مع حبي وأشواقي.. «بعلم الوصول»
لا أعتنق تعريفًا محددًا للفن، ولا أظن أنه ينبغي أن يكون له، لكنني أؤمن بشرطين لأي عمل كي يصبح فنًّا؛ أن يكون ممتعًا وأن يثير الخيال، ولقد وجدت «بعلم الوصول»، كما توقعت، ممتعًا، ووجدته، كما كنت واثقًا، يثير الخيال.
اختار «أحمد خير الدين» أن يوضح أكثر عن جمع الرسائل واختيارها وملاحظاته عليها في نهاية الكتاب لا في مقدمته، وهو اختيار موفق وأحببته، ولهذا وإن بدا غريبًا، احذر بالحرق، لأنني أحب للقارئ هذا الكلام مثلما أحب لنفسي.
تثير رسائل الآخرين دائمًا الفضول وتحث رغبتنا غير البريئة في التلصص، وتحتال علينا الوسائل الحديثة باسم السرعة والحقيقة فتحرمنا الخيال، يشبع هذا الكتاب بلا ذنب هذا الفضول ويطلق الخيال في الاتجاه السليم متفاديًا الغرق في نوستالجيا أصبحت تُضاف لكل شيء كالجبن «السايح»، فتقرأ واهتمامك بالدرجة الأولى هو الراسل والمرسَل إليه وما بينها من ناس وعلاقات.
في حوار بين بطلي فيلم «Ex machina» عن الوعي والاختيار يستشهد أحدهما بجاكسون بولوك ورسوماته بتقنية «drip technique» وأنه خلق أعمالًا مميزة كونها ليست متعمدة وليست عشوائية، الاختيار إذن هو ما صنع من الفكرة اللامعة وراء الكتاب عملًا مميزًا، لم يختر أحمد رسائل الكتاب من بين ما يقرب من خمسة آلاف رسالة بإلقائها في الهواء بالتأكيد، لكنه لحسن الحظ تورط عاطفيًّا، يشير في الخاتمة لبعض مبررات الاختيار والتصنيف ويشير سريعًا ضمنها إلى أن أحد الأسباب بالطبع هو ما مسّه بشكلٍ شخصي، والمحصلة التي استشعرتها وأنا أقرأ، رغم تصنيف وتبويب الكتاب، هو جمال ليس متعمدًا وليس عشوائيًّا.
ينطبق هذا على محتوى الرسائل في أغلبها أيضًا، رسائل المشاهير – مهما كانت شخصية- تميل لمحاولات الحبك والإتقان، كأن هناك حسًّا دائمًا بأن آخرين سيقرؤونها يومًا ما، أو أن المرسل إليه على الأقل سيقيمها في نفسه من حيث الصياغة والتعبير، ولكن رسائل «بعلم الوصول» أقرب لما ذكرت، ليست متعمدة وليست عشوائية، ليست متعمدة لإن كاتبيها يبدو انشغالهم بما يريدون أن يقولوا عن كيف يقولونه، بمشاعرهم الصادقة أو أخبارهم المهمة أو رغبتهم في أن يبلغوا المرسل إليه ودًّا وسلامًا، وليست عشوائية لأنها كأي كتابة يسبقها قدرٌ من التفكير والصياغة ولو لثوانٍ، إلا في حالة التداعي الحر والتلقائية التامة، يجمع أغلب الرسائل في الواقع إيقاعٌ مشترك يمكننا أن نسميه إيقاع الرسائل ينساق خلفه المرسلون لأنهم يظنون أن هكذا لا بد أن يكتب الناس الرسائل، حتى أن بعض الكلام – الرومانسي خصوصًا – فيه افتعالٌ لا يمكنك إلا الاستمتاع به، لأنك تعرف أن هذه رسالة حقيقية من شخص حقيقي، إنها الحياة عندما تقلد نفسها وتقلد الفن وتقلد توقعاتك فتبدو كطفل لطيف يقلد الكبار، أو كما قال رفعت إسماعيل لا يمكنك أن تتهم الثورة الفرنسية بأنها ركيكة.
هناك رغبة شبه دائمة وجدتها في الإشارة للكتاب كونه رصدًا للمجتمع المصري عبر السنين، لا أظن هذا دقيقًا، ويبدو لي أولويةً متأخرة وفائدة جانبية، بالطبع تلتفت في الرسائل لبعض التفاصيل لأنها لم تعد موجودة في حياتنا، وتلتف لتفاصيل أخرى لأنها ما زالت موجودة، وتفاصيل لم تتوقع أنها كانت موجودة أو يتخاطب حولها الناس في الرسائل، لكن هذا طبَقًا جانبيًّا وليس الطبق الرئيسي. أجد هذا ضمن الاختيارات الذكية التي أظن أن أحمد خير الدين فعلها، ومهم ألا يتوقع القارئ هذا من الكتاب في رأيي، بالتأكيد منحته آلاف الرسائل التي اختار منها شيئًا من الرصد، وبالتأكيد حاول أن تتضمن الخيارات بعضًا مما رصده، لكن دون أن يشتت هذا روح الكتاب، خاصةً أن حتى هذه المحاولة كانت ستكون معيبة ومنقوصة، فمثلًا وفقًا لخير الدين نفسه في الخاتمة، أن الرسائل في الأربعينيات والخمسينيات أقل من غيرها، وفي ظني أن رسائل الثلاثينيات مثلًا مهما كثرت ستعبر عن طبقة محدودة في ظل انتشار الأمية.
إخراج الكتاب الفني جاء مناسبًا ومضيفًا غير منقِص، وإن كنت أرحب بتنوعٍ أكثر في التفاصيل تعطي لكل رسالة خصوصيتها، ولكن ربما تم تجنب هذا ليبقى التركيز على المحتوى، كنت أحب أيضًا أن أرى نماذج للنصوص وخطوط أصحابها وطوابع البريد وربما حتى بعض الصور؛ ولكن الحفاظ على الخصوصية جعل هذا صعبًا كما حتم تغيير الأسماء.
أحببت دومًا القصة الآتية: بالقرب من سلة مهملات مصرية قديمة في الدير البحري؛ عُثر في عشرينيات القرن الماضي على مجموعة من البرديات الفريدة اللافتة، كانت تلك مجموعة رسائل من نهاية عصر الفترة الأولى المضطرب (عصر الاضمحلال الأول) أرسلها الكاهن حقًا-نخت المشرف على أوقاف الوزير إيبي في طيبة إلى ولده مرسو، يطمئن فيها على البيت وأحوال العمل الذي تركه الكاهن وسافر عدة شهور إلى الشمال، تبدو الرسائل كثقب فيما تحجبه جدران المعابد والمقابر المهيبة للحكام في مصر، يطلعنا على حال أسرة من طبقة أخرى بخلافاتها، ومشاكل جارية الأب المفضلة وصغيرِه المدلل، وتفاصيل العمل والبيع والشراء وشكوك الأب الموسوس بأن مرسو سيفسد دائمًا كل شيء، هذه البرديات شهيرة ومهمة لعلماء التاريخ والمهتمين بالمصريات، لكن الجميل للجميع هو الخيال الذي تثيره، كيف كانت الردود؟ ماذا حدث بعد هذا؟ لماذا احتفظ بها الابن معًا؟ ولماذا وضعها حيث وجدت؟ هل كان حقًا -نختًا مصابًا بالوسواس القهري؟ حتى أجاثا كريستي وضعت نسختها من هذه التخيلات في روايتها الوحيدة التي وضعت أحداثها خارج القرن العشرين «الموت يأتي في النهاية»، «بعلم الوصول» ليس كتابًا للباحثين عما جرى للمجتمع المصري أو المصريين، إنه كتابٌ إنساني ممتع أُعد للجميع، فشكرًا لأحمد خير الدين لأنه مال، أو هكذا شعرت، لهذا الجانب، وسلامي للجميع…