع، تستقل كل واحدة بنفسها بنوع استقلال، ولكنها تتصل بأختها بخيط رفيع. إن شئت اعتبرتها خطوات في التفكير معي عبر سنوات تعلمي المستمرة، وإن شئت اعتبرتها شرحًا لكيف أفكر وماذا أفهم.
لن أكلمك في المعاني الكلية، ولن أدخل معك في القضايا الجزئية، بل سيكون حديثي في تفاصيل تؤسس لمفاهيم كلية عندي، سأرحل معك لنقطة البداية، فلكي تبصر ما أراه لا بد أن تقف حيث أقف.
البدايات
كانت أول معرفتي بالدين الصلاة والصوم في صغري، ثم بدأت دراسته في سن مبكرة. كانت معلومات كثيرة يستوعبها العقل، مجادلات وآراء، وأخذ ورد. الكل يدعي الحكم بالصواب وغيره يرد عليه، ولكن من حسن حظي أن بدايتي كانت مع إمام كبير.
إنه الإمام القرطبي [ت: 671هـ] المفسر الكبير، صاحب التفسير الضخم المسمى بـ «أحكام القرآن». كان رحمه الله في تفسيره يعرض الآراء ويناقش، فتعلمت أن ثمة (آراء) وثمة (نقاش). ومن هذا النقاش تظهر قوة الرأي، ويقوى الصواب، ويضمحل الخطأ.
ولكن فيم نتناقش؟ وكيف؟ وما الغاية والغرض؟ عرفت هذا لاحقًا.
فأنا كمسلم مسلِّم بوجود الله، وبصدق نبيه محمد (صلى الله عليه وسلم) – عن بيّنة لست في صدد إثباتها الآن – لا إشكال عندي في صدور أوامر ونواهٍ منه سبحانه. وبمقتضى العبودية، سيكون عليّ الالتزام بهذه الأوامر والمنهيات.
ولكن السؤال يكون في مدى «ثبوت» هذه الأوامر منه، وصحة «نسبتها» إليه. هذا ما كانوا يتناقشون فيه، وما يحاولون إثباته. وفي صدد هذا «البحث» يخطو صاحب النقاش خطوات في خطين متوازيين:
الأول: في المصادر التي ستكشف له عنه هذا الخطاب الإلهي له، أين يجده؟ وكيف يصل إليه؟ وكيف سيستوثق منها؟
والثاني: في الأدوات التي سيستخدمها في فهم هذا الخطاب، ما هي؟ ولم هي دون غيرها؟
كانت هذه الإجابات معروفة عند الإمام القرطبي ولكنه لا يفصح عنها، إنه يفكر بها ويستخدمها. أما أنا، فمع الوقت، علمت إجابات هذه التساؤلات عن هذين الخطين.
فالأولى هي التي يسميها فقهاء التراث بـ «مصادر المعرفة»، وهي التي يعبر عنها الإمام النسفي [ت: 537هـ] في مقولته الموجزة: «وأسباب العلم للخلق ثلاثة: الحواس السليمة، والخبر الصادق، والعقل» [متن العقائد النسفية، ص33، ضمن المجموعة السنية، ط. دار نور الصباح –دمشق].
والثانية هي التي ترجموا عنها في علم أخذوه عن الفلاسفة القدامي وعلم استحدثوه، فالأول هو المنطق، والثاني هو أصول الفقه. ولنا عودة إليهما للبيان بإذن الله.
فإذًا مصادر المعرفة التي كان يفتش فيها هذا الإمام هي الحواس السليمة أو الخبر الصادق أو العقل.
ولكن الحواس دائرة بحثها محدودة، فهي تدرك ما كان في نطاقها، أما ما خرج عنه فلا تملك أن تحكم عليه بالوجود أو العدم. إننا لا نستطيع أن ننفي وجود البكتريا لأننا لا نراها؛ غاية ما في الأمر أننا نستطيع نفي رؤيتنا لها لا نفي وجودها، فنقول «لا نراها» ومن الخطأ أن نقول «غير موجودة».
ولكن الخطاب الإلهي لا يدخل – بالنسبة لنا في هذه الدنيا – في دائرة المحسوسات، إنه أمر (غيبي) بلّغه الأنبياء عنه. إذًا، لا سبيل للوقوف عليه إلا بمعرفة ما أخبرونا به، والخبر يفتقر إلى سماع من المتكلم. فإن غاب عنا المتكلم لبعد المسافة أو سبق الزمان، فلا محيص من (النقل) عنه.
ولكن النقل تدخل عليه الاحتمالات وتعتريه الأخطاء والأوهام، فكيف مع تطاول الزمان واختلاف اللهجات والعادات والأفهام؟ وهل كل ما نقل عن الأنبياء صحيح؟ وهل كل ما صحّ عنهم يُفهم كما نُقل؟
سمعتهم في المسجد يقولون: «لا اجتهاد مع نص»، ولكنني كنت أرى الإمام القرطبي يناقش «في النص»، فقلت: وجود النص لا يمنع تفاوت الأفهام. فهتف بي هاتف الشباب – وللشباب حدته – أراك نسيت العقل في مصادر معرفتك، وهل حار أهل النقل إلا بتركهم العقل، أما سمعت وصية الإمام الغزالي [ت: 505هـ] الشهيرة، يوصي تلميذه أبا بكر ابن العربي المالكي [ت: 543هـ]: «الوصية الثانية: أن لا يكذب برهان العقل، فإن العقل لا يكذب، ولو كذب، فلعله كذب في إثبات الشرع، إذ به عرفنا الشرع» [قانون التأويل، ص70، ط. دار السلام – القاهرة].
فهنا ازدحمت المعاني، وتعاركت الأفكار، فإذا بي أمام أقوام متنازعين، يزعم هذا تقديم العقل، وهذا يزعم تقديم النقل، وذاك يقول لا تعارض بينهما.
كان عليّ أن أسير معهم حتى أسمع منهم، فقد تعلمت من الإمام القرطبي أن النقاش يظهر الحق، فلم أعد أقبل الأقوال بلا قناعة، ولا قناعة بلا استدلال، ولا استدلال إلا عن فهم، ولا فهم إلا عن معرفة المعاني التي أبحث فيها، فلتقع البداية بفهم هذه «المصطلحات»: النقل، العقل، النص، والتعارض. فإذا بي أعود لنقطة البداية: فهم المصطلحات.
يمكنني أن أقول أن هنا كانت البدايات.